“روسو” فيلسوف الطبيعة الإنسانية ومؤسس الحريات في العصر الحديث


أ.د. بركات محمد مراد


خاص ( ثقافات )


جان جاك روسو Jean Jacques Roussa أحد نوادر الفلاسفة الذين عاشوا أفكارهم وخبروها قبل أن يكتبوها في مؤلفات مقروءة ، والذين شغلوا معاصريهم في أثناء حياتهم ، وظلوا يشغلون بال العالم بعد مماتهم. فهو الكاتب والفيلسوف والأديب والسياسي وصاحب نظريات في التربية ومعرفة أغوار النفس البشرية ، والذي جعل للعواطف الطبيعية قيمة في استيحاء الأفكار مؤكدا جانبها .وقد كان لطريقته في رواية تأملاته واعترافاته وتسجيل انطباعاته تأثيرا قويا في الحركة الرومانسية الأوربية في الأدب والفن منذ ثلاثة قرون مضت ، تلك التي بدأت في أواخر القرن الثامن عشر ، وازدهرت بظهور كبار ممثليها من الشعراء والكتاب والمؤرخين في أوائل القرن التاسع عشر.
ولد روسو في عام 1712 ، وتوفي عام1778 أي قبل الثورة الفرنسية بإحدى عشرة سنة ، حيث عاش في مرحلة نهاية العصور الوسطى الأوربية بين السلطة السياسية الملكية والسلطة الدينية الكهنوتية وترف وامتيازات النبلاء والإقطاعيين ، وكانت بوادر انهيار هذا العالم القديم بسلطاته بادية للعيان ، وكان لرسو الذي قاسي شدائد هذا العصر وتمرس بأحداثه تأثير واضح في تقويض أركانه وهدم بنيانه. 
نشأته :وقد ولد روسو في مدينة جنيف التي تركها في السادسة من عمره متوجها إلى مدينة سافوا ثم إلى باريس التي استقر بها عام 1742 وكانت نيته دراسة واحتراف الموسيقى ، ولكنه عاش واقعا صعبا حتى قابل “ديدروت(1748) ، وبدأ ينشر مقالات حول الموسيقى في الموسوعة الحرة. وقد حفلت فرنسا في ذلك الوقت بطائفة من نوابغ الكتاب والمفكرين في عالمي الأدب والفلسفة فضلا عن الاقتصاد وحقول الثقافة الإنسانية الواسعة. ولكن عصر الملك لويس الخامس عشر ساد فيه الفقر وناء فيه المزارعين والتجار وذوي الدخل المحدود بأعباء الضرائب ، بالرغم من الامتيازات الممنوحة للإقطاعيين والنبلاء ، مما دفع إلى قيام الثورة الفرنسية كنتيجة حتمية لكل هذه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية ، وكان روسو من المساهمين الأساسيين في سرعة قيام هذه الثورة واندلاعها . 
وقد قضى الفترة بين سنتي 1738 ـ 1739 أي وهو في نحو السادسة والعشرين من عمره في منزل بأعماق الريف في واد جميل ، وكانت هذه الفترة من أخصب وأجمل فترات حياته ـ كما يخبرنا في اعترافاته ـ حيث توّفر في تلك العزلة على القراءة والاطلاع الحر غير الموجه ولا المقيد بمدرسة أو اتجاه أو مذهب. فقرأ الكثير من الكتب العلمية والفلسفية والدينية ، وقد أطلع على آراء كثير من الفلاسفة القدماء والمعاصرين خاصة أفلاطون وأصحاب المدارس القديمة وهوبز ولوك ومنتسكيو وديدرو من المفكرين المعاصرين له، وكانت له قدرة عجيبة على الاستفادة من آراء الغير واستيعابها إضافة إلى اتصافه بعمق الوجدان وصدق عبقريته في تكوين آراء جديدة ومميزة يُنشأها إنشاء ، سواء في الشعر أو الدين أو الاجتماع أوالتربية. 
ولذلك حين فرغ لتكوين آرائه عن الحياة والكون والإنسان ، تلك التي استخلصها من تجاربه الكثيرة والعميقة ومشاهداته العديدة وإطلاعه الواسع والمتنوع ، جاءت هذه الآراء فريدة وطريفة شكلت اتجاها فلسفيا وأدبيا يتميز به بين مفكري عصره. وهذا كان واضحا في تلك المؤلفات التي تركها ، وكذلك في اعترافاته وسيرته الذاتية التي سجلها بأمانة كبيرة ودقة بالغة على الرغم مما إعتورها من آثام كثيرة وحماقات متعددة. 

(1)
والعجيب أنه قارب سن الأربعين دون أن يكتب شيئا أو يلمع نجمه في سماء الشهرة ، التي كان يستحقها ، ولكنه في خلال ذلك صمم على أن يعيش على الأسلوب والنهج الذي آثره لنفسه ودعا إليه في مؤلفاته ، فلم يستطع الفقر ، ولا غموض الشأن والعجز في الحياة العملية ان يفقده استقلاله ، فكان في مختلف حالاته رجلا عاطفيا شديد الحساسية ، يقول في وضوح ما يناجيه به قلبه ، وما يخطر بفكره ، في غير مبالاة بالمدح والقدح ، مما جعل معاصريه ينفرون منه ويتحاشون لقائه ، وكثير منهم من عظماء المفكرين والأدباء مثل ديدرو Didrat ودالمبير D alember وفولتير Voltair ، وبعضهم صادقه حينا من الزمن ، ولكنهم كانوا يُصدمون بآراءه وأفكاره وصراحته العارمة .
مفكر مختلف : لقد كان رسو إنسانا ينطلق من المحبة والرغبة في عالم أفضل ، وكان مفكرا باحثا عن العدل الاجتماعي المفقود ، عطوفا على الفقراء والضعفاء ، فعندما أشار في مؤلفاته إلى أن الإنسان ولد حرا ولكنه الأن ، في كل مكان مقيد بالسلاسل ، كان ينطلق من موقف إنساني جوهري توصل إليه كل النابهين من البشر. 
وعلى الرغم من كل الظروف الاجتماعية الضاغطة التي عاشها لم يكن روسو ناقدا سلبيا حقودا مكتفيا بالنقد والهدم دون البناء ، ففي دعوته يرى ان سبب شقاء الإنسان هو التعارض بين واجباته وميوله ، بين الطبيعة ومتطلبات المؤسسة الاجتماعية ، وبين الإنسان الفرد والمواطن الذي ينتمي لأمته ، وهذا يمثل انشطارا يولد صراعا مع نفسه ، ويتطلب لرفع هذا الصراع موقفا أخلاقيا شجاعا يتناسب مع هذا الوضع الجديد ، فإذا كان الإنسان في نظامه الطبيعي الأصلي ، يعيش لذاته ، وكان صالحا في ذلك الوضع ، فإنه يتطلب منه الآن ، ان يكون إنسانا أخلاقيا ، ينتمي إلى قانون الدولة الأخلاقي ، يقوم بواجباته تبعا لهذا ، ضمن عقيدة مدنية تجعل منه عضوا في المجموع ، يصبح صالحا سعيدا ، لأنه يجمع بين شعور الإنسان التقي بذاته ، وهو في الوقت نفسه يتمثل فيه المواطن الصالح ، فتتحقق له متعتان ، هما أنه ُيحب ويحب. 
مؤلفاته : تشكلت مكانة روسو الفريدة في عالم الأفكار من خلال عرض أفكاره في منشورات مثل”خطب حول العلوم والفنون” و”خطب عن أصل وأسس عدم المساواة بين البشر” . ومن أشهر أعماله”إميل أو عن التربية” الذي عبّر من خلاله عن قناعته بوجوبية الاعتماد على تنمية السمات الطبيعية لدى الطفل بدلا من محاولة تغييرها نحو ما نعتقد أنه الأفضل . بالإضافة إلى تدعيم المعرفة من خلال التجارب الملموسة وليس النظرية. 
إلى جانب هذا هناك أهم كتبه والذي أسس به الديمقراطية في العصر الحديث وهو كتابه “العقدالاجتماعي” الذي نادى فيه جان جاك روسو بأن ينظم الشعب الحياة الجماعية بين أفراده على أسس من التعاقد . وهو ما ألهم الثورة الفرنسية بعد وفاته ، وكان الثوار الفرنسيون من مختلف التيارات يستندون لأفكاره على اختلاف درجة ثوريتهم ، بل كان المفكرون الذين الذين تبنوا مواقف مناهضة للفكر الثوري يستندون أيضا لأفكاره ويشهدون له أمثال “جوزيف دو ماشد”(1753 ـ 1821) ولويس جابريل دوبونالد(1754 ـ 1840) بل يعتبره”آرثر شو بنيير” “أعظم كتاب العصر الحديث . أثرت كتاباته بقوة على الفكر الثوري واحتفى به ، بخاصة بفضل أعماله حول الإنسان والمجتمع والتربية.
ويعتبر كتاب روسو “عن العقد الاجتماعي” معمقا لتفكيره عن تشكل المجتمع وعن الشكل السياسي الذي يهيمن عليه، وشارحا لكيفية الانتقال من الأفراد المنعزلين إلى الدولة. فالأمر يتم بعقد اجتماعي ضمني ودائم حيث يتنازل كل فرد ويرضى بالتنازل عن جزء من ذاته لكي يتكون كل أعلى من الأفراد أي الجمهورية . لكنه لا يتنازل عن حريته الطبيعية إلا من أجل الحصول على واحدة ثانية : هي الحرية المدنية التي تشكل الحال التي يطيع فيها الشعب السيد إرادته الخاصة ضد إرادة سيد ما ، 

(2)
وهي الإرادة العامة التي يكوّنها هذا العقد بمصالحة الحياة في المجتمع مع الأفراد ، ومصالحة الحرية والمساواة . 
وبعد أن يحلل روسو الأنظمة السياسية المتنوعة ، يعطي الأفضلية إلى الجمهورية ويعلن “كل حكومة مشروعة هي الجمهورية” . من هنا نفهم لماذا منحه الثوريون الفرنسيون ذلك الولع كله الذي كاد يصل إلى حد التقديس. ومن اللافت للنظر أنه أتم كتبه جميعا في عشر سنوات ، ولم يكتبها إلا بعد سن الأربعين . 
وكان من أشهرها كتابه “الويز الجديدة” Le Nouvell Heloise وهو الكتاب الذي نبه على مكانته وأذاع شهرته ، وكان له تأثير كبير في تطوير كتابة الرواية ، وقد كتبه وقد قارب الخمسين من عمره ، ثم كتاباه الهامان العقد الإجتماعي” Le Conteac Social والذي صار يعد إنجيل الثائرين الفرنسيين ومرجع الديمقراطيين في القرن التاسع عشر ، وكتابه”إميل”Emile والذي أوضح فيه آراءه في التربية والدين. 
وعلى الرغم من أن هذا الكتاب الأخير قد جلب له الشهرة ، إلا أنه جر عليه أيضا المصائب والأهوال حيث قدم روسو طريقة مثالية لتربية الأطفال اعتمادا على الحرية والسنن الطبيعية في تربيتهم ، وعنده أن تعويد الأطفال على تلقي الأوامر والخضوع للنظام يجيئ إما بالعبيد الأذلاء وإما بالطغاة العتاة ، والأسلوب السليم في التربية هو منح الطفل الحرية الممكنة ليتعلم من التجارب وليبني خبرته من الحياة الطبيعية.
ولا نزاع في أن روسو ، سواء كان موفقا أو غير موفق في كشفه عن مساوئ الحضارة وتحليله لأسباب شقاء الإنسان ، كان شديد التوق إلى الخير المثالي ، عميق العطف على الفقراء والمحرومين ، وأقوى شعورا من كتاب عصره بجمال الأخلاق وروعة الطبيعة الإنسانية . ولقد كان لا يلتمس الرحمة للفقراء فحسب، وإنما يطالب من أجلهم بالعدالة الاجتماعية باعتبارها حق من حقوقهم ، قد غلبهم عليها الطغاة المستبدون وحرموهم من مزاياها .
نظرية العقد الاجتماعي : وتأتي أهمية كتاب “العقد الاجتماعي” من الفكرة الأساسية التي تمثل محورا لهذا الكتاب حيث يرى روسو أن سعادة كل فرد هي سعادة للجماعة ، فثمة عقد اجتماعي يصلح هذا الفساد الذي طرأ على حياة البشر ، اجتماعيا وسياسيا. ويتأسس هذا العقد على فكرة ان حرية الإنسان حق لا يمكن التنازل عنه . ولكن الإنسان محتاج لغيره. إذن لابد من البحث عن عقد يتحد فيه الإنسان مع الآخرين وفي الوقت نفسه يحافظ على هذه الحرية ، عقد يضع كل فرد نفسه تحت تصرف الجماعة ، وتحت القيادة العامة. 
وهذا التنازل من جانبه إنما يكون للجماعة وليس لصالح فرد أو أفراد معنيين. إن كل فرد هو طرف في هذا العقد يفيد ويستفيد فهو في هذا العقد يمثل الطرفين المتعاقدين ، فإذا كانت العقود المبرمة تكون بين طرف أول وثان ، فإن كل إنسان ضمن هذا العقد يحافظ على حريته التي تتأكد ببروز القيمة الثانية التي يجب توفرها : المساواة ، وتحقيق المساواة من خلال القيمة الثالثة التي يحققها القانون : العدل. 
إن هذا العقد يواكب النقلة الإنسانية ، من الحالة الطبيعية الغريزية إلى الحالة الاجتماعية الأخلاقية ، لا يخضع لغرائزه مباشرة ولكن إلى قيمه الأخلاقية. وهكذا ينتبه روسو إلى موقعين لبني البشر : الإنسان كما ُخلق ، الذي يحيا لذاته فقط ، والإنسان المدني الذي يندمج في الجماعة . قال روسو هذه الأفكار في مؤلفاته ، فكانت جائزته القبض عليه بتهمة الإثارة والتحريض ضد النظام والقانون والتقاليد ، ففر إلي سويسرا حيث نشأ أول مرة يُطرد منها ويعيش مشردا لقوله كلمة حق قد أدركها بثاقب فكره وعّبر عنها بكل وضوح.
_______

*أستاذ
الفلسفة الإسلامية / قسم الفلسفة والاجتماع /كلية التربية ـ جامعة عين شمس


شاهد أيضاً

العولمة بين الهيمنة والفشل

(ثقافات) العولمة بين الهيمنة والفشل قراءة في كتاب “ايديولوجية العولمة، دراسة في آليات السيطرة الرأسمالية” لصاجبه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *