طفلة في حالة الشعر: هل للأدراج والأبواب والشبابيك دموع؟


*محمد الأسعد



كنّا في الطريق إلى زيارةِ أناسٍ مزعجين، من وجهة نظر الأطفال. فبيتهم يخلو من الألعاب والفضاء، بيتٌ شبيه بآلاف البيوت، متماثلٌ لا يثير توقعاً. وقبل ذلك كان الأطفالُ قد ذهبوا إليه واكتشفوا ممكناته، فما عاد يثير رغبتهم، الطريقُ الطويل إليه، ولا هذه الرحلة المألوفة.
وفجأة طرحت الطفلة الصغيرة اقتراحاً، ودار هذا الحوار:

قالت: لا داعي لرؤيتهم، دعونا نسلّم على الباب والدرج، وهما يسلمان عليهم.

قلتُ: وإذا لم يوصل الباب والدرج سلامنا؟
قالت: نضربهما، فيبكيان.

قلتُ: هل رأيتِ درجاً يبكي؟
قالت: نعم، وتزحلقتُ بدموعه
دهشتُ بالطبع، فبالرغم من علمي أن الأطفال يقولون الشعر أحياناً، فإنني لم أتوقع أن يتحول حوارٌ كاملٌ إلى نوع من الشعر، وبقناعة تامة جعلت الطفلة تنطق بأفكارها من دون تردّد أو رقابة، بعكس الكبار الذين يكتبون الشعرَ وينثرون فيه شكوكهم بين سطر وآخر، ويراقبون أنفسهم، وكأنهم غير مقتنعين بما يفعلون.
ألا نلاحظ أن اليأس من الشعر هو من سمات الكبار؟
قالت الطفلة الشعر، ومن دون تفسير أو شروح واصلت اللعبة حتى النهاية. وكان من الممكن أن تمضي مع خيالها الشعري إلى ذلك الباب والدرج وتسلم عليهما فعلاً، أي أنها كانت ستعيش الحالة الشعرية حتى النهاية.
وتساءلتُ: هل أستطيع استكشاف معنى الشعر من هذا الحوار؟ أو هل تحققتْ في هذا الشعر شروطُ الشعرية أو بعضها؟
نبدأ من ملاحظة الحالة التي أطلقت هذا الفيض من الخيال الذي غيّر للحظاتٍ أشياء كثيرة في العالم من حولنا، وفي داخل أنفسنا.
أول ملامح هذه الحالة، هو إحساس الطفلة بالضيق من رحلة مفروضة عليها، من افتقارها إلى تلقائية الرحيل، كل ما حولها يقودها إلى تجربة تعرف بالذاكرة أنها عقيمة. إنها لا ترغب في الرتابة.
ثاني هذه الملامح أن فعالية الطفلة تكاد تكون صفراً في وضعية مفروضة كهذه، فهي جسدياً مساقة إلى وضعية لا ترغب فيها، ومع ذلك فإن فكرها يلحّ عليها للاحتجاج، واقتراح بديل يعيد إليها توازنها المهدَّد بهذه الزيارة غير المرغوب فيها.
الإقامة على الأرض، وفي نطاق الجاذبيات المختلفة للعلاقات والأسماء والأشياء، هي نوع من القسر الذي يتعرض له الإنسان، ولكن هذه الإقامة لا تبدو بالنسبة للأطفال شيئاً حتمياً مثلما تبدو للكبار بحكم نضجهم، وبحكم يأسهم أحياناً. إذاً، ثمة ثغرة يشتقها خيالُ الصغير لتذكيرنا بإمكانات أخرى، الحتمية ليست مبدأ، بل وضعية خارجية معطاة.
* * *

أين هو الشعر في هذا الحوار؟

هنا أفكار شعرية عدة – والشعرُ بالطبع أفكارٌ تدلّ على نحو خاص- تتسلسلُ واحدة بعد أخرى بتحريضٍ من الردِّ الذي تتلقاهُ الطفلة. ولو افترضنا أن هذا الردّ يحتفظ بتآلفهِ مع استعدادات الطفلة، لاستطعنا أن نستنتج أنه سيكون قادراً على استدعاء طاقتها الشعرية، فالكثير من الردود لا يكون من جنس جغرافية عقلية الطفلة، ولهذا يفشل في التواصل معها، أو إيصالها إلى حالة التدفق. الأفكارُ الشعرية هنا تنبثق من جدلٍ مع ردود فعل ملائمة، أو قادرة على استثارة حسّ المشاركة، أما في حالة الردود المحبطة أو المتسرعة، فإن الصمت هو ما يكون.
في حالة الكبار، تتخلق حالة الردّ على الآخر أو الحوار الداخلي بقوة، وقد يصطنع الشاعرُ محاوراً أو يتصور مجموعة ردود فعل وأقوال، بمعزل عن الناس الآخرين، لاستثارة طاقته الشعرية. ولكن الصغار يصغون جيداً إلى العالم من حولهم، ويتهيّأون لاستقباله.
نبدأ من الانبثاق الأول؛ من السلام على الدرج والباب. هذه فكرة شعرية، لأنها تحقق «انحرافاً» عن مسار منطقي لعلاقاتٍ بيننا وبين الأشياء. وقيمة هذا الانحراف أنه ليس مجانياً، إنه محاولة للخلاص من وضعية تضايق الطفلة، أعني اضطرارها للسلام على الناس الذين لا تتوقع أن يكونوا مثيرين لطاقتها الفكرية والعضوية. وتستهدف هذه المحاولة إيجاد توازن مقابل أمر يهدّد بإحداث خلل نفسي.
ولكن ماذا لو لم تستجب الأشياءُ لمحاولتنا؟
سنقوم بفعلٍ ما نابعٍ من قناعة بأننا دخلنا في علاقة ما مع الدرج والباب، فلا مهرب لهما من تلقي ردود الفعل. فما داما قد رفضا، أي ما دامت قد بدرت منهما بادرة مشاركة بتشجيع من رد فعل المحاور، فما الذي يمنعنا من المضي في «اللعبة» إلى نهايتها؟
سنضربهما إذاً. وهذه هي الصورة الشعرية الثانية، دلالة على الإغراق في الحدث الخيالي. وسيبكيان أيضاً، دلالة على أنهما استجابا لحاجتنا النفسية وقاما بدورهما. العالم يتغير هنا بفعل إنساني. وبقولنا للطفلة: هل رأيتِ درجاً يبكي؟ لم نرفض الفكرة، لم نضع جداراً بين الممثلة والمسرح، بل استثرنا منطقة ما في الذاكرة ربما، استثرنا هذا الجواب: نعم، وتزحلقتُ بدموعه.
بعد هذه الصورة الشعرية الأخيرة، لا نجد ضرورة لإكمال الحوار، لأنه أساساً لم يكن يستهدف الوصول إلى نتيجة محددة، نقدية مثلاً، ولا كان هدفه كشف لا معقولية تفكير الطفلة، بل منحها فرصة للكشف عن أغوار حركة خيالها، أو حركة الحالة التي وجدت نفسها فيها.
لقد ساعدها هذا الحوار على عرض الأفكار الشعرية تدريجياً، جزءاً فجزءاً، ولكن أي من هذه الأفكار لم يكن مجرد أجوبة تقريرية من نوع..لا.. أو نعم، بل كان صوراً حركية/‏‏‏‏بصرية، لأن الطفلة ذهبت فعلاً إلى الدرج والباب، وشاهدت نفسها تسلّم عليهما، وضربتهما وشاهدتهما يبكيان. ووفق خبرتها الشعورية، سبق لها أن جربت رؤية دموع الدرج. وتأكيداً لهذه الحقيقة فقد تزحلقت بدموعه. في الحلم ربما، في استثارة الدوافع الخفية التي تطلق رموزاً، تغير من حولنا مشهد العالم، وتحوّله.

* * *

تسلسلت الصورُ، وها هي بمجموعها اجتراحُ وضعية لا تخضع للمنطق الواعي، إنها تخضع لمنطق مختلف وتسير معه. هذا المنطق لا يوجد إلا في الشعر بأشكاله المختلفة، في قصيدة، في رواية، في لوحة تشكيلية، في مقطوعة غنائية.. إلخ. وفي مثل هذا المنطق نصبغ على الأشياء صفاتٍ إنسانية، ونعاملها كموجودات حية، إن كانت من طبيعة غير حية. ويتميّز هذا المنطق في أنه يصدر عن بداهة، لا تبرير ولا توسط لأي شكل من أشكال الشرح والتفسير، ولا حتى الشك في أن هذا المنطق قد يكون غير معقول أو مقبول. ومن البداهة، وبناءً عليها، يتخذ الناسُ وتتخذ الأشياءُ سلوكاً مختلفاً، وكأنهم وأشياءهم يتحركون تحت شمس أخرى، وتهبّ عليهم رياحٌ مقبلة من عوالم أخرى. وربما تتغير ألوانُ الناس والأشياء، كما
يحدث في اللوحات التشكيلية، وربما تتغيّر الأطوال والأحجام.

هو فعلُ التغيير إذاً، والتعبير عن فعالية حركية يمارس خلالها الإنسان دوراً، ولا يظلّ منساقاً في وضعية حتمية. كل شيء ممكن. وما دام الأمرُ كذلك، فلا حدّ لآفاق هذا الوجود الذي يبدو ضيقاً ورتيباً أحياناً، أو في أغلب الأحيان. إنه في لحظة تهيّؤ للتغير، بمجرد أن نكتشفه ونكتشف ممكناته أو ممكناتنا بالأحرى.
أهذه هي متعة الفن، إطلاق شتى الممكنات؟ ولكن ما ينطلق هنا أو يستثار هو طاقة ما، طاقة التصور الإنساني، تلك التي تنمّي فكرتنا عن أنفسنا، وتمرّن الروح على اجتياز الظاهر إلى الخفيّ.
لا تزال صورة الدرج الذي يبكي والطفلة التي تتذكر أنها تزحلقت بدموعه عصية على التفسير. إننا ندور حولها ونتحدث عن الممكنات وضيق الإقامة على الأرض. ربما كان التفسير هو الحالة المضادة؛ حالة خارج الشعر ومدائنه غير المعقولة. ليس صحيحاً أن من الممكن تشريحه، بل من الممكن كتابة شعر إضافي على هامشه.

* * *

قلتُ إن الشعر أفكارٌ، ولكنها أفكارٌ متميّزة، شيءٌ ما في المركز من هذه الأفكار، في نواتها، يجعلها شعرية. وكثيراً ما تصادفنا أشكالٌ شعرية تتصف على السطح بصفاتِ الشعر التي أشرنا إليها، ولكن إحساسنا بأن نواتها غير شعرية يجعلنا نميل إلى القول إن هناك خدعة ما تمرّر نفسها تحت أنظارنا؛ هناك رجلٌ يحاول أن يكون طفلاً، أو هناك عادة من العادات المكرورة تحاول ارتداء زي عصري، أو سلسلة من التقارير تحاول أن تكون أحلاماً.

حين يختفي هذا المركز، أو تضمحلّ هذه النواة، تصبح الأفكارُ مما تقترحه العلومُ والمعلوماتُ والأخبارُ، فالشعر لا بديل له إلا الشعر نفسه. وليس الأمرُ في ما تثيره فينا الأفكارُ الشعرية من عواطف أو مواقف وانحيازات، بقدر ما هو في ما تبادلنا إياه من مكافآت، وتقبل مكافآتنا؛ أعني رحيلنا إلى عوالمها وإطراح مكان إقامتنا أو الإحساس بأنه مؤقت وعابر، أو نصحو عليه فجأة، فإذا هو محدود ذو حواف، وضيّق إلى حدّ كبير.
الشعور بالحافة يمكن أن تنقله إلينا الاكتشافاتُ العلمية لوضعية الإنسان، ولكنه لا يشكل حالة وجودية تجعلنا نغيّر من عاداتنا. وحده الاكتشاف الشعري العميق، هو ما يجعلنا نتعلق بتلك الأقاصي التي تلوح من بعيد. ونحن نأخذ من الشعر هذا الوعد باتساع العالم وثرائه وعمقه.
مع مكافأة الشعر، نضيق بالغايات والأهداف، ونشعر بأننا أعمق مما كنا نظنّ، وأشدّ رسوخاً من هذا الزوال، أننا نقترب من حالة الحجر والشجر والمطر، تلك الموجودات الغارقة في التاريخ بلا ولادة ولا موت، كأننا نخترق، مبتعدين عن الحافة، دورة الميلاد والموت، ونعرف أن فينا جزءاً يستطيع الخلاص من هذه الدورة، يستطيع إرجاءها أو تأجيلها أو الحياة من دونها.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *