الرباط : خالد حماد
الكاتبة والناقدة المغربية زهور كرام، واحدة من الأصوات اللافتة في عالمنا العربي، بدأت مشوارها بكتابة اليوميات والمقالات، ثم اتجهت إلى كتابة الرواية ودراسة وتدريس النقد الأدبي. قدمت للمكتبة العربية عددًا من الأعمال، منها: “جسد ومدينة”، رواية، 1996، “سفر في الإنسان”، نصوص، 1991، “السرد النسائي العربي – مقاربة في المفهوم”، نقد، 2004، “مولد الروح”، مجموعه قصصية، 2008، “الأدب الرقمى”، نقد، 2009، وغيرها.
في حديثها عن البدايات، وماذا يتبقى منها في ذاكرتها، وهل أضافت الناقدة إلى المبدعة، تقول زهور كرام : بدايتي مع الكتابة، كانت منفلتة من كل قرار، أو تخطيط. بدأت بطريقة تلقائية، مع كتابة اليوميات كل مساء، والتي أعتبرها محطة مهمة في تاريخ علاقتي بالكتابة، لأنها منحتني القدرة على الكتابة كل يوم، وعلمتني تسجيل الملاحظات اليومية، وإبداء الرأي فيها.
وقبل اليوميات، وبعدها، كانت القراءة عندي ممارسة يومية، وعندما أعيد التفكير في علاقتي بالكتابة، أجدها وقد بدأت مع القراءة، ذلك لأني كنت أكتب رأيي في كل ما أقرأه، وعندما أعود اليوم إلى كتب قراءاتي، أجدها موشومة بملاحظات وتعليقات، تُوثق لتاريخ نمو موقفي ورأيي في المعرفة والمجتمع والناس والعالم.
لهذا، لا أفصل الكتابة عن القراءة، القراءة كتابة، كما أن الكتابة قراءة. هما فعلان متفاعلان فيما بينهما، وعندما يتحققان بهذا الوعي التفاعلي، فإنهما ينتجان بعضهما.
كتبتُ الإبداع قبل النقد. كانت القصيدة أولى الخطوات في عالم الكتابة، ووضعتُ ديوانا، وأنا تلميذة قبل الجامعة، وأذيعت مجموعة من قصائدي ببرامج إذاعية حول شعر الشباب، غير أني وجدتني أتخلى عن كتابة الشعر، في مرحلة الجامعة، إذ بدأت أرتبط أكثر بالسرد. فكانت روايتي الأولى “جسد ومدينة”، وقبلها كنت قد بدأت – وأنا طالبة- أنشر مقالات، وأنجز حوارات وملفات ثقافية.
أما النقد، فقد بدأ أولاً من تخصصي الأكاديمي، لكني، لم أدعه قيد البحث الأكاديمي، إنما جعلته ينتعش بمساحة الإبداع.
لا يمكن للدرس الأكاديمي أن يُؤمّن – وحده- تحقق النقد، الدرس الأكاديمي يمنحنا الوعي بثقافة النقد، وبنظرياته، ومفاهيمه، ومنطقه.
علاقتي بالإبداع، تبدأ من الحالة التي أعيشها بصدق، والتي تضعني في وصال شفيف مع زمن التخييل. لهذا، لا أستحضرني كناقدة، وأنا أكتب رواياتي، لأني حينها، أكون منتشية في الحالة. غير أن علاقتي بالنقد، يمكن أن تشتغل بشكل ضمني، وبطريقة لا واعية في عملية تدبير بناء رواياتي، ألسنا نكتب بدعم من ذاكرتنا؟
وعن ارتباط الأدب بالتحولات السياسية والاجتماعية، تقول زهور كرام: الأدب شكل تعبيري رمزي عن مختلف التحولات التي يمر بها الإنسان. يبدأ تعبيرا تشخيصيا لعلاقة الإنسان (الفرد،المجتمع) بالواقع والعالم، وعندما يتحقق مادة رمزية وفنية وجمالية فإنه يتحول إلى وسيط لإنتاج وعي بهذه التحولات.
بهذا المعنى، فإن الأدب -تاريخيا- هو حاجة اجتماعية وتاريخية وحضارية بامتياز، ولا يمكن التشكيك في شرعية ووظيفية هذه الحاجة الإنسانية. وعندما نعود إلى علاقتنا بالحضارات السابقة، سنجد الإبداع بمختلف تجلياته، كان الوسيط بيننا وبين مجتمعات وشعوب تلك الحضارات، ولعل الأمر يبدأ من فلسفة الأدب باعتباره خزانا رمزيا لمعنى وجود أفراد مجتمع، لهذا ستظل الحاجة إلى الأدب، ضرورة فلسفية، من باب كون الإنسان ينشد فلسفيا الخلود عبر ترك أثره، الذي يأتي على شكل رؤيته للعالم.
لكن، أهمية الأدب، لا تتجلى فقط في هذا البعد الفلسفي- الوجودي، إنما في دوره في إنتاج وعي بما يحدث. إنما، هنا لا بد من التأكيد على أدبية الأدب، ليس كل تعبير له القدرة على إنتاج هذا الوعي، عندما يسقط التعبير في الانعكاس، والتقريرية، وينتج حالة مباشرة للواقع، وللتحولات الاجتماعية، في هذا المستوى، لن يشكل التعبير الأدبي ضرورة بالنسبة لإنتاج وعي بما يحدث.
الحديث عن علاقة الأدب بالتحولات الاجتماعية، هو حديث متعدد الأبعاد، يبدأ أولا من ضرورة أن يكون الأدب أدبا، وأن يكون مستوى التشخيص مبدعا، ولا يتم العبث بلغة الإبداع ونظام الأدب وقبل ذلك ألا يُزيَف الكاتب زمن الكتابة الإبداعية.
كلما ابتعد الأدب عن منطقه، الضَامن لأدبيته، والمُحصَن لهويته التخييلية، ابتعدنا عن الأدب باعتباره منتجا لوعينا بحياتنا. من هنا، يحضر دور الأديب والمثقف وكل مشتغل بالتعبير الرمزي والسؤال الفكري، في ضرورة الوعي بأهمية الخطاب التعبيري في تدبير الوعي الجماعي، وهذا يُحتم ضرورة الاهتمام بخطاب الأدب، وعدم العبث به، لسبب بسيط، كونه يشكل معنى وجودنا للحضارات القادمة.
وعن دور المبدع والمثقف في الحياة السياسية والاجتماعية، تقول زهور كرام: أكيد، للمثقف والمبدع وظيفة تاريخية، بناء على مهمة الثقافة والأدب في صياغة التصورات والتمثلات.
لكنه دور غير مرتبط بالمناسبات، والأحداث الطارئة، إنه عبارة عن تفكير مستمر في التحولات بناء على معطيات وأفكار ومفاهيم ومجموعة من المؤشرات التي ينتبه إليها المثقف، ويشتغل بها فكريا، بتحليلها، وربطها بمعطيات أخرى.
يسمح هذا الوجود الدائم للمثقف قلب التحولات والأحداث، بالقدرة على تفكيك المستجدات، وإعادة ترتيبها، لكي ينتج منها نظاما معرفيا منتجا للفهم والوعي. دون أن يعني هذا، مطالبة المثقف بإيجاد حلول لمشاكل وأجوبة لأسئلة، إنما دوره يكمن في تحليل المؤشرات، وتنظيم الفوضى، وإيجاد المعنى.
عربيا نعيش اليوم أكثر من السابق حياة سياسية مرتبكة، ترافقها فوضى في التصورات، وغموض في المفاهيم، وارتباك في الأفق، يتزامن ذلك، مع منطق الزمن التكنولوجي الذي منح للمجتمعات العربية مساحة مهمة للخروج من سلطة المرجعية الواحدة للرأي، فقد أصبحنا نرى الشعوب العربية تعبر بطرق متعددة، ومستويات مختلفة.
بل هناك تحول كبير في وظيفية سلطة مؤسسات الدولة. إذ بتنا نلاحظ صعود مفهوم جديد لسلطة الصوت الاجتماعي، وذلك عبر خطاب المواقع الاجتماعية من فيسبوك وتويتر ومواقع وبلوغات، والتي أصبح الأفراد يعبرون من خلالها عن صوتهم، بكل حرية، وجرأة، وباتوا يخوضون في كل المواضيع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية، ويقترحون رأيهم، وينتقدون آراء الأنظمة السياسية، وفي غالب الأحيان نجد الصوت الاجتماعي عبر التكنولوجي يتفاعل مع القضايا الراهنة بشكل أكبر من الصوت الحزبي والسياسي، بل نلمس تراجعا خطيرا لمفهوم مؤسسة الحزب في المنظومة السياسية العربية، نظرا لكون الصوت الاجتماعي عبر التكنولوجي يكون حاضرا بقوة في لحظة الحدث، ويعبر عن رأيه، ويدافع عن موقفه. وأحيانا كثيرة، يتقدم الصوت الاجتماعي باعتباره صوت الوطن، ويملأ – أحيانا- الثغرة السياسية دوليا.
هناك، إذن، خلخلة في نظام السلطة، قد لا تبدو للبعض ذات أهمية، لكنها، تُحدث خلخلة، وتُربك الخطابات المألوفة، وتُعبَر عن حالة تاريخية جديدة، تحتاج – وبمسئولية تاريخية- مرافقة ثقافية وفكرية وسوسيولوجية، من أجل المُساهمة في تأطير هذا الصوت.
هناك شعور قد يكون عاما – إلى حد ما – بنوع من الفوضى في القيم، والصور والتصورات التي اعتادتها الشعوب، وهناك التباس في الطريق إلى الأفق المشترك، وهذا يتجلى في هيمنة خطاب الدفاع، أكثر من خطاب التحليل. لأن كل فرد أصبح يدافع عن تمثلاته وتصوراته.
وأظن أن دور المثقف العربي اليوم، تقول زهر كرام، يتمثل في قدرته على الاشتغال بهذه المنطقة، وتحليل هذه الخطابات، وتفكيك أبعادها، وتليين غموضها، وإعادة ترتيب الفوضى الحاصلة من أجل شيء من الوضوح في الرؤية. كل مجتمع يعيش تحولات، هو في حاجة إلى العقل الذي يتدبر طبيعة هذه التحولات من أجل إنتاج رؤية ووعي.
وحول الأدب الرقمي، وهل يمثل خطوة نحو التحرر من ثقافة القراءة المألوفة، تقول زهور كرام: نتحدث دائما عن أزمة القراءة في العالم العربي، حتى أصبح الموضوع مملا، لأن الموضوع عندما يتم استهلاكه بنفس السؤال، مع نفس الصيغة في مراحل مختلفة، فإن ذلك يعبر عن أزمة كبرى، والقراءة جزء بسيط منها.
الآن نعيش الزمن التكنولوجي الذي يختلف من حيث طبيعته، ونظامه عن الزمن الصناعي. تتيح الثقافة التكنولوجية لمستعملها إمكانية التعلم-الذاتي، وفي نفس الوقت تلزمه بحسب إمكانياتها بضرورة التفاعل، والتفاعل هنا يأخذ طبيعة القراءة المُرافقة للمادة المنشورة.
لهذا فالثقافة الرقمية اليوم، قد تُعيد صياغة سؤال القراءة من “هل يقرأ الفرد العربي؟”، إلى: “كيف يقرأ. لأن القراءة لم تعد اختيارا كما هو الشأن مع الوسيط الورقي، كما لم تعد مرتبطة بمسافة مع المادة، بقدر ما أصبحت القراءة فعلا مُلازما للممارسة التكنولوجية التي أصبحت – بدورها- سلوكا يوميا. طبيعة نظام الثقافة الرقمية التي تعتمد الرابط، وتحفز على التفاعل، وتضع المستعمل أمام خيارات عديدة، تجعل القراءة واجبا تكنولوجيا، وفعلا طبيعيا.
ولهذا، يمكن للثقافة الرقمية أن تُساهم في تجاوز أزمة القراءة، كما تحررنا من طبيعة القراءة المألوفة، لأنها تُدربنا على التفاعل، أهم مكتسب في الثقافة الرقمية، والذي نستطيع أن نستثمره في قراءتنا الورقية أيضا، عندما نقرأ بتفاعل.
بوابة الأهرام