يارا بدر
حققت الكاتبة الأمريكية جيليان فلين حضوراً بارزاً في الساحة السينمائية خلال العامين المنصرمين، بظهور فيلمي تشويق وإثارة مأخوذين عن عملين روائيين لها، الأول هو «فتاة غائبة» باسم روايتها ذاته المنشورة قبل ثلاثة أعوام (2012)، و»أماكن مظلمة» عن روايتها المنشورة عام (2009) الذي بدأ رحلته مع الجمهور من فرنسا ومن بعدها الولايات المتحدة في نيسان/إبريل هذا العام.
بعد سنوات من إنتاج أفلام تشويق وإثارة تقف على حافة خانة أفلام الرعب، وتُغرِق في تمركزها حول سؤال وحيد: لماذا؟ السؤال الذي اهتمّت به معظم أفلام العقد الأوّل من الألفيّة الثانية خاصة، غالباً ارتبط جوابه بالمال أو الاضطهاد في الطفولة الذي خلّف خللاً في الشخصيّة دفعها للقيام بأعمال عُنفيّة.
ميزة فلين الأوّلى أنها ابتعدت، وابتعدت كثيراً، عن ضيق حيّز هذا السؤال. كما عكسها فيلم «أماكن مُظلمة» خاصة، مُفضّلة الاستعانة بالاسئلة الأقدم للحكاية، ماذا سيحدث؟ ومن القاتل؟ واختارت منها التركيز على سؤال «القاتل» لتتحول رحلة قص أحداث جريمة قتل وعرض دوافعها ومُسبباتها إلى رحلة بحث في المستوى العميق لمن هو «القاتل» ومن هو «الضحية»، حتى نكاد نُصدم في نهاية الفيلم ألا أحد بريء، لا وجود للضحيّة بالتمثّل المُطلق للكلمة، وفي الوقت ذاته لا وجود كذلك للمجرّم كُليّ الإجرام. كلنا رماديون، كلنا خيّرون في مقطع من الحكاية وكلنا سيئون في مقطع آخر، أمّا الحكاية برمّتها فتعرض لذواتنا البشرية المعقدة.
«ليبي داي» هي الناجية الوحيدة من المذبحة التي أودت بحياة والدتها وشقيقتيها الصغيرتين. آنذاك طُلبَ من الصغيرة ذات الأعوام السبع الإدلاء بشهادتها، وهي لم تزل تحت تأثير الصدمة، فأومأت بالإيجاب على مقولة المحقق أنّ شقيقها «بن» المراهق ذي الستة عشر عاماً هو من قتل عائلته في مزرعتهم في «كنساس» وعرفت بمذبحة «كنساس».
بعد أكثر من ربع قرن، يحاول مجموعة من الشباب المهتمين بالقضايا البوليسيّة التقرّب من «ليبي- أدّت الدور ببراعة شارليز ثيرون» لتغيّر شهادتها كسبيل لإعادة فتح التحقيق في القضية التي أغلقت بسرعة، استناداً للشهادة الضعيفة للطفلة، وعملاً بتحقيق غير مُكتمل ارتكز بشكل كبير إلى موقف مُجتمعي رافض لثقافة «الميتال» التي انتشرت في ثمانينات القرن الماضي في أمريكا بكثرة، وركّزت على عبادة الشيطان وطقوس غرائبيّة عدّة زادتها حدّة الفوبيا المُجتمعيّة، فربطت بين هذه الثقافة والاستغلال الجنسي للأطفال والدعوة إلى العنف والقتل وإراقة الدماء.
جيليان فلين هي من كتبت قصة الفيلم المأخوذ عن روايتها «أماكن مظلمة» وأخرجه الفرنسي جيل باكيه برينر، كاتب السيناريو كذلك، فحافظت – بتعاونهما- على روح نصّها الأصلي بامتياز. نص يحوّل الخلفيّة العامّة إلى المتهم الأوّل، تلك البيئة المُجتمعيّة المعاديّة لعمل الأم العزباء، العدائيّة مع كل ما هو مُختلف. بيئة أسرها مفككة بمعنى أو بآخر، فوالد «ليبي» سكير عنيف يسرق أموال والدتها التي تحاول التمسّك بمزرعة عائلتها وتربية أربعة أطفال بمفردها. عائلة «ديوندرا» صديقة الشقيق «بن» لا تظهر حتى في الفيلم، وإنمّا غائبة خلف ثرائها الواضح، فتجد الفتاة المندفعة في جنون «الميتال» مُتنفساً لغضبها الكبير على عائلتها ووحدتها وكل ما تفتقده، وربما وحدها هذه الشخصية تبدو فيها ملامح الشر المرتبط بالعنف أقوى من ملامح الخير طوال الوقت. تسأل «ليبي» صديقها الذي اختار هذه القضية لتكون مشروعاً أساسياً لتجمّعهم كمحققين هواة لإعادة فتح التحقيق في قضية يرفض المحكوم فيها منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً تقديم حتى استئناف، فيجيبها لأنه أخطأ ذات يوم. هذه هي حقيقة ما حصل ذلك اليوم. أخطاء أنتجها انهيار كل شخص أفضت إلى مذبحة عائليّة.
الأم تتعاقد مع قاتل مأجور ليقتلها، وقد وضعت في اعتبارها ورسالة انتحارها أنّها مُطمئنة لكون صغارها سيجدون ملجأً آمناً في كنف خالتهم. لكن القاتل يُفاجأ بإحدى الصغيرات فيقتلها كذلك. حينها تصرخ الأم وتطلب من «ليبي» صُغرى فتياتها الهروب. «بن» الذي يحاول انقاذ والدته وأخته ينشغل عن العراك الدائر بين شقيقته وصديقته الغيورة، مع عودته تكون صديقته قد خنقت أخته. طوال ما يقرب من 28 عاماً امتنع «بن» عن الحديث حول حقيقة ما جرى دفاعاً عن فتاة لم يرها، كانت «ديوندرا» حاملا بها حين وقعت الجرائم، وهي أخبرته أنّها صغيرته لتهرب منه من عالمها الضيّق، الأمر الذي لم يُؤكَدْ أبداً.
تعدّد الأصوات حضور الصوت
تعدّد أصوات القص، النبرّة المأساوية، العنف، المونولوج الداخلي، البُنيّة المُركبة من قطع عشوائيّة، تستعير فلين كلّ هذا وأكثر من الروائي الأمريكي العظيم وليم فوكنر الحائز جائزة نوبل عام 1949. أمّا تجديد فلين البارز هو الصوت النسويّ. في فيلمها الأول «فتاة غائبة» الذي أخرجه ديفيد فينشر عن سيناريو كتبته فلين ونالت عنه ترشيحاً لجائزة النقاد والصحافيين «الغولدن غلوب» كأفضل سيناريو مع ثلاث جوائز أخر حظيّ بها الفيلم هي أفضل مخرج، أفضل موسيقى تصويرية وأفضل ممثلة «روزاموند بايك».
يوم استثنائي لكونه ذكرى زواج السيدة والسيدة دان الخامس، يبدأ بشكلٍ عادي جداً، يخرج الزوج «نِكْ- بن آفليك» من منزله إلى الحانة ليثرثر مع شقيقته عن زوجته «آمي» السيئة وحياته المريرة معها. صوت سنستمر معه لأكثر من نصف وقت الفيلم، نسمع الحكاية من وجهة نظره هو. كيف عشقها، كيف تزوجا، وكيف عاشا، ثمّ تنقلنا فلين بانسيابيّة سرديّة تظهر براعتها في ضبط عناصر البناء الدرامي لنسمع صوت المرأة – الزوجة، الزوجة التي اختفت في صباح ذاك اليوم، ووجد الزوج نفسه متهماً بقتلها.
يحمل «فتاة غائبة» من عنوانه إشارة نسويّة واضحة، وعلى الرغم من أنّ صوت المرأة- خطابها ورؤيتها- لا يظهر في الفيلم حتى ثلثه الأخير تقريباً، إلاّ أنّ الامتياز السرديّ يتأتّى من قدرة فلين على صياغة سرديّة الزوج وخطابه الذي يقص حكاية رتبت الزوجة الغائبة تفاصيلها، كما أرادت له أن يرويها مع قليلٍ من مشاعره الخاصة الفوضويّة في تلك اللحظات، والكثير من الذكريات. في حين بنت فلين فيلم «أماكن مُظلمة» اعتماداً على رؤية «ليبي دان»، حضورها وغيابها، فتبدأ الحكاية وتنتهي بصوتها وهي الناجية والشاهدة والمُتسبّبة باعتقال أخيها قرابة الثلاثين عاماً.
هي ليست مقتولة، هو ليس مجرماً. هي ليست ناجية ولا ضحيّة، وهو ليس بريئاً. هي سيئة لكونها كادت تودي بحياته إلى حبل المشنقة، لتشويه صورته أمام جمهور التلفاز الأمريكي بأكلمه. هو مُذنب بخيانتها، بإهمالها، وبالتقاعس تجاه مشروع حياتهما المشترك، وبعدم بذل الجهد الكافي كما فعلت هي.
في كتابة جيليان فلين نتلمّس الفارق المهم بين حضور صوت المرأة في الحكاية الذي يصوغه رجل وبين حضوره الذي تبنيه امرأة، بذات الحساسيّة التي نتلمّس بها الفارق بين التصوير الذكوري لعالم الجريمة والتصوّير النسوّي، ودوما نتذكّر أنّ أفضل كتابة بوليسيّة خُطّت بيد السيدة آجاثا كريستي.
القدس العربي