المقاهي الثقافية العريقة تخسر أقدم رموزها‎ العالمية في مدريد


الخبر لا يبدو عاديا بالمرة.. إذ وبعد سنوات طويلة من النشاط للمقهى التجاري في قلب مدريد، يعلن صاحبه مؤخرا عن إغلاقه نهائيا نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تضرب أسبانيا. كيف لا يكون الخبر استثنائيا وهو أقدم المقاهي الثقافية في أسبانيا وقد تجاوز عمره الـ128 عاما، شهد خلالها حركة ثقافية واسعة وانقلابات سياسية تاريخية في عمر أسبانيا الحديثة.. هذا الخبر لا يبدو عاديا أيضا لأنه يحيل إلى باقي المقاهي الثقافية في العالم، وخاصة في وطننا العربي: كيف هي الآن؟ وأي قيمة تمثلها للضمير الثقافي العربي اليوم. 

أغلق أقدم مقهى في مدريد أبوابه، معلنا نهاية فعاليات استمرت 128 عاما، وإسدال الستار على مرحلة ثقافية وحركة فكرية كبيرة، وشهرة واسعة بين سكان مدريد وزوارها، ليترك فراغا في الساحة الثقافية الأسبانية.
وأعلنت الصفحة الرسمية لـ”المقهى التجاري” عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، نبأ الإغلاق الذي أحدث ألما شديدا لرواده ومحبيه، دون الإفصاح عن سبب إنهاء مرحلة زمنية فاقت القرن وربع القرن، فقط كانت كلمات تشير إلى أن الإغلاق جاء نتيجة الأزمة والتضخم في المواد الأولية.
وجاء في الرسالة المنشورة أنه بعد العديد من سنوات النشاط التجاري للمقهى “نتوجه إليكم لنعلن عن الإغلاق النهائي، ونحن متأسفون جدا لكتابة رسالة من هذا القبيل، ولكن حان يوم الإغلاق، وبالتالي نريد أن نشكر بكل إخلاص الثقة التي قدمتموها لنا خلال هذه السنوات المليئة بالتجارب الرائعة”.
ويعد المقهى من أشهر الأماكن التي كان يتردد عليها مثقفون وشعراء وروائيون ورسامون، وكان يمثل نقطة لقاء ثقافية مشهورة، لعل أبرز الأسماء التي كانت تتردد عليه نجد الرسام الشهير بيكاسو في أربعينات القرن الماضي، ونجد أيضا العديد من المثقفين والسياسيين والأدباء على غرار كاميلو خوسيه شيلا الذي كتب فيها روايته الشهيرة “لا كولمينا” أو “خلية النحل”.
وسجل تاريخ المقاهي مئات بل ألوف الصفحات من القصة والشعر والرواية والمقالة وغيرها، وكانت المقاهي مراكز إنتاج، بل مصانع للإبداع والثقافة، وكتبت فيها البيانات السياسية واللقاءات الثورية السرية. وكانت مراكز للقاءات ونشاطات حركات التحرر في العالم، وخاصة العربية، في دمشق والقاهرة وبيروت وغيرها من العواصم العربية.
والماضي طبعا شاهد لن يموت، وقد سجل تاريخه أسماء المقاهي وصفاتها، كأن يكون هذا مقهى للسياسيين وذاك للمثقفين. وهذا مقهى للثوريين وآخر للقوميين، فعلى سبيل المثال ما يزال مقهى “ريش” في القاهرة يحمل تاريخا من العراقة ودورا للمثقفين الذين كتبوا صفحات من إبداعاتهم السردية والشعرية ومسرحياتهم ومقالاتهم النقدية والانطباعية والساخرة، والتي شكلت ملامح التاريخ الثقافي والسياسي العربي بامتياز، ويذكر أن نجيب محفوظ ألف فيها روايته “الكرنك” وهو يجلس على أحد أرائكها.
أيضا نجد مقاهي بغداد الثقافية التي على ضفتي دجلة والتي كانت منتشرة في كل الأماكن والأزقة، وفيها شهدت الحركة الثقافية والأدبية في العراق ازدهارا لافتا نذكر منها مقهى الزهاوي وحسن عجمي والبرلمان وقد أغلقت جميعها ولم يبق لأدباء ومثقفي العراق سوى مقهى الشابندر في شارع المتنبي.
ولا ننسى طبعا مقاهي بيروت التي شهدت تأليف أعمال أدبية هامة في التاريخ الثقافي العربي، ناهيك عن تأليف قطع الموسيقى وتلحين الأغاني ونظم الأشعار وأكثر المقاهي شهرة كانت أساسا “دولتشي فيتا” و”الأكسبرس” و”الهورس شو”، وأشهر رواد مقاهي بيروت كان الشاعر نزار قباني.
وفي سياق المقاهي العربية الشهيرة، لا يمكن نسيان مقاهي تونس العاصمة، والتي من بينها مقهى باريس الشهير، فهذا المقهى كان ملتقى لمؤلفي الأغاني في تونس في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وقبل ذلك كان مقرّا تاريخيا لرواد الحركة الوطنية التونسية في الخمسينات، حيث كانت الاجتماعات تجري ومنه كانت المظاهرات ضد المستعمر الفرنسي تقرر. كذلك نجد مقهى الفنان التونسي لطفي بوشناق الذي كان محاذيا لمبنى الإذاعة في شارع الحرية، وقد أغلق أبوابه الآن ليتفرق المثقفون والفنانون إلى مقاه أخرى.
المقهى الثقافي، سواء أكان في بغداد أم القاهرة، في بيروت أم مدريد، هو مكان لقراءة الصحف اليومية ومطالعة المجلات أيضا، فلا يوجد مكان يتجانس مع فعل المطالعة أفضل من الجلوس في مقهى وتصفح الأخبار.
ونحن اليوم وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، فإن من يتابع حياة المقاهي ويرصد تطورها والتغيرات التي حصلت لها، لا بد أن يتحسر على “أيام زمان”، مثل أولئك الذين علقوا على خبر غلق المقهى التجاري في مدريد، ومنهم الكثير ممن عاصروا المقهى وأحداثه وكانوا من رواده.
ورغم ذلك ما تزال المقاهي المتوفرة تزدحم بالزائرين على مدار الأسبوع، وما يزال الكتاب المدمنون على القهوة الصباحية في المقهى يكتبون الزوايا الصحفية، ويتخذونه مكانا للمواعيد واللقاءات.
العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *