الشعر .. تجنيد الحاسة السمعية للمتلقي


قيس مجيد المولى

لاشك أن الشاعر لديه إعتقادات، وأن المتخصص والقارئ لديهما إعتقادات، وهذه الإعتقادات بمثابة المران ضمن تأسيس الذائقة الجمالية، ولاشك أنه ليس بالضرورة أن يتوافق الشاعر فيما يكتب مع ما يتمنى القارئ أن يُكتب, ولاشك أيضا أن الشاعر يتمنى أن يُقرأ بما يريد أي يتمنى أن يكون القارئ داخل كيانه لتكون مساحة الإيصال قريبة بينهما وبذلك يتم التأسيس على المقاربات مما تشكله الرؤية الشعرية، وعلى قدر هذا التعارف فإن لكل جيل من الشعراء والقراء إرهاصاته النفسية والفكرية وتأثير المتغيرات فيه لكن المهم من هذه المداولة بين الطرفين ومحاولة خلق التقريبية تلك لا بد من الإعتراف والإذعان للواحق المتغيرات التي تطرأ على اللغة والأسلوبية والمفاهيم والمعارف والوقائع، وأثرها في حث المخيلة على الكتابة بشكل يؤمن وجودا ما لتلك المتغيرات.

أي أن الشاعر لا بد أن يرتقي بلغته وموضوعاته وذهنيته تجاه رسومه المتخيلة ولغته المستحدثة وفاعلية نشاطه البنائي، كون هناك إرتقاء آخر قد يأمهُ المتلقي من تلك المؤثرات.
لكن الغريب أن بعض الشعر لا يزال يكتب باللغة القديمة أي اللغة الحصرية التي كان الشعر يكتب بها مما بعد المعلقات إلى يومنا هذا، وبقي البعض من الشعراء متمسكين بالثوب الإيقاعي القديم وبالشحنات البكائية كمدخلٍ للرثاء والمديح فيأتي الشعر معبرا عن المغزى المقصود قبل قوله، ويكفي الإستماع إلى شطرين منه ليدرك المتلقي ذلك المغزى الذي يدور حول تلك المقدمة مع العديد من الصور الهشة التي تساق سوقا لتجنيد الحاسة السمعية دون التأثير بكيانه الوجداني.
ولاشك أن هذا النمط من الشعر يقع ضمن الشعر المُرتب, الشعر الذي يعمل العقل فيه بطاقته الفطرية وتبطل فيه القدرات التحسسية بل وتعزل كليا المخيلة عن مهامها إلا القليل منها والذي يصبح عاجزا عن الإنتاج حتى ولو احتوى على قدرٍ من الجمالية، فهي جمالية باهتة سرعان ما تزول ولا يبقى لها أي تاثير تأصلي للإغراء أو اللذة.
إن السطحية في الشعر تعبير عن فقدان الشعر لضرورياته تعبير عن الحدود الضيقة التي بنيت على لا موهبة وعلى لا تطوير في الأداة ولا عبثَ إبداعي في الموجودات والوصول عند المعاني الجمالية، ولعل هذا المفهوم لا ينطبق على أولئك الشعراء الذين هم لا يزالوا في مرحلة التأسيس رغم أن بعض الشعراء من الشباب قد تجاوز هذه المرحلة ولكن يعاب ضمن هذا المفهوم على البعض من الشعراء الذين أمضوا في كتابة الشعر سنينا طوال ولا يزالوا يتنقلون بين المباشرة تارة والتقليدية تارة أخرى دون جهد لتحفيز قواهم الأخرى لمعاينة النتاجات الشعرية الأخرى خصوصا تلك التي تساير الحداثة وتنحول إلى الكشف والمغامرة.
لاشك وضمن التطور الهائل الذي شهده ويشهده العالم ضمن ثورات العلم والإكتشاف والمجتمع وقضايا الكون لا بد للشعر أن يواكب تلك التطورات، أي أن يكون قدوة لها في اختيار ثورته المناسبة ضمن ثورة الشعر التي تعني الإنعتاق من الإنغلاق وترك الإشتغال على السفاهات في المضمون والإشتغال على الأبعاد غير المرئية مادام القارئ قد قفزت به المتغيرات قفزات هائلة إن أدركها اليوم أو سيدركها غدا، فقطعا سيصل للسر والإعجاز الذي يكتب به الشعر المعبر عن العلاقة الخاصة ما بين الشاعر وكونه عن طريق ذاتية نقية لا شراكة لها بأحد أو مع أحد.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *