حين يتعاطى الفيلسوف الحشيشة




*عمّار المأمون

في القرن التاسع عشر انتشرت مادة الحشيش في أوروبا مرة أخرى وخصوصا في فرنسا، إذ أثارت اهتمام الأدباء والفنّانين لتعاطيها واكتشاف ما يمكن أن تحويه من أسرار، وقد اشتهر في باريس خلال القرن التاسع عشر ما يعرف بـ”نادي الحشاشين” – Club des Hashischin، الذي مازال قائما حتى الآن كفندق في جزيرة سان لويس بباريس، حينها كانت تُعقد جلسات شهرية تحضرها أسماء هامّة في الفن والأدب لتناول المواد المخدّرة، كالرسام يوجيند ولاكرواه والكاتب ألكساندر دوما الأب وفيكتور هوغو وبلزاك إلى جانب الشاعر شارل بودلير الذي أنجز ديوانه “فراديس اصطناعية”- Les Paradis Artificiels تحت تأثير الحشيش والأفيون الذي كان يتعاطاه في النادي.

الصيت الواسع
بسبب الصيت الواسع الذي نالته هذه المادة والتّأثر بكتاب بودلير السابق ذكره قرر المفكّر والناقد الألماني والتر بينجامين (1892-1940)، القيام بسلسلة من “التجارب”، على حدّ تعبيره، مع هذه المادة إلى جانب الأفيون، وذلك بين أعوام 1927 و1934، حيث اختبرها في عدد من المدن وهي برلين ومرسيليا وجزيرة إيبيزا الأسبانيّة مع أصدقائه إيرنيستبلوخ، جان سيلتز، إيرنيست جويل فريتزفرانكل وأيجون ويسينج وزوجته.
وتعود أسباب هذه التجربة أيضا إلى منهجه النقدي، إذ أن بينجامين من مؤسسي المدرسة النقدية في فرانكفورت (مدرسة فرانكفورت)، التي تحاكم النظريات والأفكار عبر التجربة بوصفها الأساس، ما دفعه إلى تعاطي هذه المادة لعدة سنوات وتدوين انطباعاته ضمن اثني عشر بروتوكولا تصف هذا المخدّر وانطباعاته عنه.
مجموعة البروتوكولات المعنونة بـ”عن الحشيش” – on hashish، نشرها بينجامين أثناء حياته، وكان من المفترض أن تكون أساسا لكتاب أكبر، إلا أن بينجامين لم يتمكن من إنجازه، فاكتفى بهذا القدر ونشره.
وما يميز هذه النصوص هو تنوعها وتنوع أشكالها، فكل واحد منها كتب في فترة زمنية مختلفة وتحت تأثير مخدر مختلف وهي مرتّبة زمنيا حيث تبدو التطورات التي مرّ بها بينجامين نتيجة التعاطي، كما أن أسلوبها مختلف باختلاف المكان والأشخاص، فالبروتوكل الأول مقسم إلى جمل انطباعات مرقّمة، في حين أن الباقي على شكل مقاطع نثرية وأقرب إلى اليوميات.
يلاحظ ضمن كل بروتوكول اختلاف التغيرات الجسديّة والنفسيّة التي يمر بها بينجامين، فتارة يطغى موضوع الضحك، وأحيانا نراه يقارب الأعمال الأدبيّة، إذ يكتب في البروتوكول الأول الجملة رقم 12: “أشعر بأني أفهم إدغار آلن- بو بصورة أفضل، إذ يبدو أن بوابات الدخول إلى العوالم الغروتيسكيّة تتفتّح، لكني أفضّل أن لا أدخلها”.
الوعي أم الهلوسة
ما يميز هذه المقطوعات النثريّة، أن بينجامين يلعب فيها دور المراقب لذاته، حيث يتأمل أفكاره وهي تنساب ثم كلماته ونطقها و”الشعريّة التي يحويها صوت الكلمات”، ثم حالة جسده والهالة المحيطة به التي تشعّ ولا يجب اختراقها، وهذا يستند إلى نظريته حول الهالة والتي تختفي بإعادة الإنتاج وكأن الحالة العقليّة التي وصل إليها حينها أصيلة، تجعل الهالة دائمة الحضور ومتجددة دائما.
ما يميّز كل واحد من هذه البروتوكولات أيضا هو الإحساس بالزمن، حيث يؤرخ بينجامين في بداية كل بروتوكول الزمن الذي تم به تناول المادة المخدّرة، إلا أنّنا أثناء القراءة نلاحظ أن الزمن ينساب من بينجامين، لنرى الجمل تتّقطع، ولا يمكن تحديد الفترة الزمنيّة التي تفصل كل مقطع سردي عن الآخر.
فبعض هذه الانطباعات كتبها بينجامين أثناء التعاطي وأحيانا بعد زوال تأثير المخدر، كما أن بعضها تم داخل المنزل أو أحد الفنادق والبعض الآخر في الشارع حيث يتحدث بينجامين عن انطباعاته عن الخارج وما يحيط به.
الذات خارجا
هذا بالإضافة إلى أن تحديد كاتب بعض البروتوكولات بصورة حاسمة يعتبر مهمّة صعبة، إذ أن بعضها قد كُتب من قبل أصدقائه الذين كانوا معه وخصوصا أن الهلوسة تدخل ضمن هذه البروتوكولات، إذ نقرأ في البروتوكول الأول رقم 13 “تحوّل الفرن إلى قطّة، وبمجرّد ذكر كلمة زنجبيل -مخدر- أثناء تجهيز طاولة الكتابة توهمت أنها رفوف للفواكه، ثم أدركت حالا أنها طاولة الكتابة، إثرها تَذكرت ألف ليلة وليلة”.
في البروتوكولات، يحاول بينجامين أن يخطو خارج ذاته، يتأمل وعيه وهو يتكوّن ثم يتحول نحو الأشياء لإدراكها، صحيح أن السورياليين في تلك الفترة كانت لهم تجارب مشابهة مع هذا النوع من المواد في سبيل الكتابة الآلية، إلا أن تجربة بينجامين تختلف بأنها كانت تعتمد على العقل الواعي، لا الحلم وعوالمه في سبيل اختراق الوعي كحجاب عن الحقيقة.
إذ أن بينجامين كان يسعى إلى استحضار الوعي الخالص واكتشاف أقصى حدوده دون التورط إلى النهاية في “المرحلة الشيطانية” التي تؤدي إلى الإدمان، وهذا ما يتحدث عنه في البروتوكول الثاني في حديث عن كافكا إذ يقول: إثر انتقال وظيفي -أستخدم هذا التعبير كما قالته جويل الذي أراه مناسبا في هذه التجربة- وخلال المرحلة الشيطانيّة أعطاني أحدهم كتابا لكافكا، عنوانه “تأملات”، لكن فجأة أصبح هذا الكتاب يعني لي ما يعنيه حين يكون بيد شاعر.
وفي هذه الحالة نحات أكاديمي عليه أن ينحت تمثالا لذاك الشاعر، لكن فجأة شعرت بتوافق داخلي مع الكتاب، إذ أعاد نَحتي بصورة أكثر قسوة ودقة لا يمكن لأي ناقد أكاديمي أن يقوم بها.
ترجمة البروتوكولات صعبة جدا حتى مع الرجوع إلى الترجمتين الإنكليزية والفرنسيّة، إذ يلاحظ من يحاول الترجمة تفكك بعض الجمل، وطول بعضها.
كما قد تتداخل الضمائر والإحالات والسياق، ما يجعلها أحيانا تبتعد عن المعنى المنطقي، هذا ما يتضح في الترجمة التالية لأحد البروتوكولات التي قمنا بفصل الجمل فيها عن بعضها بوضوح لتبدو أقرب إلى صيغة الانطباعات التي يحملها النص الأصلي.
______
*العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *