*بروين حبيب
لم نبحث أبدا في موضوع ملهمي الشاعرات والكاتبات، مع أنّهن كتبن عن موضوعات كثيرة مسكوت عنها، حتى في موضوعات الغزل الجارف والحارق تُبقي المرأة المبدعة سرها دفين قلبها.
حتى أكثر النساء جرأة في طرحهن الأدبي يرجعن نصوصهن إلى مواجع خاصة.. وحين يسألن عن الحب يهربن للجواب الكلاسيكي الممل الذي يقول إنهن يكتبن لرجل غير موجود، أو لرجل يحلمن به.
في الكواليس النساء كما الرجال تماما، تتحرّك عواطفهن بسبب رجل، وتثرثر الألسن عن قصص حب خفية، بعضها مسلسل طويل من العذاب، لأنه قصة حب من طرف واحد، ترفض المرأة الاعتراف به حتى لمن سرق قلبها، ومنحها سيولة في التعبير وألهب مخيلتها بالصور الجميلة التي لا يمكن لغير الحب أن يخلقها.
بالنسبة للكتاب الرجال يبدو هذا الأمر عاديا، فالتاريخ يذكر عشيقات ومحبوبات وفاتنات ألهبن قريحة الكتاب والشعراء فأبدعوا بسببهن.
لكن مع هذا حين قال الشاعر الفرنسي لويس أراغون سنة 1963: «المرأة مستقبل الرجل»، ثارت ثائرة الرجال… كأنّ شيئا هدّد كيانهم، فالمرأة يجب أن تكون دوما في نظر الرّجل «الصُّوص» المختبئ تحت جناحيه…
إلى غاية تلك السنة وما بعدها، حتى مطلع التسعينات في أوروبا (الرقعة الأكثر تقدما في العالم الغربي) كانت لا تزال المرأة المبدعة لم تمنح مكانة الرجل المبدع نفسها، خاصة تلك التي تكتب.
فالقلم لفترة طويلة كان أداة يستخدمها الذكور، مثلها مثل أدوات كثيرة مهمة في الحياة. للمرأة حق واحد فقط هو استخدام جسدها بمباركة الهيئات الدينية، لتطيع زوجها وتخدمه وتنجب له أطفالا وتضحي بالغالي والنفيس من أجل هذه العائلة، ومن أجل تقدم زوجها في مراكز اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك.
لقد تقبّل الرجل دوما أن تدعمه المرأة، لكنه رفض بشدة أن يدعمها.
في حياة النساء المبدعات اليوم لا نجد عشاقا، أو أزواجا داعمين لهن، إلا فيما ندر، لا نجد رجالا سجلوا حضورا إيجابيا في حياتهن، بقدر ما نجد الرجال الذين حاربوهن.. نجد المعشوق السري الذي رفض حب الكاتبة أو الشاعرة…
نجد الأب القاسي… الزوج القامع الذي يغضب لأتفه الأمور حين يرى زوجته تكتب… رجال العائلة… الأعمام والأخوال، الجيران …المنظومة الذكورية لا حدود لها لقمع المرأة، بمباركة من النساء الفاشلات أو المتسلقات، كما يسميهن البعض، لأنهن ظلال للذكور الذين يصنعون مصائرنا، وفي الغالب يحظين بمكانة أفضل من غيرهن.
لنعترف أننا كثيرا ما نسمع مزحات بين مثقفينا وكتابنا على أن الشاعرات والكاتبات نساء فاشلات في الزواج، عوانس، مطلقات… ويتمادى البعض بوصفهن «مسكينات» وكأنهن اتجهن إلى الكتابة كورقة أخيرة لإثبات ذواتهن. فبالنسبة للمثقف العربي اليوم فإن المرأة تستمد احترامها من زوجها. ولعل الشاعر الوحيد الذي كان يجهر بهذه الحقيقة بدون خوف من أن يوصف بالرّجعي هو الشاعر الراحل سعيد عقل، كان يرى أن الغزل يجب أن يُكتَب فقط لنساء محترمات وقصده واضح في قوله هذا، إذ لم يقبل أبدا أن يرتدي قناعا كما ارتداه غيره.
في العالم الغربي أخذت العشيقة مكانة خاصة حتى في حياة الملوك، ولعلّ التاريخ أنصفها أكثر من الزوجة الشرعية، أما الشعراء والكتاب فقد كانت قصصهم أغرب من الخيال نفسه، وبقدر ما كانت العشيقة ملهمة وحاضنة لمعشوقها، بقدر ما أصبحت شبه مقدسة في الكتب، كما على سبيل المثال عشيقة هيغو، التي عاشرها 50 سنة.
ونتساءل بدهشة هل يمكن للحب أن يبقى صامدا 50 سنة أمام العوائق المفتعلة من طرف المجتمع، والنّمائم التي تحاك ضد العاشقين؟
أسطورة هذا الحب أثمرت روائع أدبية… قرأنا أغلبها ونحن صغار، لكن بقي الحب مخفيا عن عيوننا حتى بلغنا سنّ ما بعد النضج، شيء متقصّد ربما، فالحب كان دوما موضوعا مرفوضا طرحه بهذا الشكل.
إيميل زولا هو الآخر داهمه الحب متأخرا، وجعل قلمه أكثر نضجا حين التقى بجاين، ولكنه لم يستطع أن يوفق بين زوجته ألكسندرين وعشيقته جاين، التي وهبته طفلين… باعتراف منه نقرأ: «لست سعيدا، هذه الحياة المزدوجة التي أقحمت فيها نفسي تتعبني، وتصنع خيبتي، لقد حلمت أن أجعل الجميع من حولي سعداء، لكنني اكتشفت أن هذا مستحيل تحقيقه»… ويا للصدف، تتخلل عواصف فتّاكة حياة زولا، من كل الجهات، ومع هذا يموت في فراشه قرب زوجته، مختنقا بدخان مدفأة غرفة نومهما… أما الحب الكبير لحبيبته فقد بقي أثرا في أدبه لا غير…
أمثلة كثيرة يمكننا أن نتوقف عندها، عن العشق الذي جعل الكتاب يكتبون، والشعراء يقرضون الشعر، والرسامين يرسمون نساء لسن بالضرورة جميلات… لكن من الصعب أن تكشف امرأة عن حبيب حرّك قلمها…
نعم نحن لسنا في الغرب.. وشرقنا الملثم دائما، له أسبابه لإبقاء الأمور العاطفية سرا.
ونحن العربيات حتى حين نقبل بتعدد الزوجات، وتعدد الخليلات، وخيانات أزواجنا لنا، لن نبلغ شجاعة مادلين شابسال الفرنسية التي كتبت كتابها «رجل عمري» تروي فيه قصة حبها مع الكاتب والصحافي والسياسي جان جاك سيرفن شريبر، التي بدأت حين كان عمرها 17 سنة، وظلت متعلقة بحبه حتى تزوجته بعد انتهاء الحرب، لكن هذا الزواج الذي لم يدم أكثر من 13 سنة، لأنها لم تستطع أن تمنحه أطفالا، انتهى بانفصال «ودّي»، ليختار غيرها، فينجب أربعة أولاد، وهذا لم يمنعها من مصادقة زوجته والاهتمام بأولاده الأربعة وكأنهم أولادها… وتبقى على حبه، وتحزن حزنا كبيرا على فقدان ابنه دافيد، بعد إصابته بورم سرطاني، إذ كتبت عنه قائلة «ابن قلبي».
نحن في الشرق نرى هذه الصورة تقليدية جدا، لكن هل بلغنا مرحلة الاعتراف بازدواجيتنا؟ وبأثقال أحزاننا، وأفراحنا السرية التي تولد وتدفن معنا في حياة موازية لحياتنا، لكن خلف ستارة لا يراها المجتمع…
حين أصدرت غادة السمان رسائل غسان كنفاني لها، انقسم أهل القلم إلى قسمين، من ساند ومن ثار ضدها، لكن لا أحد تساءل: هل كان غسان كنفاني يحتفظ برسائل غادة، أم أنه كان يتخلّص منها بعد قراءتها حتى لا تصل إليها يد زوجته، ففي النهاية كنفاني كان رجلا شرقيا، وفضل دوما أن يواجه من حوله بواجهة القضية الفلسطينية، لا بواجهة عشقه لغادة.
أقول هذا وفي حلقي الكثير من الكلام، بودي أن تكشّر كاتبات اليوم عن أنيابهن ويواجهن الرجال بما يحاولون إخفاءه. بودي أن نبلغ مرحلة التوقف عن حماية « ذكورنا» ظنا منا أننا نحمي أنفسنا كإناث… بودي أن نتحدث عن الحب بوضوح، حتى يصبح الحب عنصرا مهما في حياتنا.
بودي لو أن العشيقة أو العاشقة تخرج للنور وتلتهم العتمة التي ضربت حولها.
بودي أيضا لو أخبركم عن مخطوط إحدى صديقاتي، عن كل عشاقها، مدْعومًا برسائل موقعة بأسماء لكتاب كبار، كيف عبروا لها عن ولعهم، عن عشقهم، عن رغبتهم في امتلاكها، وكيف يصرون جميعا في آخر المطاف على أن تتخلص من رسائلهم…
بودي …لكنها مُصِرّة أن تصدر الكتاب ذات يوم فقط لتكسر بللور الرموز الكبيرة، تريد أن يبقى السبق لها… رسائلها ورسائلهم.. تقسم أن بعضهم أوقعها في الحب، ولأنه لم يكن هدفهم حبا صادقا، تخلوا عنها في منتصف الطريق…
كل التعليقات أتقبلها… إلىأن يصدر كتاب «رسائلها ورسائلهم»
وكل حب وأنتم بألف خير..!
كاتبة وإعلامية بحرينية/القدس العربي