جوزف دانا
ترجمة حمد عبود
مُلْكيَّة المخطوطات غير المنشورة والروايات التي كتبها فرانز كافكا – الكاتب التشيكي اليهودي الذي اعتُبِر على نطاق واسع واحدا من أعظم الكُتّاب باللغة الألمانية في القرن العشرين – يُؤلِبُ اسرائيل على ألمانيا.
كافكا، الكاتب الذي قضى غارقا في عذاباته، خلّفَ مكتبا مليئاً بالأعمال غير المنشورة لصديقه المؤتمن «ماكس برود»، وهو مفكر ومثقف من مدينة براغ، مع توصية واضحة بحرق كل شيء حين وفاته.
ولكن ماكس تجاهل وصية كافكا وهرّب إرث الأخير في حقيبة سفر إلى فلسطين، وهناك قام ماكس بمساعدة «سلمان شوكين» ناشر جريدة هآرتس بنشر ما عُرف لاحقا بأفضل أعمال كافكا المشهورة، بما في ذلك رواية «المحاكمة» ورواية «القلعة» وقصص قصيرة مختلفة.
لأسباب غير واضحة لم ينشر ماكس كل مسودات الأعمال التي بحوزته ولم يسلمها كلها للسيد شوكين، وهذه الأعمال غير المنشورة هي التي أشعلتْ المناقشات بين اسرائيل وألمانيا حول أحقيةِ كل منهما في إرث كافكا.
عندما تُوفي «ماكس برود» في عام 1969، حصلتْ مساعدته وعشيقته الاسرائيلية «إستر هوفي» على ما تبقى من مسودات كافكا، وإن كان حجم ما حصلتْ عليه استر ليس واضحا ولكن يُقال بأنها حصلت على روايات وقصص قصيرة ومراسلات بين «برود» وكافكا وكُتّابٍ مُهمـــين في ذلك العـــصر ومن بينهم الروائي «شتيفان تسفايج» ذو الأصــــل النمساوي، وهــــذا الأخير هو مصــــدر إلهام آخــــر أفلام هوليوود «فندق بودابست الكبير».
حقيقة وجود هذه المسودات لم تكن معروفة خارج عائلة هوفي حتى عام 2007 وتمّ وضع هذه المسودات في صناديق ايداع بين تل أبيب وزيوريخ، كما أن بعض المسودات تُركتْ في شقة استر في تل أبيب، وبعد وفاتها أورثتْ هذه الملكية لبناتها اللواتي أعلنَّ أنهنّ مستعدات لبيع محتويات الأرشيف كاملا في المانيا.
لا حاجة للقول بأن آفاق أعمال كافكا غير المقروءة وغير المنشورة المكتشفة صدمت العالم الأدبي وعلى وجه الخصوص عُلماء اللغة الألمان الذين يعتبرون أدب كافكا دعامة الأدب الألماني الحديث.
بحلول عام 1988 باعتْ استر المخطوط الأصلي لرواية «المحاكمة» لأرشيف الأدب الألماني في مارباخ بوساطةٍ من سمسار مخطوطات سويسري اشترى المخطوط في مزاد ساوثبي في لندن مقابل مليون جنيه استرليني.
لم يكن قد قيل أي شيء عن مخطوطات كافكا غير المنشورة عند هذه النقطة، لكن شراء مسودة «المحاكمة» جعل نوايا ألمانيا واضحة في ما يخص جمع وحماية ما تبقى من إرث كافكا الملموس، حيث رأى الألمان أن إرث كافكا ينتمي لألمانيا بفضل مساهمته البارزة في اللغة والثقافة الألمانيتين.
من ناحية أخرى، كان لدى «برود» أحساس مختلف بالمكان الذي تنتمي إليه أعمال كافكا. برود الصهيوني المتحمس الذي حاول عبثا إقناع كافكا بالانضمام إلى الانتداب الانكليزي على فلسطين.
رسائل كافكا
رفض برود بشكل قاطع احتمال أن تنتقل أملاك كافكا الأدبية إلى أرشيفٍ ما في ألمانيا، وحقيقة أنّ أخوات كافكا الثلاث قد قُتلنَ على يد النازيين زادت نار تصميمه تأججا. لكنه لم يكن قد أُعطيَ أي صلاحيات للتصرف بإرث كافكا وأملاكه، على العكس إذ كان قد أعطيَ تعليمات صريحة بحرق هذه المخطوطات الكتابية.
عندما أعلنتْ إيفا هوفي ابنة إستر هوفي في عام 2007 بأنها تود بيع الأعمال غير المنشورة للألمان قامت دولة اسرائيل بالتدخل، وبعد محاكمة طويلة انتهتْ الشهر المنصرم، أقرتْ محمكة إسرائيلية بأنّ أعمال كافكا يجب أن تُنقل إلى المكتبة الوطنية الإسرائيلية وألّا تُغادر البلاد مطلقا.
مستعيدا أفكار ماكس برود القديمة، جادل القاضي اليهودي «كوبي فاردي» بأن أعمال كافكا تنتمي إلى اسرائيل كونها ثروة ثقافية للشعب اليهودي.
الملحمة الطويلة والاستثنائية تستمر بالانكشاف، فبينما تمّ التعدي على شقة هوفي في تل أبيب من قِبل أشخاص مجهولين في عام 2007، ضبطتْ الشرطة الألمانية هذا الشهر كنزا ثمينا من رسائل «برود» المسروقة والمهربة بشكل غير شرعي من اسرائيل وتتكتمُ السلطات الالمانية على مصدر هذه الرسائل ولكنها قد تكون نفسها الوثائق المسروقة من شقة هوفي.
بصرف النظر عن الدسائس والسيناريوهات التي تدور حول مخطوطات كافكا غير المنشورة، فإن السؤال الذي يتصدر هذه المناحرة سؤال عميق ولا شك: من له الأحقية بفرانز كافكا؟
بالنسبة إلى الدولة التي تصف نفسها بأنها دولة اليهود، كافكا ينتمي لإسرائيل ولربما يكون للكاتب الراحل تجليات أخرى حول الموضوع. انجذب كافكا خلال حياته إلى فكرة الصهيونية ولكنه في النهاية رفض إمكانية الانتقال إلى فلسطين، بالإضافة إلى أنه انخرطَ في بعض الصفوف العبرية في براغ ولكن ذُكِر لاحقا بأنه تركها محبطا.
تنامت هوية كافكا في أوروبا، وغالبا ما كان يشعر بأنه على هوامش المجتمع الأوروبي بسبب ديانته، إلا أنه لم ينضم إلى الحركة الصهيونية في فلسطين حتى بعد محاولات الإقناع المستمرة من رفاقه المثقفين.
في الغالب، سيكون السؤال الأكثر احتمالا للطرح هو حول حاجة اسرائيل لفرض هيمنتها على إرث اليهود من غير الاسرائيليين و التحكم به؟ حقيقة أن الحركة الصهيونية كانت ولا تزال غير قادرة على إجبار غالبية يهود العالم على المشاركة في محاولاتها الاستعمارية في بناء دولتها في فلسطين هو مصدر إحباط كبير في تل أبيب، وعليه فإن إسرائيل مجبرة على القتال من أجل الحصول على إرثِ كـُتّابٍ مثل كافكا في محاولة منها لنسبِ سُمعتهم إليها.
إسرائيل، الدولة القومية، تدّعي كونها الممثل الوحيد ليهود العالم على مر الزمان، وهذا الشعور المغلوط بأحقيتها في ثقافة اليهود سوف يبقى هدفا للحركة الصهيونية، حتى تشعر بالاستقرار والراحة لتطورها.
السفير