” دنيا” علوية صبح مأزق المرأة والحرب



محاسن عرفه


خاص 

وسط حكايات النساء تبني الكاتبة علوية صبح أحداث روايتها ” دنيا” من خلال بطلتها التي حملت اسم الرواية، ومن خلال شخصية دنيا يدور الحديث عن واقع المرأة اللبنانية ومعاناتها خلال الحرب الأهلية، إلى جانب صراعها مع السلطة الذكورية التي تعمل على إقصائها وقمعها، ومحو ذاتيتها وخصوصيتها الأنثوية. لكن الحرب في رواية
” دنيا” لا تحضر بصورة واضحة ومباشرة، كما في رواية علوية صبح الأولى ” مريم الحكايا”، بل تبدو الحرب هنا أشبه بستار خلفي للأحداث، حيث يتضح للقارئ ما تفعله الحرب بالأبطال، وكيف تترك ندوبها على أرواحهم وأجسادهم. فمن ضمن آثار الحرب ما نراه يحدث بين دنيا وزوجها مالك، الذي كان خلال الحرب قائدا في إحدى الأحزاب، ويتفوه بشعارات وأقوال جعلت دنيا تقع في حبه، لكن بعد الزواج وبعد انتهاء الحرب يصاب مالك بعاموده الفقري مما يجعله كسيحا، وهنا تتحول الحياة بينه وبين دنيا إلى جحيم، حيث يكون كل همه محصورا في السيطرة على دنيا. لنقرأ ما يلي : “الآن هو يحلم أن يرى جسدي مشلولاً مثل جسده. نظراته إليّ وأنا أعبر كانت تعلن عن شهواتها ليصير جسدي نقطة ساكنة، إذ كيف يُمكن أن يكون لي جسد يتحرّك ولا يُسيطر هو على حركته وسكونه؟”
يدور السرد عبر لسان دنيا، التي تحكي من قلب ذاكرتها حكايتها إلى جانب حكايا أخرى، مستندة إلى تداخل الواقع مع الحلم والخيال. وكأن البوح هنا هو وسيلتها للحياة الداخلية المجردة من الخوف والاضطهاد، البوح هنا يمثل مساحتها الذاتية الخاصة التي تتحرك عبرها بحرية مطلقة، ساردة لكل أوجاعها الدفينة، وحكايات نساء يشبهونها في آلامهن ومخاوفهن، وحاجتهن للحب، ومواجهتهن لسلطة زوج أو أب أو أخ يقوم بقمع أحلامهن. 
من هذا المنطلق يمكن القول أن دنيا هنا تمثل البعد الرمزي،مما يعني أنه يمكننا فصل شخصية دنيا إلى قسمين: 
الأول : هو الجزء الواقعي المعاش لشخصية دنيا، وحياتها، ويومياتها بكل تفاصيلها الكثيرة.
الثاني : الجانب الرمزي الذي تعبر من خلاله دنيا عن معاناة شريحة عريضة من النساء اللواتي لا ينلن جانبا كبيرا من حقوقهن.
قامت الكاتبة بهدف تحقيق هذين البعدين في شخصية دنيا، بايجاد نمط معين من السرد العميق، الذي يسمح لدنيا بتمثل دور الراوي العليم، الذي يتسلل إلى خبايا النفوس ويكشف ما فيها، لذا نرى دنيا تحكي عن النزاع النفسي للأبطال، من خلال رؤيتها هي، وتأملها لواقعهم، وإدراكها العميق له، مما يجعلها مبصرة لكل ما يدور حولها، وبالتالي قادرة على كشفه من دون مراوغة.
لكن في مقابل سرد دنيا، يحضر سرد فريال صديقة دنيا التي تتولى مهمة السرد في فصول قليلة تحكي فريال قصتها مع خالد الذي تخلى عنها ليتزوج من امرأة تقليدية، وفي الوقت عينه تظهر شخصية الكاتبة علوية صبح، لتحكي عن موقفها من بطلتها دنيا التي تكتب الحكايات، ونرى الكاتبة تتشارك مع دنيا وفريال في عملية السرد. ولعل هذه الطريقة في السرد استخدمتها الكاتبة في روايتها ” مريم الحكايا” حين كانت مريم صديقة الكاتبة، وأرادت أن تكتب رواية عن الحرب وعن كل ما حدث.
تمثل المرأة في روايات علوية صبح- منذ روايتها الأولى ” مريم الحكايا” وفي روايتيها ” دنيا” و ” اسمه الغرام”، عنصر السرد المحوري، حيث تدور الحكايات من منظور النساء. وهؤلاء النسوة يحاولن التمرد على واقعهن، والبحث عن واقع أكثر رأفة بهن، وبأحلامهن، إلا أنهن غالبا ما يتعرضن لخيبة، وللصدام مع نظام أبوي قامع، يمنح السلطة للرجل، حتى وأن ظهر هذا الرجل في دور الحبيب إلا أنه سرعان ما يتحول إلى قامع لكل الأحلام والأمنيات. 
الجدير بالذكر أيضا أن الكاتبة علوية صبح، تعتمد في كتابتها على مستويات لغوية مختلفة في التعبير عن أبطالها، مستخدمة اللغة العامية اللبنانية، وأيضا لغة الأمثال الشعبية أحيانا، التي تلجأ إليها حسب تفاوت مستويات الأبطال. ولعل هذه القدرة المميزة على الانتقال في مستويات اللغة يمنح سرد الكاتبة الكثير من المتعة والسلاسة التي تقدم للقارئ رواية عميقة مكتوبة بأسلوب سلس بحيث يستطيع القارئ أن يتتبع حياة الأبطال
وواقعهم بسهولة تجذبه للقراءة، وتحرضه على المتابعة حتى الصفحات الأخيرة.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *