*سعيدة تاقي
«اللهم امنحني حكمة التمييز بين ما يمكنني تغييره وبين ما يجب علي تـقـبُّله».
موقِـع القَـلـم
حين يشدني عمل درامي أو سينمائي بقوة إلى النفس الإبداعي الذي أنتجَه، أغوص في متع المتابعة والتلقي والقراءة، ويستغرقني المكتوب مثلما يفتنني المرئي. فلا ينفصل في منظوري الناقد النصُّ المكتوب على الورق بتوقيع الكاتب أو الكاتبة عن العمل الدرامي أو السينمائي الذي تتداخل الجهود الكثيرة لإخراجه وتوليفه وفق رؤية المخرج القائد.
وكلما تمعنّت في المحطات والمـشاهد واللقطات، يستـدعيني الحوار إلى قـلـم الكـتـابة وإلى منظور السيناريست اللذين تكفَّلا بعنايةِ جعْلِ النصِّ إبداعياً قطعةً من الحياة بصنعة مُتـقـنَة ومن دون تكلُّف مسموع أو مرئي. تمضي اللغة في الغالب بسيطة جميلة، لكن في الوقت نفسه تكون راقية مفكِّرة عالمة متأنيَّة.
فلغة الحوار في العمل الدرامي (أو السينمائي) لكي تقنِع جماليا بقدرة السيناريو المكتوب على تشخيص خطابات شخصيات العمل، لا يمكنها أن تكون فضفاضة أو ضيقة، عليها أن تكون على مقاس الشخصية ذاتها، أيعني ذلك أن لغة النص الدرامي الناجحة يجب أن تكون من حميم المتداول الواقعي؟
الأمر ليس مقترنا بنسق فصيح أو عامي، بل بقدرة الحوار على أن يشف قدر الإمكان لكي تعبر الشخصية التي تشخصِّه على لسانها. لأجل ذلك تشكل اللغة التي تبني السيناريـو والحوار إلى جانب قدرة الإخـراج على ترجمة تلك اللغة بصرياً وحركياً وسمعياً ( إدارة الممثل والفضاء وانتقاءات الموسيقى والديكور والأزياء والإضاءة والمؤثثات…) بشكل شفَّاف يتيح المُتعة والإتقان، مناطَ القوة أو الضعف لأي عمل درامي. توقفت السنة الماضية عند «تصريف المشتهى في مسلسل «قلم حمرة» لكاتبته ريم مشهدي ومخرجه حاتم علي، وأتأمل في هذا المقال «تحت السيطرة». ليس في مقاصدي تناول المسلسل بالنقد، فالعمل مازال قيد المشاهدة والقراءة في حلقته السابعة والعشرين، لكن في البال بعض الملاحظات تثيرني في كل حلقة وددت الإعلان عنها في حق العمل.
قـيـد الانـتـقـاء
قد يكون انتقاء العمل وفق «منسوب الجودة الثقافية» الذي تلوح بوادره منذ وصلات العمل الإشهارية الأولى، ومعالم فريق العمل الذي يؤطره وأسماء الممثلين الذين تمّ اختيارهم لتأدية أدواره أَصْلَ الحكاية. فلا يمكن لمن يمضي بشغف وراء من عُرف عنه الإنتاج الاستهلاكي والأجر الأعلى والنجم الذي في فلكه يسبحون وغير ذلك، أنْ يتوقَّع أنه سيعود بعد «المتعة» المكلِّفَة و»المتكلَّفة» بفائدة تُـرجَى يمكن إلحاقها بسجل الأعمال الدرامية التي شاركت في صنع الحاضر درامياً وفنياً وإبداعياً وثقافياً وفكرياً. لذلك فاختلاط الحابل بالنابل في الموسم الرمضاني الذي يشبه فورة «التنزيلات التجارية» المتـنافَـس حولها بأرقام خــيالية، يقـتضي منذ البـدء أن يكون الاخـتيـار مـدروسا ومتعة المشاهدة المرغوب فيها تحت السيطرة، إن لم يكن زمن المشاهدة الرمضانية فسيحا، ويتحدَّد في عمل أو عملين. أما من ملك من زمنه ما يمكنه أن يُقضِّي نهاره وليله مسبِّحاً بأزرار أجهزة التحكم عن بعد، فلا شك سيصاب بالتخمة وعسر الهضم، لأن الأعمال الجيدة «ثقافياً» و»فنِّـيـاً» قليلة والإسفاف والبهرجة والتكرار والرداءة غالبة.
«تحت السيطرة»
أعود إلى جملة التصدير التي استدعت تلقائيا قلمي إلى هذا المقام. إنها جملة مقتطفة من الحلقة السادسة عشرة من مسلسل «تحت السيطرة» لمريم نعوم وتامر محسن، وردت على لسان مريم (نيللي كريم) وهي في غرفة العمليات في المستشفى يجهِّزها الفريق الطبي لإجراء العملية القيصرية ولإنجاب طفلتها التي رفضت مريم إجهاضها، أو الاستجابة لإلحاح زوجها حاتم (ظـافر العـابدين) بإيـقـاف الحمل، بل قاومت الإدمان على الهيروين لحمايتها منذ أن علمت بوجودها الحي داخل رحمها في الشهر الثاني للحمل.
«تحت السيطرة» لمريم نعوم وتامر محسن وتشخيص نيللي كريم وأحمد وفيق وهاني عــادل وظـافر العـابدين ومحمد فـراج وجمـيلة عوض ورانـيا شـاهـين ولـؤي عـمـران وإنجى أبو زيد غيرهم، مسلسل يخوض بعلم دقيق وإيمان عميق في منطقة شائكة، لخطورتها يعمها الإخفاء والتستُّر، وتشيع حولها الأوهام والأكاذيب، من دون أن تَـبِـين ملامحها الحقيقية والمرَّة إلا لأهالي المدمنين أو المنتكسين أو المتعافين..
هي شرائح ثلاث حاول المسلسل أن يصورَّها برؤية إبداعية متقنة وأنيقة، تعرف كيف تقترب من الواقع حتى تلامِس مآسيه الإنسانية، لكن من دون أن تسجِّله بشكل حرفي ومن دون أن تغرق في المباشرة والتقريرية. فشريف (هاني عادل) المتعافي والمشرف الذي يقود عبر الإشراف إلى إتمام مدمنين آخرين تعافيهم، يمتلك الخيط الرابط وغير المرئي بين كل الفــئــات داخـل أجـواء العـمـل؛ منـهم مـريـم الـمدمنة/ المتعـافـية والمتـعافـيـة/المنـتـكـسـة والمنتكسة/المتعافية، التي جسَّدت كل المراحل وكل خطوات برنامج التعافي، لكن لم يَـكِـل لها أقرباؤها وزوجها سوى الإضرار والمزيد من الإضعاف خوفاً من الحب، أو من الإيمان بالقدرة على الحب. وطارق (أحمد وفيق) المدمن المهزوز المستسلم لحب الإدمان ولإدمان الحب، دمّر زواجه بسلمى (إنجى أبو زيد)، وأفضى إلى وفاة صديقه ووفاة أخيه الأصغر، وانضاف ثالثا/عشيقا/شريكا في شراكة إبداعية رائعة ومذهلة فنياً إلى إنجي (رانيا شاهين) ومعتز (لؤي عمران) الزوجين المدمِنين المتواطئين في كل شيء حتى في بيع الجسد، من دون كرامة من أجل جرعتين أو أكثر، وفي حمل فيروس الإيدز والإقبال على الموت المادي والرمزي.
هانيا (جميلة عوض) كانت بدورها ضمن حلقة شـريف المشرف (هـاني عـادل) خطيب أمـها (جيـهان فاضل) السـابق، لكـنها وهي المسـتعصية، كانـت دوما المراهـقة المتمـردة، ولأجل ذلك لم تفلح سلطة أمها في ظل غياب الأب الدائم منذ البداية في تدجينها، أو في استيعاب عنفوانها، فكان المآل المأساوي للقاصر نهاية حتمية لتجربة جديدة مدهشة لا تسَعُها مدارك الأسرة، أو لمتعة لا تُلتَقَط إلا بعيدا عن أعين الوصاية الضيقة. المـسلـسل يصوِّر بـعـدسـة مـكـبِّـرة وبحـرفيَّة دقيقة واقع الإدمـان بماضـيه وحاضـره ومستقبله، فمن الواضح أن الاشتغال على المسلسل قد استغرق زمنا أطول مما استغرقته جلسات التصوير أمام الكاميرا. إنه يهتم بتفاصيل حياة السقوط في الإدمان وكأنه يرسم في كل مشهد أمام الكاميرا لوحة تشكيلية مبهِرة نابضة بالحركة والحياة، تفكِّر في كل ضربة فرشاة بعمق وأناة وجمال وإتقان، ولا تترك لأي من مُدخلات اللقـطة/الكـادر من حركة وصوت وإيماء وموسيقى وديكور… سوى خدمة الدلالة أو الإيحاء أو الرمز المرغوب إخراجه للمشاهد، أو دفعه إلى اكتشافه أو إدراكه أو تأمله..
«تحت السيطرة» مسلسل درامي يراهن على طرح أسئلة عديدة ولا يتورَّط في العثور على الأجوبة السهلة، بل يشرك المشاهد الفطن في التحليل وملء الفراغات والتأمل، وقد تكون الإشارة هنا إلى كل حكاية هانيا وعلي منذ بدايتها إلى الذروة التي مازلنا نتابعها حالياً، كفيلة بتأكيد المنطق الفني المكثَّف والجميل، الذي كتبت به مريم نعُّوم المسلسل في السيناريو مما يجعل الإيحاء في خدمة الدلالة، والحوار يقول كل شيء باختصار وجمالية وبلاغة. إن تلك الحكاية وكيف تم بناؤها بشكل موازٍ لحكايات مريم وحاتم وطارق وسلمى ومايا وهشام وإنجي ومعتز… في المشاهد واللقطات والحلقات وهي تنمو شيئاً فشيئا من قصة حب في حي «المعادي» الراقي إلى حضيض العدم والخواء والسرقة، انتهاء بتسليم علي لزوجته/حبيبته هانيا لتاجر «البيسة» يغتصبها ثمنا لما زوَّده به من جرعات، تكشف تلك الحكاية (حكاية هانيا وعلي) إضافة إلى مشاهد عديدة خلابة بقدرتها على قول الكثير بحركة وإيماءة بسيطتين، القدراتِ الفنية التي أدار بها المخرج تامر محسن كل العمل باقتصاد فني يعرف موقـع الحـركة والكـلمة والإشـارة والإيماءة والصوت والموسيقى، ويدرك عبر حسـن إدارة التشـخـيـص/الأداء والفـضاء والكاميرا والديكور أو المؤثثات عموماً كيف يترك للمُشاهِد مساحة للمتابعة الذكيَّة والتشييد الموازي.
في الختام
تحت السيطرة هو العمل الثاني الذي أشاهده بمتعة متأمِّلة للكاتبة مريم نعوم ولن يكون الأخير بالتأكيد في انتظار الموسم المقبل.. فقد كان تتبعي السنة الماضية لمسلسل «سجن النسا» من إخراج كاملة أبو ذكري في تحويل عن رواية فتحية العسال، غامراً بالشجن الذي أفلحت الكاتبة والمخـرجة والنجمة في إتقان جرعاته الفـنية على مـقـاس متـعة الـمشاهـدة ودهشة الاكتشاف وعمق الرسالة.
ويذكر أنه قد سبق للكاتبة مريم نعوم والمخرجة كاملة أبو ذكري أن التقـتا مع الممثلة المبدعة نيللي كريم في شراكة فنية ضمن مسلسل «بنت اسمها ذات» المأخوذ عن رواية صنع الله ابراهيم في إخراج مشترك بين كاملة أبو ذكري وخيري بشارة.
______
*نشر في القدس العربي