أنواع المقاطع السردية في القصة القصيرة جدا..أضمومة”تفاحة الغواية” للطيب الوزاني أنموذجا


*د.جميل حمداوي


خاص- ( ثقافات )

المقدمـــة:

تندرج مقاربتنا لمجموعة (تفاحة الغواية) للطيب الوزاني ضمن لسانيات النص التي تعنى بدراسة نسيج النص انتظاما واتساقا وانسجاما، وتهتم بكيفية تشكيل النص وتركيبه. بمعنى أن لسانيات النص تبحث عن الآليات اللغوية والدلالية التي تساهم في انبناء النص وتأويله وإنشائه. أضف إلى ذلك أن هذه اللسانيات تتجاوز الجملة إلى دراسة النص والخطاب ، بمعرفة البنى التي تساعد على انتقال الملفوظ من الجملة إلى النص أو الخطاب، أو الانتقال من الشفوي إلى المكتوب النصي. ويعني هذا أن لسانيات النص هي التي تدرس النص، وتحلل الخطاب، ولاتهتم بالجملة المنعزلة، بل تهتم بالنص باعتباره مجموعة من الجمل والمقاطع المترابطة ظاهريا وضمنيا. ومن ثم، فقد انطلق هذا التخصص العلمي من لسانيات الملفوظ مع إميل بنفنست (E. Benveniste) .
ومن ثم، تهدف هذه اللسانيات إلى وصف النصوص والخطابات نحويا ولسانيا، في ضوء مستوياتها الصوتية، والصرفية، والتركيبية، والدلالية، والتداولية، والبلاغية…كما توصف الجمل حسب المدارس اللسانية؛ لأن النص جملة كبرى. وما ينطبق على الجملة الصغرى ينطبق أيضا على الجملة الكبرى. 
وعليه، فلسانيات النص هي التي تدرس النص على أساس أنه مجموعة أو فضاء ممتد وواسع من الجمل والفقرات والمقاطع والمتواليات المترابطة شكلا ودلالة ووظيفة، ضمن سياق تداولي وتواصلي معين. ومن ثم، يحمل مقصديات مباشرة وغير مباشرة، ويهدف إلى الإبلاغ أو الإمتاع أو الإفادة أو التأثير أو الإقناع أو الاقتناع أو الحجاج…
وتدرس لسانيات النص ما يجعل النص متسقا ومنسجما ومترابطا، بالتركيز على الروابط التركيبية والدلالية والسياقية، سواء أكانت صريحة أم ضمنية. ولاتكتفي لسانيات النص بماهو مكتوب فقط، بل تدرس حتى النصوص الشفوية والملفوظات النصية القولية.أي: تبحث عن آليات بناء النص ، ومختلف الوظائف التي يؤديها ضمن سياق تداولي معين .
وما يهمنا ، في هذه الدراسة النقدية ذات الطبيعة اللسانية ، هو التوقف عند طبيعة المقاطع والمتواليات والفقرات التي وظفها المبدع الطيب الوزاني في بناء قصصه القصيرة جدا، والتعرف إلى بنياتها ودلالاتها ووظائفها.
المبحث الأول: مفهـــوم المقطــــع لغـــة واصطلاحا
يعرف المقطع، في( لسان العرب)، لابن منظور على النحو التالي:”مقاطيع الأودية : مآخيرها . ومنقطع كل شيء : حيث ينتهي إليه طرفه . والمنقطع : الشيء نفسه . وشراب لذيذ المقطع أي الآخر والخاتمة . وقطع الماء قطعا : شقه وجازه . وقطع به النهر وأقطعه إياه وأقطعه به : جاوزه ، وهو من الفصل بين الأجزاء . وقطعت النهر قطعا وقطوعا : عبرت . ومقاطع الأنهار : حيث يعبر فيه . والمقطع : غاية ما قطع . يقال : مقطع الثوب ومقطع الرمل للذي لا رمل وراءه . والمقطع : الموضع الذي يقطع فيه النهر من المعابر . ومقاطع القرآن : مواضع الوقوف ، ومبادئه : مواضع الابتداء . ” 
يفهم من هذه الدلالات اللغوية أن المقطع له بداية ونهاية، أو له مطلع وخاتمة. كما يدل المقطع على مواضع الوقوف مقابل مواضع الابتداء. أضف إلى ذلك أن النص يتشكل من مجموعة من المقاطع لها بداية ووسط ونهاية. ويعني هذا أن المقطع عبارة عن مطية عبور إلى نقطة النهاية، ابتداء من نقطة البداية. وأكثر من هذا هو فصل من الأجزاء التي يتكون منها النص الكلي، أو هو بمثابة شق من شقوق النص، أوفص من فصوصه الجزئية.
أما في الثقافة الغربية، فيعني المقطع أو المتوالية أو الفقرة (Séquences textuelles/Paragraphes/ Strophes) مجموعة من الجمل تشكل وحدة دلالية أو معنوية ما. وتترابط هذه الجمل بمجموعة من آليات الاتساق والانسجام، مثل: آلية السرد، وآلية الوصف، وآلية الإخبار، وآلية الحجاج، وآلية التفسير… ومن هنا، يمكن الحديث عن أنواع عدة من المقاطع: المقطع السردي، والمقطع الوصفي، والمقطع الإخباري، والمقطع التفسيري، والمقطع الحجاجي، والمقطع الحواري، والمقطع الإحالي، والمقطع الشذري، والمقطع الفلسفي، والمقطع الميتاسردي، والمقطع الشاعري، …
ومن جهة أخرى، يتضمن كل نص مقطعا مهيمنا على باقي المقاطع الأخرى. وفي الوقت نفسه، يحوي ذلك النص نفسه مقاطع ثانوية مكملة أو تابعة للمقطع المهيمن.
المبحث الثانـــي: نشأة لسانيات المقاطـــع
ارتبطت عملية التقطيع النصي بلسانيات النص أو تحليل الخطاب . ومن ثم، فقد كانت أولى محاولة لتقطيع النصوص أو الحكايات إلى مقاطع وفقرات ومتواليات مع كتاب(الحكايات الروسية العجيبة) لفلاديمير بروب (V.Propp) الذي صدر سنة 1928م ، حيث قدم بروب أول دراسة لسانية تحليلية لمقاطع الحكاية بغية تحديد الوظائف السردية، وتبيان عواملها وشخوصها النحوية. ويعني هذا أنه وضع مجموعة من المعايير للتنظيم المقطعي. ومن هنا، فالجديد في كتابه هو تقسيم كل حكاية إلى مقاطع ومتواليات سردية. ولم تكن المقارنة بين هذه الحكايات الروسية العجيبة قائمة على المعطيات الخارجية، بل كانت تستند إلى وحداتها البنيوية الداخلية.أي: كان بروب أول من استعمل تقنية التقطيع النصي إلى وحدات وفقرات ومقاطع وظيفية.
ويعد الباحث السويسري جان ميشيل آدم (J.M.Adam) من أهم الباحثين الذين اهتموا بتحليل النصوص والخطابات في ضوء لسانيات النص . وقد اهتم بدراسة المقطع النصي. وقد حدد خمسة أنواع من المقاطع أو المتواليات النصية التي توجد في خطاب معين هي: المقطع السردي، والمقطع الوصفي، والمقطع الحجاجي، والمقطع التفسيري، والمقطع الحواري. ويتكون كل مقطع من ملفوظات تركيبية متسقة ومنسجمة ومتتابعة لها وظيفة دلالية معينة ضمن التنظيم النصي. وتترابط هذه المقاطع والمتواليات بشكل متسلسل ومتدرج ومتسق. بل يمكن الحديث عن مقاطع مهيمنة ومقاطع خاضعة، أو مقاطع مدمجة (بكسر الميم) ومقاطع مدمجة (بفتح الميم).
المبحث الثالث: المقاطع النصية في (تفاحة الغواية)
من المعلوم أن القصة القصيرة جدا يمكن أن تظهر في مقطع واحد. ويمكن أيضا أن تكون جملة واحدة أو أقل من جملة واحدة ، ويمكن لها أن تتوالى في شكل مقاطع متتابعة ومتتوالية، بشرط أن تحافظ على وحدتها التجنيسية والدلالية والتركيبية والسياقية. 
ومن هنا، تتضمن مجموعة (تفاحة الغواية ) للمبدع المغربي الطيب الوزاني مجموعة من المقاطع النصية التي تشكل عوالمه القصصية القصيرة جدا. ويمكن حصر هذه المقاطع في الأنواع التالية:
المطلب الأول: المقطـــع الســــردي
ينبني المقطع السردي على مجموعة من الجمل السردية المتوالية والمتعاقبة التي تساهم في تحبيك القصة القصيرة جدا وتمطيطها وتعقيدها، بغية الانتهاء بحل ما على أساس أنه انفراج للأزمة المعطاة. كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (خلل ما !!):
” طرقٌ شديد .. 
نزل من الطابق العلوي .. فتح الباب .. لا أحد ..
عاد إلى الداخل .. صعد من جديد وهو يتساءل عمن يكون الطارق .. أعياه التفكير..
نزل إلى الأسفل مرة أخرى .. خلع الباب من مفاصله ..”
هذه القصيصة عبارة عن مقطع سردي واحد، يتكون من مجموعة من الأحداث السردية المتعاقبة : الطرق- النزول- فتح الباب- اختفاء الطارق-الصعود- التفكير- النزول- خلع الباب.إذاً، هناك مجموعة من الأحداث التي تنبني على عقدة الطرق. ولم تنفرج الأزمة السردية إلا بخلع الباب بشدة، وتركه مفتوحا على مصراعيه.
ومن هنا، فالمقطع يترابط – تركيبيا- بمجموعة من روابط الاتساق الظاهرة ، مثل: واو الحال (وهو يتساءل)، والإحالة عبر الضمائر العائدة على الشخصية الرئيسة : نزل – فتح- عاد- صعد – نزل- خلع…، والتكرار اللفظي (نزل- الباب…). كما يتميز هذا المقطع بانسجام داخلي ناتج عن العنوان الذي يحيلنا على التيمة المحورية للنص التي تتمثل في (أرق التفكير )، وتأثيره السلبي في الإنسان. كما يعبر أيضا عن خلل ما ناتج عن سوء التواصل بين الذات والموضوع.
المطلب الثاني: المقطــع الوصفـــي
يعتمد المقطع الوصفي على إيراد الأوصاف والنعوت والأحوال لوصف شخص أو مكان أو شيء أو وسيلة ما. ومن أهم القصيصات التي تتضمن المقطع الوصفي قصيصة (الغريب) :
” كانوا كل مساء يجلسون يتدبرون أمر واقعهم المزري ويناقشون سبل الخروج منه. واتفقوا أن يختاروا كبيرا لهم. 
صادف أن جاءهم غريب بشوش وديع خدوم مدع العفاف والكفاف. عرض خدماته بصوت خفيض وابتسامة تكاد تكون خجولة. فسحوا له مجلسا بينهم ورحبوا به. وما فتئ يقترب من وسط المجلس متخطيا بلباقته وتواضعه رقبة بعد أخرى حتى دنا من القاضي.. كانوا قد وثقوا به فاقترحوه كبيرا لهم… 
لما قام القاضي ليضع عمامة الحاكم على رأسه، لاحظ أن شعره مزيف السواد وتحته نتوء قرن مازال صغيرا…”
يتميز هذا المقطع الوصفي بتوفره على مجموعة من النعوت والأوصاف والأحوال(واقعهم المزري- غريب بشوش وديع خدوم مدع- بصوت خفيض- وابتسامة تكاد تكون خجولة- يقترب من وسط المجلس متخطيا- شعره مزيف السواد وتحته نتوء قرن مازال صغيرا…).
وعليه،تتميز القصيصة بتماسكها اللغوي (حروف العطف- ضمائر الإحالة- والتكرار اللفظي (القاضي)، وانسجامها الدلالي (زيف الغريب وشذوذه وشيطانيته الخطيرة).
المطلب الثالث: المقطع الحجاجي
يستند المقطع الحجاجي إلى توظيف الحجج والبراهين والروابط اللغوية ذات الطابع الحجاجي، كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (مسؤول):
“كان بحكم مهامه يساهم في دراسة كل طلبات عروض الصفقات. أصبح خبيرا في مساطرها الإدارية، الظاهرة منها والخفية.. 
خبرته بدت جلية على مظهر زوجته وعياله..”
يتضمن هذا المقطع الحجاجي مجموعة من الروابط والعمليات الحجاجية ، مثل: حجاج السبب (بحكم مهامه مسؤولا- دراسة الصفقات- الخبرة في مساطرها الإدارية الظاهرة والخفية)، وحجاج النتيجة ( رفاهية الأسرة وغناها). وبما أن النص ذو مقطع حجاجي، فمن الطبيعي أن يتميز بالاتساق والانسجام على مستوى التركيب والدلالة والتداول.
المطلب الرابع: المقطـــع الإخبـــاري
يتميز المقطع الإخباري ، في النص السردي، بتقديم الأخبار والأحداث والوقائع بطريقة مباشرة أو ضمنية، بهدف نقل الواقع المعطى ووصفه كما هو. كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (خناقــــة):
” هدوء غير طبيعي بالبيت وصمت ثقيل يخيم بينهما. فوران بركان الأمس خمد ، لكنه مازال يتنفس.. 
أغنية نجاة الصغيرة تأتي على غير انتظار : ما أحلى الرجوع إليه.. !
تتقدم نحو المذياع ، تخنق صوته ..”
يقدم لنا هذا المقطع القصصي القصير جدا مجموعة من الأخبار عن طبيعة البيت؛ إذ يخبرنا هذا المقطع بوجود صمت ثقيل، وهدوء طبيعي، وصراع بين الزوجين، وانقشاع ثورة بركان الأمس، والحنين إلى اللقاء الرومانسي المفقود.ومن ثم، يتميز النص باتساقه اللغوي (حروف العطف- وضمائر الإحالة- والملفوظ الحواري الداخلي)، وانسجامه الدلالي والسياقي.
المطلب الخامس: المقطــع التفسيري
يتميز المقطع التفسيري بتجاوز الإخبار إلى تفسير الأحداث والوقائع وفق مكوناتها التفسيرية والسياقية. كما يبدو ذلك واضحا في قصيصة (القصيدة):
” كتبت بالأمس قصيدة من نظمي على خشب الطاولة. دفعت ثمن قهوتي وغادرت.
عند عودتي هذا المساء، قصدت المكان نفسه. أخبرني النادل أن رجلين جلسا بالأمس على الطاولة نفسها بعدي، وانتبها للقصيدة التي لا تحمل توقيعا. اختلفا في صاحبها، واحتد النقاش بينهما إلى أن وصل إلى مسامع زبناء المقهى. وكل منهما يرمي الآخر بالجهل، ويدعي أنه سبق له أن قرأها في ديوان شاعره المفضل . 
– تبا لمن ابتلانا بهذه البلوى وشوه وجه الطاولة!!.. 
هكذا تلفظ النادل وهو يناولني قهوتي معتذرا عن كونه لم يفلح في محوها بالكامل.” ..
يتضمن المقطع السردي الدامج مقطعا ثانويا يمكن تسميته بالمقطع التفسيري. إذ تحاول مجموعة من الشخوص أن تفسر لغز القصيدة المكتوبة على طاولة المقهى ، بالبحث عن صاحبها الأصلي، إلى أن اختلف زبناء المقهى في ذلك، وساروا في اتجاهات مختلفة. ومن ثم، يتميز النص بتماسكه الاتساقي (حروف العطف- أسماء الإشارة – ضمائر الإحالة- الاسم الموصول- التكرار اللفظي)، وانسجامه الدلالي ( العنوان- التيمة الموضوعية – والسياق التداولي).
المطلب السادس: المقطـــع الحـــواري
يقصد بالمقطع الحواري وجود حوار بين طرفين متكلمين حول موضوع ما، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة(تنصل):
” كاتبته على الخاص قائلة: 
-أستاذي الفاضل، تحية نسائية ، عفوا مسائية.. 
– مرحبا سيدتي، كلتا الكلمتين شاعريتان.. من تكن الأخت الكريمة ؟ 
– معجبة .. بقلمك.. هههههه 
– معذرة، مضطر لقطع الحوار.. حاسوبي مزاجي الطبع ويغضب من ذكر القلم بحضرته..”
يتميز هذا المقطع بتوارد الحوار بين الكاتب ومعجبة بقلمه السيال. وينتهي الحوار بغضب الأستاذ المبدع على هذا التدخل المفاجىء، ورغبته في توقيف هذا الحوار الذي ينم عن رغبات شبقية لاشعورية ، أوكبت حرماني على مستوى اللاوعي، أساسه الواقع وضغوطاته المباشرة وغير المباشرة. ومن هنا، فهذا المقطع الحواري متسق ومنسجم بطبيعته التلفظية نصا وكتابة وتواصلا.
المطلب السابع: المقطــع الشاعــري
يتميز المقطع الشاعري بتوظيف جمل متناسقة ومتآلفة، تتخذ طابعا شاعريا مؤثرا أقرب إلى التأمل والوجدان العاطفي.ومن أهم النماذج الدالة على ذلك قصيصة (اختراق):
” في سفر بأحشاء خلية مجهرية لي ، وجدتك تتناسلين في نسخ متعددة، تارة مسترخية على جدران الكنشجات وتارة تسبحين كعروس البحر في السيتوبلاسم مرددة أغنيات العشق وأنشودة الحياة..
قرأتكِ رسائلَ بوحٍ تعددت واخترقت كياني … “
يتضح لنا ، مما سبق، أن الكاتب وظف مقطعا شاعريا يرصد فيه الخلية المجهرية في أبعادها العضوية والإنسانية والتناسلية. كأني بالكاتب يخاطب إنسانة متخيلة تدخل وجدانه وكيانه الذاتي. وتمتاز القصيصة بتماسكها التركيبي (الإحالة- والعطف- التشبيه- التكرار)، وتنسيقها الدلالي(العنوان- التيمة المحورية).
المطلب الثامن: المقطع الإحــــالي
يقصد بالمقطع الإحالي ذلك المقطع الذي يرتكن إلى التناص، والحوارية، والتضمين، والاقتباس، والاستشهاد، والمستنسخات النصية، والمعرفة الخلفية ، كما يتضح ذلك جليا في قصيصة (كذب نيوتون ولو صدق ): 
” في جلسة استرخاء على العشب كان ينظر لشجرة تفاح ، انتظر طويلا. التفاحة لم تسقط …
مرت من أمامه حسناء .. التقت عيناهما .. اقتفى أثرها…
خلص إلى وجوب تعديل النظرية : لا وجود للجاذبية إلا في اتجاه أفقي…”
يتضمن هذا المقطع الإحالي مجموعة من الإشارات الإحالية التناصية التي تعبر عن المخزون الثقافي الغني لدى المبدع؛ إذ يستشهد بنظرية نيوتن الفيزيائية في مجال الجاذبية، بتغييرها من الوجهة العمودية إلى الوجهة الأفقية . والمقطع في قمة السخرية والتهكم والمفارقة.
ويعني هذا أن الجاذبية عند علماء الغرب جاذبية علمية عمودية . في حين، تتميز الجاذبية العربية بطابعها الأفقي، وانجذابها إلى مؤخرات النساء.
ونجد المقطع الإحالي كذلك في قصيصة (تفاحة الغواية):
” كتبت “شهرزاد” لـ “طيف المجنون” تقول: 
أحس أنكَ تمر كل صباح من تحت شرفتي.. أنكَ تسرقُ النظر من خلف ستائري.. يكفيني هذا.. لا يهمني إن ألقيتَ التحية أو تظاهرت بتجاهلي.. فأنا أعرف كبرياءكَ وعنادكَ.. أعرف أنكَ تتعمد شح الكلام وأنك تتستر خلف الجفاء وأنك تتهيب النساء..
لكنك لا تعرف أني لست واحدة منهن.. وأني وحدي جمَّعتُ بداخلي كل غرائز حواء منذ استِكانةِ الأم إلى الشجرة.. وأني اغتلت يأسي وقبعت أنتظر.. أنتظر منك تحيةَ صباح .. لأهبك تفاحة البداية…”
يتميز هذا المقطع الإحالي بتوظيف تراث ألف ليلة وليلة ، والإشارة إلى غواية شهرزاد، وتعنت شهريار . وهنا، يشتغل الكاتب على التراث السردي، وتوظيفه بطريقة حوارية تأصيلية .
المطلب التاسع: المقطع الميتاسردي
نعني بالمقطع الميتاسردي الكتابة عن المتخيل السردي ، برصد جوانبه الفنية والجمالية والنقدية، و الحديث عن هموم المبدع الذاتية والموضوعية، والإشارة إلى آليات الكتابة القصصية ، وفضح اللعبة السردية، كما يبدو ذلك بينا في قصيصة (احتفال):
” أراد أن يهديها قصة قصيرة جدا ليحتفل بعيدها !!
خمن وقدر. مزق ورقة وثانية وأخرى .. تاهت منه الكلمات ..
أيقن أن نظرة حنان واحدة منها لا توصف بأكوام الصفحات …”
يشير هذا المقطع الميتاسردي إلى جنس القصة القصيرة جدا، وحرفة المبدع الذي خصص حبيبته بقصيصات عديدة للتعبير عن إحساسه وشعوره نحوها. لكنه لم يستطع ذلك، بعد أن عجزت الكلمات عن الاستجابة. فمزق قصصه، واستسلم لنظرات عشيقته التي استعبدته ولها ووجدا وصبابة.
ويلاحظ أن الكاتب قد وظف خاصية التنكير على مستوى الشخوص، ثم تجاوز الجمل السردية البسيطة ذات المحمول الواحد إلى الجمل المركبة ذات المحمولين فأكثر، باستعمال المركبات المصدرية (أيقن أن- أراد أن..). كما استعمل جملا متسقة بحروف العطف (وأخرى)، وضمائر الإحالة (ضمائر الغياب)، وصورة التدريج (مزق ورقة وثانية وأخرى – نظرة حنان واحدة منها لا توصف بأكوام الصفحات..)
ويتجلى هذا النوع من المقاطع واضحا أيضا في قصيصة (نص يحتفظ به) التي تتضمن مقطعا ميتاسرديا:
” كنت منذ لحظة في حالة توتر شديد. وليس من عادتي أن أكسر مزهرية أو أصرخ تحت جسر قطار أثناء مروره لأفرغ شحنات الغضب التي تنهشني. 
قصدت المطبخ .. التهمت ما وقعت عليه يدي .. ثم بللت وجهي .. دون جدوى. 
أحسست بحاجة ملحة للكتابة من أجل الكتابة. أخذت قلما وورقة. أفكاري لا تنتظم .. أعيد قراءة ما أكتب مرات .. بعد حين ، بدأت جملي رويدا تستقيم.
أحسست بشحنات الغضب تتلاشى مع كل كلمة أخطها .. ودون إرادتي ، تنهدت تنهيدة عميقة أحسست معها بثقل ينزاح من على صدري..
أنجزت على هذا النحو نصا رائعا ، أفضل أن أحتفظ بفحواه لنفسي..”
يرصد هذا المقطع النصي عوالم الكتابة بمختلف تجلياتها، وانشداد المبدع إلى هذه العوالم للتعبير عن مشاكله الذاتية والموضوعية، ولاسيما في حالة الغضب والتوتر والهيجان الصارخ.
المطلب العاشر: المقطع التلفظــــي
ينبني المقطع التلفظي على وجود ملفوظات حوارية أو كلامية تواصلية، تعبر عن وجود الشخصية في الزمان والمكان. بمعنى أن المقطع التلفظي يعبر عن اندماج الشخصية المتلفظة داخل المقطع النصي، والتعبير عن حضوره الذاتي. ومن القصيصات الدالة على ذلك (تجرد):
” كان ضمن لجنة مناقشة أطروحتها. احتدم النقاش. أعطي الكلمة. انسجم في دور الممتحن…
ذات لحظة، خاطبها قائلا: يا آنسة، تقولين في الفقرة الفلانية إن…
انفجرت القاعة بالضحك .. احمرت وجنتاها.. طأطأ مبتسما قليلا قبل متابعة تدخله..
على مائدة العشاء، نطق الطفل بنبرة عتاب : لماذا جعلت الناس يضحكون من أمي هذا الصباح يا أبي..؟”
تتميز هذه القصيصة بحضور المقطع التلفظي بشكل واضح وجلي، في شكل انتقادات تقويمية من قبل الزوج لزوجته أثناء مناقشته لأطروحتها الجامعية، انطلاقا من رؤية نقدية موضوعية، تتسم بالتجرد وعدم التحيز الذاتي. وتضمنت القصيصة كذلك ملفوظا يعاتب فيه الطفل أباه على ما بدر منه في حق أمه.
إذاً، يعبر هذا التلفظ عن حضور الزوج (يا آنسة، تقولين في الفقرة الفلانية إن…)، واندماجه في القصيصة في الزمان والمكان. كما يعبر هذا التلفظ (لماذا جعلت الناس يضحكون من أمي هذا الصباح يا أبي..؟) عن اندماج الطفل في القصيصة في الزمان والمكان كذلك. ومن ثم، يساهم هذا المقطع التلفظي في تحبيك القصيصة واتساقها وانسجامها وتماسكها وتنضيدها وتنسيقها.
المطلب الحــادي عشر: المقطع الحلمــي
ترد بعض المقاطع النصية ، في قصيصات الطيب الوزاني، في شكل مقاطع حلمية قائمة على استرجاع الماضي، وتذكر الأحداث الفائتة، ومخاطبة الطيف الحلمي، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (التئام شمل):
“يغادر ضجيج مرح الأحفاد .. يتجه نحو النهر. يجلس على حافته متكئا على صفصافته المفضلة. يرنو إلى الماء طويلا فيرى شريط حياته يتدفق على تموجاته . تتدافع تفاصيل الأحداث والذكريات أمام عينيه. فجأة، يتهلل وجهه بشرا. يمد يده باسما، يطلبها للجلوس بجانبه، يأتيه طيفها، تغمره سعادة جارفة، ينتشي، يسترخي، تسقط يده إلى جانبه بلا حراك.
ويبقى النهر ينساب ..”
يعبر هذا المقطع عن عالم الأحلام المفقودة ، حيث يحضر فيه خيال المحبوبة المعشوقة. بيد أن هذا المقطع ينتهي بحالة الموت والفقدان والضياع وخيبة الأمل، مع استمرار الطبيعة في انسيابها العادي.
ومن جهة أخرى، يلاحظ أن المقطع يتماسك – نصيا – بضمائر الإحالة الدالة على الغياب، ثم استعمال حروف العطف(فيرى)، والتكرار اللفظي (النهر). لكن انسجامه وتنسيقه يتحقق بالعنوان (التئام شمل)، ووجود موضوع محوري (فقدان العشيقة)، ووجود سياق تأويلي (كثرة الأحفاد- رومانسية الشخصية- تذكر الماضي-التأشير على الموت (تسقط يده بلا حراك))
المطلب الثاني عشر: المقطــع الفانطاستيكي
يتميز المقطع الفانطاستيكي بتوظيف الغريب والعجيب وخاصية التحول المفارق، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة (مغالطة):
“عدت للتو من رحلة فضائية زرت خلالها عطارد ونبتون وزحل… 
كان كوكب الأرض يبدو لي من هنالك صغيرا جدا مهما اختلفت زوايا النظر… 
الغريب..!! أنني لم أكن أراني عليها بتاتا، رغم إحساسي المتضخم بكياني..!!!”
يتميز هذا المقطع الفانطاستيكي بخاصية الغرابة والتحول والاندهاش الخارق للأحداث التي ترد في هذه القصيصة ، وتتميز بطابعها الغريب الذي ينم عن رغبة دفينة في تجاوز هذا الواقع المتردي لاكتشاف واقع أرحب وأفضل.
المطلب الثالث عشر: المقطـــع التشخيصي
يستند المقطع التشخيصي إلى بلاغة التشخيص والإحياء والأنسنة . وبذلك، تتحول القصيصة إلى عالم من الرموز والكنايات المتوارية والألغاز الذكية اللافتة للانتباه، كما يبدو ذلك جليا في قصيصة ( تحفة):
” اقترب منها.. خلع إزارا يحجبها.. دنا أكثر.. قامتها من قامته.. ربت عليها بلطف.. قبلها.. مد يده إليها بزيت مرطب.. داعب أحشاءها.. استمع لنبضها الرتيب.. علت وجهه ابتسامة رضا… 
ضبط عقاربها على لوحة الأرقام الرومانية، وترحم على جده الذي أورثه إياها…”
يتميز هذا المقطع القصصي القصير جدا بخاصية التشخيص القائمة على مجموعة من الأفعال الإيروسية الشبقية ( خلع إزارا يحجبها- ربت عليها بلطف- قبلها- داعب أحشاءها…). كأننا أمام مشهد جنسي مثير، ومنظر رومانسي رائع. في حين، تتحدث القصيصة عن ساعة عتيقة وأصيلة موروثة عن الجد. وبهذا، يتحول الجامد إلى المشخص الإنساني عبر مجموعة من الاستعارات والأفعال الإنسانية الحية .
ويتحقق تماسك النص وتنضيده بخاصية التنكير(الشخصية غائبة ونكرة)، وخاصية الإحالة (استعمال الضمائر المقامية والسياقية)، والاشتقاق(قامته/ قامتها)، وحروف العطف( وترحم)، وخاصية الإتباع (تتابع الأفعال والجمل). أما عنوان النص (تحفة)، فهو الذي يحقق انسجام النص وترابطه الدلالي والتداولي.
المطلب الرابع عشر: المقطع الصامت
المقطع الصامت هو الذي يحضر في القصة القصيرة جدا للتعبير عن الفراغ أو الصمت أو الرفض . ويسمى كذلك بالحوار الصامت. لكن يلاحظ أن هذا المقطع قد يدمج ضمن مقطع أكبر كما في قصيصة (كابوس طفل)، حيث يحضر المقطع الصامت في آخر القصيصة، ضمن مقطع تلفظي وحواري أكبر ومهيمن:
” دخل غرفتي خائفا وأنا أغط في نوم عميق. ناداني. استيقظت مفزوعا. 
– ما بك صغيري؟
– أنا أشتم رائحة غريبة بمنبهي!!
– وأي رائحة ستكون بالمنبه؟
– لا أدري!!.. قد تكون رائحة الزمن.. لقد زكمت أنفي…
– ………..!!”
يعبر هذا المقطع عن صراع الذات مع الزمن المتعفن الذي فسدت رائحته، وتدنست عقاربه بفعل الإنسان الخامل والمستلب.أي: ترصد القصيصة كساد الزمن ورتابته وسكونه.لذلك، استعمل الكاتب نقط الحذف والصمت، في آخر القصيصة، تعبيرا عن استغرابه واندهاشه لموقف صغيره الذي تنبه إلى عفونة الزمان وانتكاسه وترهله. ومن ثم، تتميز القصيصة باتساقها وانسجامها تركيبيا ودلاليا وتداوليا.
المطلب الخامس عشر: المقطع التأملي
يرتكز المقطع الـتأملي على إيراد مجموعة من الـتأملات الذاتية أو الفلسفية بغية التحملق في الموضوع بعمق وتحليل وسبر.كما يظهر ذلك بينا في قصيصة (قصتي ولوحة):
” كنت مرة أرسم لوحة. لم تستقم خطوطي، ولا ارتحت لتدرج الأصباغ. حاولت مرات دون جدوى. تضايقت. غضبت. مسحت بيدي على القماش في استدارة عصبية. تمازجت الألوان الطرية. تركت مشروع لوحتي العصية وغادرت محبطا إلى حين..
عند عودتي ، تطلعت للوحة وأنا لا أنتظر أن أعثر على شيء بها يعجبني. لكن، مفاجأتي كانت كبيرة. أثارت انتباهي تلك الخطوط المنسابة بجمالية في شكل دائري بسبب فعلتي. أصبح للخلفية معنى جديد لم يكن في حسباني، انمحت أو بهتت بعض التفاصيل. 
اقتربت من الحامل، تأملت اللوحة مليا، ابتعدت، اقتربت، فرحت، رقصت، صرخت، .. قبلت اللوحة وحملتها بعناية إلى مكان حيث تكون في مأمن من جنون آخر قد يصيبني..”
يتضمن هذا النص القصصي القصير جدا نظرة تأملية إلى لوحة تشكيلية رائعة وأخاذة، انبهر بها صاحبها انبهارا لافتا للانتباه حتى تقمص جنونها. ومن ثم، يلاحظ أن المقطع التأملي جزء من المقطع السردي العام اندماجا وانصهارا وتوحدا.
الخاتمــــة
يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن الطيب الوزاني يمتهن حرفة الكتابة بشكل جيد، ويتقن ممارسة القصة القصيرة جدا إتقانا محكما، بتوظيف متخيلات سردية متنوعة ذاتية وموضوعية وميتاسردية وفانطاستيكية وحلمية.أضف إلى ذلك أنه وظف مجموعة من المقاطع النصية، مثل: المقطع السردي، والمقطع الحواري، والمقطع الوصفي، والمقطع الميتاسردي، والمقطع الصامت، والمقطع التلفظي، والمقطع الإحالي، والمقطع الحجاجي، والمقطع الشاعري، والمقطع الفانطاستيكي، والمقطع الإخباري، والمقطع التفسيري، والمقطع التأملي، والمقطع التشخيصي، والمقطع الحلمي…
كما تتميز مقاطعه النصية بمجموعة من الخاصيات، مثل: خاصية التنكير، وخاصية الاقتضاب، وخاصية التكثيف، وخاصية التسريع، وخاصية الاتساق، وخاصية الانسجام، وخاصية التراكب، وخاصية الإتباع، وخاصية التشخيص، وخاصية الترميز…
ويعني هذا أن الطيب الوزاني ، في أضمومته (تفاحة الغواية)، كاتب متميز بارع في مجال القصة القصيرة جدا، وحذق في امتلاك أدوات هذا الجنس الأدبي الجديد بنية ودلالة ووظيفة.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *