السردُ الحكَاءُ في «غرفة فرجينيا وولف» للقاصة المغربية لطيفة باقا


*زهور كرام

كثيرا ما يُعتمد الأسلوب الشعري مدخلا للإقامة في القصة القصيرة، والاهتمام بالإيقاع كإمكانية لامتداد الحكي لدى القارئ. والذريعة في ذلك، أن القصة القصيرة تقوم على حكي الحالة أكثر من الحدث، والحالة غير الحدث، تحتاج دعامات أخرى لكي يمتد حكيها، أو يبحث صاحبها عن طرق سردية ليجعل الحكي يرتوي بالحالة، لهذا تأتي الجملة القصصية ـ في غالب الأحيان- قصيرة، تشبه طبقات الحالة، وإيقاعها ومزاجها. لكن الكاتب المُبدع، من يجعل الجملة وإن قصُرت، امتلأت نصا.

نتحدث ـ في هذا المقام ـ عن التكثيف والاقتصاد، ولهذا، عندما نقرأ جملا يضيع منها التكثيف، ويرتبك عند مُستعملها مفهوم الاقتصاد، حين يتم استبداله وفهمه بالتلخيص، فإن شيئا من الفقر القصصي الإبداعي يصل إلى القارئ. من يعتقد أن كتابة القصة القصيرة عبارة عن اختصار لحكاية، أو مجرد نثر لحالة، تسقط عنه الإبداعية. كما أن ذريعة الشعري كإمكانية أسلوبية، تُحقق امتدادا للحكاية، تسقط عندما يحضر الشعري، ويغيب القصصي. نستحضر هذه الملاحظات، ونحن نسافر ـ نقديا- في خطاب القصة القصيرة لدى الكاتبة المغربية لطيفة باقا، في مجموعتها القصصية «غرفة فرجينيا وولف» (2014)، لأن الكتابة في هذه التجربة، تقترح علينا مدخلا مُغايرا لخطاب القصة القصيرة، بعيدا عن اعتماد الأسلوب الشعري، والرهان على الحالة باعتبارها أساس السرد القصصي، أو الالتزام بالجملة القصصية القصيرة التي تُحدث إيقاعا موسيقيا، فتسمح بانتشار الحكي. 
إن السرد عند لطيفة باقا، سرد حكَاء بامتياز. تختصر هذه الجملة أهم مُقوم لخطاب القصة في «غرفة فرجينيا وولف»، والعُهدة على قراءة قصصها، التي تُعطي الانطباع أن الراوية – الساردة توجد مباشرة أمامك، أيها القارئ/القراء، وتحكي لها- لنفسها- ولك حكاية، تتولد من سردٍ حكَاء. لكن حكاياتها، لا تشبه تلك التي كنا ننام عليها ونحن صغار، أو تلك التي يحلو لنا سماعها، ونحن نتجول في بعض ساحات الحكي، مثل ساحة جامع الفنا في مراكش في المغرب، حيث الراوي يحكي كل مساء، الحكايات نفسها، لكن ليس بطريقة الحكي نفسها، لأن الحكاية تموت مع الطريقة الواحدة، ولأنها ترتوي كل مساء بجمهور مختلف، أو تلك التي توارثناها من حكايات شهرزاد. 
عندما نقرأ قصص الكاتبة باقا نستحضر كل فضاءات الحكايات بدءا من «ألف ليلة وليلة»، ويصلنا إحساس أن خطاب القصة موجه إلينا، ونحن الآخر الذي يُشكل منطقه. هناك اشتغال سردي بالحكي الذي يصبح مرة، أقوى من السرد عندما يُتقن شد الانتباه، ومرة ثانية يُرافق السرد في تدبير القصة، وثالثة، يتوحد السرد بالحكي، فلا نستطيع التمييز بينهما. ويظهر ذلك في وجود ملفوظات يتم تأطيرها عبر قوسين، تعبر عن زمنين تعيشهما الساردة – الراوية بين الحكاية والسرد، وتُعلن- أحيانا- عن تفضيلها للحكاية، مثل:» لقد كنت مكتئبة (أنا عموما لا أحب كلمة «لقد» هذه، لا تنتمي إلى عالم الحكاية، وإنما إلى عالم الكتابة» (قصة «تفاحة آدم»). ساهم هذا التداخل بين الحكاية والسرد في امتلاء القصص بملفوظات ولغات وأصوات اجتماعية وسياسية وفكرية، وأحيانا يحدث اللبس بين هذه الأصوات وصوت السارد الذي يأتي مرة مؤنثا في أغلب القصص، وأخرى مذكرا، إضافة إلى صوت النقد الأدبي الذي يبحث في معنى كتابة القصة القصيرة «تفاحة آدم». وتأتي هذه الملفوظات إما للتوضيح، أو تقديم معلومة، أو التعبير عن موقف، وأحيانا تأخذ شكلا من المواجهة بين الحكاية والسرد. لهذا، يرافق قراءة قصص «غرفة فرجينيا وولف» نوع من صخب الأصوات التي يرتفع صداها عندما تنتصر الحكاية، وتخفت مع تقدم السرد. فالحكاية في القصة القصيرة لدى لطيفة هي التي تقترح صيغها السردية، والقارئ/المُستمع هو الذي يُشكل منطق تدحرج القصة. 
عندما نقرأ قصة واحدة، نبدأ بحكاية واحدة، لكن بطرق مختلفة ومتباينة، تجعل منها حكايات. نمثل لهذا النموذج بقصة «واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة…»، حيث محاولة تسريد حلم، من خلال لقاء مُرتقب بين الساردة ووالدها الميت، الذي رأته في الحلم «لقد سحبني أبي من يدي في الحلم»، يتحول الحلم إلى حكاية مسرودة بشكل أفقي، ثم انتقال الشكل الأفقي إلى شكل ارتدادي عندما تعتمد الساردة تقنية الارتداد وإعادة الحكاية إلى أصلها، انطلاقا من مكان اللقاء في ساحة باب العلو، نزولا سريعا نحو أصل الحكاية/الحلم، مرورا بأمكنة العبور (شوارع، حافلات، أصوات، ترامواي، إدارات…)، وحالة المزاج (حركات الناس…)، إلى الحلم. يتم الاشتغال الدقيق بالزمن في هذه القصة وغيرها، إذ نجد للزمن وضعا خاصا لكونه يبني الحكاية نصا، كما يتجلى الاهتمام بسؤال الزمن من خلال حضور الأب- الميت بين زمن الغياب/الموت والحضور/السرد، وعبر هذين الشكلين من الوجود، تحقق الساردة – الابنة حياة لذاكرتها (الطفولة، مخلفاتها في الأفكار والمعتقدات والمشاهد…) وحاضرها. تشتغل الكتابة في المجموعة بالزمن في مساحاته الملتبسة. بقدر توغلها في زمن الماضي، جاعلة منه أثاث غرفة الحكي، فإنها ترتمي في المستقبل جاعلة منه إمكانية تطهير زمن الماضي من الفعل اللاإرادي، تقول الساردة «أتخيّلني في الآتي من الأيام» (غرفة فرجينيا وولف). 
ولهذا، فطريقة تركيبة النص عند «باقا» مختلفة ـ إلى حد ما – عن المتعارف عليه، الذي قد يأخذ إما شكل حكاية، أو تقطيع حكاية إلى محكيات، أو نثر حالة عند تجميعها تُشكل حكاية، النص في مجموعة باقا يختلف عن هذه الصيغ المألوفة، لأن ترتيب الحكاية يأخذ منطقا آخر، يبدأ من جزئية قد تكون صغيرة، (وصف حالة، مزاج، شارع…)، أو غير لافتة للدهشة، ثم ينحرف السرد إلى فكرة أخرى، لم يكن سياق فكرة الافتتاح السردي يدعو إليها، أو يُحتمها في مسار تطور النص، لتلتحق فكرة ثالثة، قد تبدو بعيدة عن الأولى، وغريبة عن الثانية، لكن القارئ لا يشعر بهذه الفجوة المُحتملة، كما لا يرتبك عند القراءة، ولا يتعثر عند النزول حكائيا، فنظام السرد يأخذه تدريجيا في مساحات متشابكة، لكنها دالة. لأن القارئ قبل أن يطرح سؤال انحراف الحكايات، يلتقي بأجزائها وقد تجمعت، وبأفكارها وقد توحدت، لتحقق حكاية سيتذكرها القارئ عندما يُغادر النص. 
ففي قصة «رائحة القسوة» تبدأ الحكاية من خروج الساردة من عيادة الطبيب، وفي الوقت ذاته خروج من سرد إلى آخر، حيث الإمكانيات مفتوحة على احتمالات علاقة الساردة بالذاكرة وهي في الشارع، إذ يصبح كل وصف لكائن أو شجرة أو لون حدثا يبتعد بنا عن مدخل الحكاية أو عن الحكاية المفترضة من الأول، غير أننا لا نشعر بانتقالات سردية فجائية، وهنا تكمن قوة الربط السردي لدى باقا. نلتقي – إلى حد ما – بتقنية الضفيرة في السرد. كأن الساردة تضفر الحالة مع الوصف، فتصنع جزءا من حكاية محتملة، تضفرها مع حالة جديدة، شيئا فشيئا تبدأ الضفيرة في التحقق، فيصبح للقصة عيون وآذان ولسان وخطوات ولغات لا نقرأ عنها، إنما نسمعها. تتكون القصة وهي تُسردُ. قد يقول قائلٌ، ولكن النص الأدبي بشكل عام هو غير موجود إلا من خلال فعل تحققه السردي الذي يُدخله في نظام دال. هذا صحيح، لكن الأمر مختلف هنا، لأن طريقة السرد، تعطي الانطباع بأن السارد لا يتحكم في نظام القصة، وغير مسؤول عن منطق الترتيب، ذلك لأن السرد يعتمد على الانزياحات المتكررة للحكي، ولهذا عند كل محطة في الحكي/السرد، نفقد اتجاه الحكي، عندما تشتغل الانزياحات، كأننا أمام صيغة الحكاية الشفهية التي يُغيرها جمهورها المتغيَر. 
عند ملتقى الحكاية بالسرد، تتحقق القصة نصا عند «باقا». ويأتي النص عبارة عن طبقات تؤرخ لذاكرة السرد الحكاء. وعبر هذه الطبقات نسمع بوح المقيمين في غرفهم الخاصة، الغرف المنبوذة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، كما نقرأ خطاب غرفة فرجينيا وولف، باعتبارها المكان الخاص للغة المرأة/صوتها، وكتابتها/ أثرها. ومن غرفة لطيفة باقا تخرج حكايات الفئات المهمشة (المرأة والطفولة .. ) والأفكار المنبوذة (الحرية… ) والزمن البطيء (التقاعد).
كيف نصبح بعد الخروج من غرفة الأسرار، ومن حلم اللقاء بالموتى؟ كيف نعود من زمن الطفولة، ونخرج من حلم يقظة ونحن ننتظر سيارة نقل؟ كيف نصبح عندما نقرأ القصة، خاصة عندما تكون بحجم غرفة فرجينا وولف، وحلم لطيفة باقا؟.
الأكيد، أننا نتغير، لكن الأكيد أن القصة، والكتابة بشكل عام عندما تُبدع غرفتها الاستثنائية فإنها تنتج إدراكنا الفلسفي، أو على الأقل، تمنحنا نزهة في الخيال بتوابل فلسفية ووجودية واجتماعية.
_____
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *