*عواد علي
تكتب لطفية الدليمي صاحبة “سيدات زحل” و”بذور النار” و”من يرث الفردوس” و”موسيقى صوفية” و”ما لم يقله الرواة”، وغيرها من الكتب، في كتابها “يوميات المدن”، عن تجربة المنفى “مكابدات التيه في فندق عدن: يوميات باريسية”، وتجوالها في أوروبا “زيارة آرثور رامبو: بيت في اللامكان.. والمتحف طاحونة المستحيل”، “زيوريخ… القصيدة التي تسمى مدينة”، “قبرص: الوليمة الأرسطية”، ومشاهداتها “ليل المتاحف في بيرن”، و”مركز الفنان بول كلي في بيرن تزاوج الفن والروح مع الطبيعة”، كما تكتب حياتها وعلاقاتها.
كل ذلك تكتبه لطفية الدليمي ببوح شاعري جريء، وتلتقط له جماليات الأمكنة ببصيرة روائية وذائقة شعرية، كما تلاحق المصائر والأفكار وإبداعات الفن والأدب وموضوع الحب. في فندق “عدن” المتواضع، في الدائرة الباريسية الخامسة عشرة، تبدأ رحلة الكاتبة في مواجهة العدم. كان هذا الفضاء أوّل نقطة لها في التعاطي مع متاهة المدينة الكوزموبوليتانية المغوية: “حياة باريس أشبه بالكاروسيل -دوامة الخيول الدوارة في السيرك- تدوّخك وتدور بك ثمّ تباغتك بالنهاية الوشيكة لتهبط إلى الأرض، مترنحا ووحيدا وفي ثيابك بقايا رعشة وفي قلبك بقايا غبطة طفولية: أنت في باريس”.
هذه الحياة، كما تراها الدليمي، جذلى، سحرها عابر، مؤقّت كشمس النهار، متغيّر، ومخادع، سحرها مجون الزمن في اللامكان، جنون البشر في اللازمان، كأنّ قيام الساعة آت بعد بضعة أنفاس من هواء الشتاء، مدينة لفرط اشتغالها بالخيال تبدو أشدّ واقعية من الحلم بها. وتحاول الكاتبة أن تتحدّى واقعيتها المرّة وعدميتها وجموحها، رغم أنها في بلد تجهل لغته، ويعاملها كطارئة عابرة ونكرة في درجة الصّفر.
لكنها تكتشف في الأخير أن العدم في عدن باريس “الذي يسمّونه اصطلاحا: اللجوء والمنفى، ويتعطّفون عليه قليلا أو كثيرا فيسمّونه التغرّب”، هو العدم المقرون بالاقتلاع المرير والتشرد، والمسافة ما بين كينونة ناجزة مهددة وصيرورة مستحيلة، وهو حالة من ضياع القصد والدوران في حلقة مفرغة من ضلال الخطى.
تشبّه الكاتبة مدينة زيوريخ السويسرية “التي تُعرف تقليديا بأنها عاصمة المال والجمال والهدوء والأمن”، بسيدة ذات خيلاء ملكية، تلامس فضول السائح أو الزائر بأنامل من ذهب وفن، مدينة تغوي بدفقها الثقافي ومفاجآتها الساحرة، منذ لحظة الوصول إلى محطتها العريقة، حيث تبدأ آيات الفن الحداثي وما بعد الحداثي بمحاورة فضول زائرها.
تصف الدليمي بغداد بأنها غدت مكانا معاديا للحياة، ليس منذ وقت قريب، بل منذ نحو خمسين سنة، حين صحت المدينة على سحل جثث، وتقطيع أوصال، وحرق محطات وقود، ونهب قصور ملوك، وتدمير مبانٍ، وتعليق مصلوبين في الطرقات، وصارت أشدّ عداء بعد خمس سنوات من الاضطراب والفتك، وتحوّلت إلى ابتكار أشكال جديدة للعداء بين مواطنيها، وتبارى أبناؤها الدمويون في تحويلها إلى ميادين لسفك الدم على هوية سياسية طوال أربعين عاما، وعلى هوية عرقية وطائفية طوال حروب وغزوات.
ومع الاحتلال والحرب، التي أتت على كل شيء غفلت عنه أعوام الدم، شاع جنون دم جديد، وتحولت معه العاصمة إلى مدينة مباحة لا تعصم نفسها ومن فيها من جائحة الموت والفتك.
يشكّل كتاب “يوميات المدن” للطفية الدليمي، الذي يأتي بعد خمسة وعشرين كتابا لها ما بين القصة والرواية والدراسات والمسرحيات والنصوص والترجمات، تمهيدا لكتابين أنجزتهما، وربما سينشران قريبا، الأول بعنوان “رسائل الحرب والمنفى”، وقد دوّنت فيه شهادة حية عن تجربة سنوات الحرب واحتلال العراق، وسنوات المنفى وكشوفاتها الروحية والفكرية بشكل رسائل إلى صديق، والثاني بعنوان “مُدُني وأهوائي”، وهو كتاب رحلات ترى فيه لطفية الدليمي أن المدن قصائد المخيلة الإنسانية وأناشيد العشق، تغوينا ونمرّ في مستحيلاتها ونكون من عشاقها أو صنّاع حكاياتها، وكل مدينة قصة غواية، وكل خريطة ترنيمة انخطاف، حيث لا حدود تقام بين فيوض الجمال وقصائد الخيال التي تسمّى مدنا، وفي غفلة من تدابيرنا تحاول هذه المدن اختطافنا أو إقصاءنا أو تعذيبنا، وما علينا سوى الوثوق بأحلامنا وحكايات عشقنا والتثبّت من رؤانا، فإن صادرتنا أو طاردتنا فنحن في تحدّ لاسترداد حريتنا في الحالين، نقترح خرائط أرواحنا في أقاصي الخطر، وفي أحضان المدن الغريبة حين يطاردنا أو يأسرنا المعنى المغاير لحقيقة أن الخرائط قصائد للجغرافيين وحكايات حبّهم المعلنة في الأطالس.
_____
*العرب