ستيفان سفايغ يحلل بقلم رجل سلوك امرأة عاشقة في يوم وليلة


أبو بكر العيادي

مسرحية “أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة” مقتبسة من قصة كان الكاتب النمساوي ستيفان سفايغ قد نشرها أول مرة عام 1927، ضمن مجموعة “ارتباك الحواس″، وقد استوحى فكرتها من رواية من جنس أدب المراسلات للأميرة دو سالم “أربع وعشرون من حياة امرأة حساسة”.

والأحداث، كما جاءت في الصيغة الأصلية للقصة، تدور في مونتي كارلو عام 1865، وبطلتها سيدة إنكليزية، يشار إليها بالحرف الأول من اسمها “مسز سي”، وهي أرملة شابة في الأربعين، كانت تهوى السفر وارتياد الكازينوهات، وكانت شغوفة بالنظر إلى أيدي اللاعبين، وحركاتها المعبرة عما في النفس من تحولات.
ذات مساء، وهي تتابع المتبارين في لعبة الروليت بكازينو مونتي كارلو، انبهرت بيدي شاب بولندي يصغرها بستة عشر عاما كان يُمْنَـى بالخسارة تلو الخسارة حتى فقد كل ماله، فغادر الكازينو مفلسا محبطا، وقد اسودّت الدنيا أمام ناظريه. أدركت السيدة الإنكليزية من توتره وشروده واندفاعه في الخروج أنه مقبل على الانتحار، فسعت إلى إنقاذه بكل السبل.
من هنا تبدأ تلك الساعات المفعمة بالصراع والعشق والدموع والانتشاء، ساعات سوف تترك أثرا لا يمّحي في أعوام “مسز سي” الباقيات. ففي وقت قصير لا يتجاوز يوما وليلة، مرت الأرملة الشابة بكل مراتب العشق كما صنفها العرب قديما كثمامة وابن الجوزي، وخاصة الفَرّاء الذي اعتبر أن “أولَ ما يحدث استحسان الشخص، فيجلب ذلك إرادة القرب منه، ثم تحصل المودّة، ثم يقوى الودّ فيصير محبّة، ثم يصير خُلّة، ثم يصير هوى، فيهوي بصاحبه في محبة المحبوب من غير تمالك، ثم يصير عشقا، ثم يصير تَتَيُّمًا، ويصبح المعشوق مالكا للعاشق، لا يوجد في قلبه سواه”.
انجذبت الأرملة الحسناء إلى ذلك الشاب الذي كان ينهشه عشق آخر، هو ولعه الجنوني بالميسر حدّ الإفلاس. ولأول مرة منذ وفاة زوجها، ينتابها ما ينتاب امرأة لا يمكن أن تحيا بلا مشاعر. وبالرغم من أن تلك الفترة الوجيزة من حياتها لم تأتها بما كانت تأمل من سعادة، فإنها مهرت حياتها بختم أشبه بإغراء ملكي، لتظل لحظة حاسمة في وجودها.
هذه الحكاية لو تناولها كاتب آخر لوجد فيها فرصة لإقامة الدليل على مساوي العشق، ولكنها عند سفايغ تنحو منحى آخر، فهو يؤثر أن يتوقف عند تولد الرغبة ونشأتها ويقفو سبل المشاعر، ليفكك فخاخها وثنياتها الخادعة وأضاليلها دون أن ينتقد أو يدين، بل ليسبر النفس الإنسانية في تعقدها وتشعب مسالكها، غير خاضع في سبره وتحليله للثنائيات الأخلاقية التي تفرضها تقاليد المجتمع وأعرافه.
فهو، شأنه شأن صديقه فرويد، يحاول أن يفهم ويحاول أيضا أن يشفي ليس من عشق ووله وتتيّم، بل من الفكرة القائلة إن المرء يمكن أن يعيش بلا عشق. وكأنه يدعونا إلى قبول العشق ومتاهاته بدل الهروب منه، أي أن نفهم ولا نحكم، ذلك كان هوس ستيفان سفايغ وغايته، وهو ما يجعل أدبه حداثيا، لا يزول أثره بتقادم الزمن.
هذه القصة، (وكذلك قصة “لاعب الشطرنج” التي تعرض حاليا على مسرح الهضبة بباريس) حازت اهتمام النقاد، وحازت أيضا اهتمام السينمائيين والمسرحيين في فرنسا، فتم تحويلها إلى السينما عام 1968 في شريط من إخراج دومنيك ديلوش، ثم عام 2003 في شريط للوران بوهنيك، كما تمّ إعدادها للمسرح عام 1990 من اقتباس ماريون بييري وإخراجها، وعام 2012 من اقتباس ديدن بن رمضان وإخراجه، وهذه المرة كان الاقتباس للمسرحي والروائي إريك إمانويل شميت والإخراج لستيف سويسا. بالعنوان نفسه في كل الأحوال، ولكن بتصرّف ملحوظ في شتى الأعمال المذكورة.
ففي هذا العرض الأخير، حافظ شميت على فكرة الاعتراف مثلما حافظ على وجهة النظر الذاتية، حيث تنهض البطلة بالسرد وتنطق على لسان الرجل الذي تهوى، وتسقط عليه خيالاتها وتهويماتها، فتصور جسدا معبّرا في صمته، وتقول خطابها وخطابه المحتمل حتى اللحظة الحاسمة التي تفاجأ فيها بصوته، فيتجلى صوت الواقع أمام صوت الحلم.
فالبطلة هنا أرملة حسناء أيضا تعاني الوحدة والكآبة، وتزجّي الوقت في أحد كازينوهات موناكو، حيث تنجذب إلى يدين رفيعتين وقويتين في الوقت نفسه، يدي شاب وسيم في مقتبل العمر يراكم الخسائر في لعبة الروليت. فتتغير حالها فجأة، وتعيش خلال أربع وعشرين ساعة عيشة غير التي عرفتها طوال ما مضى من حياتها، وتكون أول من يفاجأ بهذا التحول العميق في مشاعرها وأحاسيسها وتوقها إلى تحقيق ما لم تستطع تحقيقه في ما مضى من حياتها.
يقول شميت “ما يبهر حقا، عندما نقرأ ستيفان سفايغ، هو ذلك التحليل، التشريحي تقريبا، للسلوك الأنثوي، المكتوب بقلم رجل، فالكاتب له من الوعي ونفاذ البصيرة ما يجعل القارئ من خلال نصه يتعرف على أشياء دقيقة من سيرورته هو نفسه”.
العرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *