*أ.د حامد طاهر
من بين كل مفكرى الإسلام وعلمائه الذين قرأت لهم ، لم أجد واحدًا منهم قد أعلى مكانة المرأة حتى جعلها مساوية للرجل ، بل وفضلها عليه فى بعض المواطن ، سوى محيى الدين بن عربى (المتوفى 638هـ-124.م) ولكى نوضح ذلك سوف نتبع مساريْن ، أو بالأحرى : مرحلتين على مسار واحد . الأولى تتصل علاقاته الاجتماعية المباشرة بالمرأة : أمًا ، وأختًا ، وحبيبةُ ، وزوجةً ، وبنتًا ، ثم شيخهً له ، وتلميذة أو مريدة . وفى رأينا أن هذه المرحلة هى التي تمهد لما يتلوها ، وتؤصل لها . وتتناول المرحلة الثانية ما ذهب إليه ابن عربى فى محاولة ذكية للغاية لتأويل النصوص الدينية الواردة فى المرأة باعتبارها أقل قيمة أو مكانة من الرجل ، ثم فى استنتاجاته الخاصة وأفكاره الفلسفية التى تعلى من قيمة المرأة ، وتنبه الرجل إلى مدى أهميتها فى حياته(1) .
المسار الأول : علاقة ابن عربى بالمرأة
المرأة : أمّاً : لا نكاد نعثر فى حديث ابن عربى عن نفسه ، وهو الذى أكثر من ذلك فى معظم مؤلفاته ، ذكرًا كثيرًا عن أمه ، واسمها نور ، التى يبدو أنها كانت امرأة صالحة ، لأنه لم يذكر معارضتها له – كما فعل أبوه – عندما قرر الانخراط بالكامل فى طريق التصوف ، بل انها شجعته على المضىّ فيه . ويذكر أنها كانت تزوره عند شيخته المسنّة ، فاطمة بنت المثنى، فتقول لها فاطمة : يا نور ، هذا ولدى وهو أبوك ، فبرّبه ولا تعقّيه – فلا تجد فى نفسها غضاضة مما تسمع ، وكانت تتلقاه بقبول حسن(2) . وقد عاشت أم ابن عربى بعد وفاة والده ، فأصبح ابن عربى مسئولا عنها ، وعن أختين له ، وسافر بالأسرة من الأندلس إلى مدينة فاس بالمغرب ، ومن المحتمل أنها توفيت هناك(3) .
المرأة أختًا : كان لابن عربى أختان ، أصبح مسئولا عنهما بعد وفاة والده ، الذى كان فيما يبدو – أحد ولاة الأندلس من قبل الموحدين . يقول ابن عربى : “وكان أول دخولى فى الطريق (الصوفى) ، وقد فتح علىّ ، ولم أعلم بذلك أحدًا ، فقال لى (الشيخ صالح العدوى) . يا ولدى ، لا تذق الخل بعد العسل : أنت قد فتح الله لك فالزمْ واثبتْ . كم لك من الأخوات ؟ قلت له : ثنتان . قال : هما بكران ؟ قلت له : نعم ؛ غير أن الكبيرة منهما قد كُتب كتابها على الأمير أبى العلاء بن عزون . قال : نعْم البيت ! ثم قال : يا ولدى، أعلمك وأوصيك : لتعلم أن هذا النكاح ما يتم ، وأن الوالد يموت ، وهذا الزوج يموت ، وتبقى فى وجهك الوالدة وأختاك ، فيجتمع عليك الأهل ويطلبونك بالرجوع إلى خدمة الدنيا من أختيك والوالدة ، فلا تفعل ، ولا تسمع منهم ، واتل عليهم قوله تعالى ) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( (سورة طه : آية 132) لا تزدْ على هذا، فإن الله يجعل من أمرك فرجا ومخرجا ، وإن سمعت منهم (أى أطعتهم) حُرمت الدنيا والآخرة ، ووكلت إلى نفسك !
فما كملت السنة حتى مات الزوج قبل الدخول ، ومات الوالد بعد هذا المجلس بست سنين ، ومات هذا الشيخ ، وأقبل الناس والأهل بما ذكره الشيخ يلوموننى على ترك السعى على العيال ، وجاءنى ابن عمى ، وكان يكرم علىّ، فسألنى فى الرجوع إلى الخدمة من أجل العائلة ، فأنشدته بيتيْن عملتهما فى الحال ، وهما :
قالوا انصرف عن طريق الحق قلت لهم :
كيف انصرافى وقد قال الجليل لنا :
ما بعد نور صباح الحق غيرُ دجى
ليل الضلال ، فهذا القول يمنعنا
فطُلبت من أمير المؤمنين للخدمة . فوجه إلىّ أمير المؤمنين يعقوب ، رحمه الله ، قاضى القضاة أبا القاسم بن بقى ، وقد قال له : لا تأخذ معك الجماعة ، وتجتمع به ، فإن أجاب فقد وليناه ، وإن امتنع فلا تجبره – ففعل ما أمره المؤمنين فامتنعت – وكلام الشيخ صالح فى أذنى ، كأنه يناجينى .
فاجتمعت بأمير المؤمنين ، فسألنى عن الأختيْن ، فذكرت له بشأنهما، فقال : ننظر لهما أكفاء من الموحدين ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين ، أنا أنظر لهما أكفاء . قال : فعجلْ فى ذلك ، وتجهيزهما علينا ، ثم استدعى بحاجبه ووصاه متى جاء الخبر من عندنا فى ذلك ليلاً أو نهارًا يعرفه ، وأكد عليه فى ذلك غاية التأكيد ، فلما انصرفت من عنده إلى بيتى ، بعث إلىّ رسولاً يؤكد فى أمر الأكفاء ، فشكرته ، وأخذت أهلى ، ودخلت مع ابن عمى إلى مدينة فاس (بالمغرب) .
فبعد أيام ، سأل أمير المؤمنين أبا القاسم بن نصير عنى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه رحل بأهله إلى مدينة فاس. فأخذ يكرر : سبحان الله !
فلما جئنا مدينة فاس ، زوجت الأختين ، وقرت عينى ، وعادت بركة الشيخ علىّ ، ورحلت إلى مكة..”(4) .
وهنا يمكننا أن نتساءل : لماذا لم يقبل ابن عربى أن يزوج اختيْه لاثنين من الأكفاء من الموحدين ؟ الظاهر أنه كان يبدى احترامه لأمير المؤمنين – الذى سبق أن عين والده ، وأراد أن يعينه من بعده – ولكنه لم يكن راضيا تمام الرضا عن أسلوب الحكام فى عصره . فهو يصفهم فى موسوعته الكبرى (الفتوحات المكية) بأنهم “أهل جور ، يحكمون بما لا يعلمون”(5) . ويمتلئ كتابه روح القدس الذى ألفه بمكه سنة 6.. هجرية بالعديد من نماذج شيوخه الذين كانوا لا يقبلون هدايا من السلطان ، لعدم الثقة فى شرعية الأموال التى جمعوها من المسلمين (6) .
المهم فى تلك القصة الجميلة التى ذكرها ابن عربى أنه كان حريصا على مستقبل أختيه ، وأنه من أجل ذلك سافر بهما مع أمه من الأندلس إلى المغرب لكى يختار لهما أكفاء مناسبين لهما ، وعندما تم ذلك نجده يقول : “فلما جئنا مدينة فاس ، زوجت الأختين ، وقرت عينى” .
المرأة : حبيبةً : لدينا هنا الكثير من التفصيلات التى يمكنها أن تحدد أهم ملامح تلك الفتاة التى أحبها ابن عربى حبا عميقا ، وكان ذلك عندما سافر إلى مكة ، والتقى بالشيخ مكين ، زاهر بن رستم بن أبى الرجاء الأصفهانى ، ومن الواضح أنه من أصل فارسى . كانت له ابنة شابة اسمها نظام ، فائقة الجمال ، وعلى قدر وافر من الذكاء والعلم وطيب الخصال . ومن أجلها كتب ابن عربى ديواناً غزليا كاملاً بعنوان (ترجمان الأشواق) ضمنه حبه الشديد لهذه الفتاة ، التى يبدو أنها غادرت مكة إلى نجد ، ربما متزوجة من غيره .
يقول ابن عربى فى مقدمة الديوان : “فكل اسم اذكره فى هذا الجزء فعنها أكنّى ، وكل دار أندبها فدارها أعنى”(7) . ومن الواضح أن حبه لنظام كان حبا عذريا خالصًا ، ومع ذلك فإنه أضفى عليها بعض الأوصاف الحسية دون أن يسىء إليها ، أو يشوه شمعتها ، يقول : “فراعينا فى صحبتها كريم ذاتها، مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد”(8) وبالنسبة إلى عمتها، فقد كانت إحدى راويات الحديث النبوى ، وقد سمحت ابن عربى بإجازته فى جميع رواياتها .
ويمكن القول بأن هذه الفتاة الفائقة الحسن ، والذكية العقل قد فجرت الطاقة الشعرية لدى ابن عربى ، فتفنن فى قصائده التى ضمها ديوان (ترجمان الأشواق) حتى أنه فاق فى بعض أبياته وقصائده مستوى أشهر الشعراء العرب فى هذا المجال . ولعلنى لا أبالغ إذا قلت إن هذا الديوان لم يتم درسه وتحليله من النقاد العرب القدماء والمحدثين بالقدر اللائق به حتى اليوم .
وإذا كان ابن عربى يقول إنه يكنى عن نظام ، فقد صرح باسمها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة حوالى أربع مرات ، بل إنه حددها ببلدها الأصلى ، ونسبها ، ووالدها فى قوله :
طال شوقى لطفلة ذات نثر
ونظام ومنبر وبيان
من بنات الملوك من دار فرس
من أجل البلاد من أصفهان
هى بنت العراق بنت إمامي
وأنا ضدها سليل يمانى
هل رأيتم يا سادتى أو سمعتم
أن ضدين قط يجتمعان(9)
ولا يكاد يخفى ابن عربى إعجابه الشديد بجمال تلك الفتاة الفارسية من خلال التغنى بفمها حين تتكلم أو تبتسم ، وبشعرها الأسود الطويل حين ينسدل، وبوجهها الذى يكاد يكسف القمر حين يسفر ، ثم بأسلوبها فى معاملة المعجب بها، فهى كما يقول :
تصد جدا ، وتلهو بالهوى لعبا
والموت ما بين ذاك الجد واللعبِ(1.)
وعندما يجتمع بياض بشرتها مع سواد شعرها الفاحم :
للشمس غرتها ، لليل طرتها
شمس وليل معا من أجمل الصورِ(11)
ويرى ابن عربى أن إشراق الشمس يتمثل فى ابتسامتها ، كما أن طلوع الليل ينبسط عليه حين تسدل شعرها :
تشرق الشمس إذا ما ابتسمت
رب ما أنور ذاك الحببا
يطلع الليل إذا ما أسدلت
فاحما جثلا أثيثا غيهبا (12)
وهو يعترف بوقوعه كاملاً فى غرامها ، وأن هذا الغرام سيؤدى إلى مقتله ، ولأنها فائقة الجمال ، فقد أبعدت العاذلين عن عاشقها :
إن الفراق مع الغرام لقاتلى
صعب الغرام مع اللقاء يهونُ
مالى عذول فى هواها إنها
معشوقة حسناء حيث تكونُ(13)
أما الأبيات الوحيدة التى يتحدث فيها ابن عربى عن لقاء حسّى بتلك الحبيبة ، فهو ما كان يحدث عند وداع أحدهما للآخر :
إذا ما التقينا للوداع حسبتنا
لدى الضم والتعنيق حرفًا مشدّدا
فنحن وإن كنا مثنى شخوصنا
فما تنظر الأبصار إلا موحدا
وما ذاك إلا من نحولى ونورها
فلولا أنينى ما رأت لىَ مشهدا(14)
ويقول فى قصيدة أخرى :
تملكنى وتملكته
فكلٌّ لصاحبه قد مَلَكْ
فكونىَ ملكًا له بيّنْ
وملكى له قوله : هيت لك !(15)
فهل يمكن القول بعد ذلك – كما ذهب معظم تلاميذه – أن ابن عربى لم يعشق هذه الفتاة عشقا خالصا ، سلبه عقله . يقول :
ألم تدر أن الحسن يسلب من له
عفاف فيدعى سالب الحسنات(16)
وهو الذى يكاد يصرخ من ألم الحب قائلا :
الهوى راشقى بغير سهام
الهوى قاتلى بغير سنان(17)
ويقول :
ما حياتى بعدهم إلا الفنا
فعليها وعلى الصبر السلامْ! (18)
لقد حاول ابن عربى – نتيجة الأقاويل التى راحت تدور حول مكانته الصوفية ، ومشيخته للكثيرين – أن يحول الأنظار عن غزله الذى خصصه لنظام ، فقام بشرح صوفى (متكلف) لهذا الديوان الجميل ، الذى يعد فى ميزان النقد الأدبى درة من درر الشعر العربى الجميل .
المرأة : زوجةً : اسمها مريم بنت محمد بن عبدون البجائى . ويبدو أنها كانت امرأة صالحة ، أنجبت له ولديْن صالحين وابنة اسمها زينب ، توفيت وهى صغيرة ، وقد ساعدته زوجته على تكريس حياته للفكر الصوفى ، كما أتاحت له الجو المناسب لتأليف ذلك الإنتاج الضخم الذى انفرد به من بين أعلام التصوف الإسلامى جميعا ، وقد توفيت فى حياته(19) .
يذكر ابن عربى عنها أنها كانت من العابدات ، اللاتى انخرطن فى الطريق الصوفى من طريق الرؤيا بالمنام . وقد أخبرته أنها رأت فى منامها شخصا كان يتعاهدها فى أحلامها ، ثم رأت رجلا خطر لها فى عالم الحس ، فقال لها : هل تقصدين الطريق ؟ فقالت : أى والله أقصد الطريق ، لكن لا أدرى بماذا ؟ فقال لها : بخمسة أمور : التوكل واليقين والصدق والعزيمة والصبر – وقد صدّق ابن عربى لها على ذلك بقوله : إن هذا هو مذهب القوم.
كما ذكر عنها ابن عربى أنها كانت ممن تحقق بمقام مشاهدة الجن ، وقد أخبرته أنها أبصرت واحدا ، وصفت له حاله ، فعلم أنه من أهل هذا الشهود ، إلا أنها ذكرت عنه أحوالاً تدل على عدم قوته فيه وضعفه ، مع تحققه بهذا الحال(2.) .
ومن المهم فى هذا الصدد أن نشير إلى الفترة التى مرت على ابن عربى بعد انخراطه فى طريق التصوف ، زهد فيها معاشرة زوجة عملاً بنصيحة شيخه (المغاورى) ، التى سمعها من أحد تلاميذه ، والتى ينهى فيها عن معاشرة الزواج . ولم يقبل عليها – بعد ذلك – إلا امتثالاً لسنة النبى r فى أمره بإعطاء المرأة حقها من المعاشرة الحسنة . يقول ابن عربى :
“كنت من أكره خلق الله تعالى فى النساء فى أول دخولى إلى هذا الطريق ، وبقيت على ذلك نحوًا من ثمانى عشرة سنة ، إلى أن شهدت هذا المقام .. وكان تقدم عندى خوف المقت لذلك”(21) .
المرأة بنتا : يورد ابن عربى ذكر ابنته (زينب) فى أثناء الحديث عن الأطفال الذين تحدثوا فى المهد : كرامةً من المقام العيسوى . يقول : وأما ما يناسب الكلام فإن ابنتى زينب سألتها كالملاعب لها ، وهى فى سن الرضاعة، وكان عمرها فى ذلك الوقت سنة أو قريبا منها ، فقلت لها بحضور أمها وجدتها : يابنية ! ما تقولين فى الرجل يجامع أهله ولا ينزل ؟ فقالت : يجب عليه الغسل . فتعجب الحاضرون من ذلك .
وفارقت هذه البنت فى تلك السنة . وتركتها (مرة) عند أمها ، وغبت عنها ، وأذنت لأمها فى الحج فى تلك السنة ، ومشيت أنا على العراق إلى مكة، فلما جئنا المعرف ، خرجت فى جماعة معى أطلب أهلى فى الركب الشامى ، فرأتنى ، وهى ترضع ثدى أمها ، فقالت يا أمى ، هذا أبى قد جاء ! فنظرت الأم حتى رأتنى مقبلا على بعد ، وهى تقول : هذا أبى ، هذا أبى .. فنادانى خالها ، فأقبلت ، فعندما رأتنى ضحكت ، ورمت بنفسها علىّ ، وصارت تقول : يا أبت ! يا أبت (22) .
وبصرف النظر هنا عن تلك الكرامة ، الخارقة للعادة ، فإن الحكاية تظهر مدى تعلق ابن عربى بابنته الصغيرة ، وتعلقها به من خلال فرحها الشديد به ، ولا يكون ذلك فى العادة إلا من فرط حنّوه عليها ، وارتباطه الحميم بها .
المرأة : شيخةً : لم يتردد ابن عربى – مثل غيره من مفكرى الإسلام وعلمائه – من ذكر النساء اللاتى أفاد منهم علمًا ، وخلقًا ، وطريقةً ، فى مسيرته الصوفية الطويلة(23) .
ومن أولى وأهم شيخاته : فاطمة بنت المثنى ؛ وتدعى نونة ، يقول عنها : إنها كانت من المجتهدات . لم أرَ فى الرجال ولا فى النساء أشد ورعا ولا اجتهادًا منها . ما ذكرت لها مقاما إلا كان المقام لها حالا . ذات شوق وكشوف .
رجعتْ إلى طريق الله وهى بكر صغيرة السن فى بيت أبيها ، وأدركُتها أنا وهى بنت ست وتسعين سنة ، وكنت أستحى أن أنظر إلى حسن ديباجتها ونعمتها !
تزوجت برجل صالح ، فابتلاه الله بالجذام ، فخدمته أربعا وعشرين سنة ، مسرورة بذلك إلى أن توفى إلى رحمة الله تعالى .
لها فى التوكل قدم راسخة ، وكان عيشها فى بدايتها من مغزلها ، فخطر لها يومًا أن تعيش من غزل يدها فقرض الله إصبعها التى كانت تغزل بها من وقتها ، ورأيته مقروضا ، فسألتها عن شأنه فأخبرتنى بما ذكرته ، وصار عيشها مما ينبذه الناس من الأطعمة خلف بيوتهم .
كانت إذا جاعت ولم يُفتح عليها بشىء ، وضيّق عليها فى رزقها ، تفرح وتسر به ، وتشكر الله على هذه النعمة ، حيث فعل معها ما يفعله مع أنبيائه وأوليائه . تقول : يارب ، بماذا استوجبت عندك هذه المنزلة العظمى حيث عاملتنى بما تعامل به أحباءك !
بنيت لها بيتًا من خوص ، كانت تتعبد فيه ، فلما كانت ذات ليلة ، فرغ الزيت الذى كانت توقد به السراج ، وطفى السراج ولم يكن ينطفى لها سراج قط ، وما عرفت قط سر ذلك منها ، فقامت لتفتح باب الخص لتطلب منى أن أجئ لها بزيت ، فغرقت يدها فى مائع فى الدف الذى كان تحتها ، فشمته فإذا به زيت فأخذت الكوز وملأته بالزيت ، فلما امتلأ الكوز ، أسرجت الفتيلة ، وجاءت تنظر موضع الزيت ، فلم تر له أثرًا رأسًا ، فعلمت أن ذلك رزق آتاه الله .
كانت طائفة من مؤمنى الجن يجلسون إليها ، ويرغبون فى صحبتها ، وكانت تأبى عليهم وتسألهم أن يحتجبوا عنها ، وتذكر ما ذكره رسول الله ، r ، ليلة قبْضه على الجنى : “تذكرت دعوة أخى سليمان فأرسلته” .
وكانت قد فتح لها فى فاتحة الكتاب ، ووجهتها فى أى شأن فينقضى ولابد . جربنا ذلك عليها مرارا .
ويؤكد ابن عربى أن هذه الشيخة المباركة كانت تؤثره على كل من يخدمها من أمثاله ، وتقول : ما رأيت مثل فلان – تقصد ابن عربى – إذا دخل علىّ دخل بكله ، لا يترك منه خارجاً عنى شيئا ، وإذا خرج من عندى خرج بكله ، لا يترك عندى منه شيئا .
ويقول ابن عربى أيضا : وكانت تضرب بالدف وتفرح ، فكنت أقول لها فى ذلك ، فتقول لى : إنى أفرح به حيث اعتنى بى ، وجعلنى من أوليائه، واصطفانى لنفسه ، ومَنْ أنا حتى يختارنى هذا السيد على أبناء جنسى ؟! وعزة صاحبى لقد يغار علىّ غيرة ما أصفها ، ما ألتفت إلى شىء باعتماد عليه عن غفلة إلا أصابنى ببلاء فى ذلك الذى التفت إليه .
وكانت تقول لى : أنا أمك الإلهية ، ونور أمك الترابية . وإذا جاءت والدتى إلى زيارتها تقول لها : يا نور ، هذا ولدى ، وهو أبوك ، فبرّيه ولا تعقّية .
يقول ابن عربى : فما زلت أخدمها بنفسى ، وبنيت لها بيتا من قصب بيدى على قدر قامتها ، فما زالت فيه حتى توفيت .
أما ثانية الشيخات ، فهى شمس ، أم الفقراء . يقول ابن عربى : لم أرَ أحدًا من الرجال كان يقدر على ما تقدر عليه من العبادة . وهى من أكابر المجتهدات . كانت حاكمة على وهمها ، كثيرة الوصال فى الصوم ، على كبر سنها . أدركتها وهى فى عشر الثمانين سنة . كانت تتكلم على الخواطر ، صحيحة المكاشفة . رأيت لها عجايب !
كنت يوما ، أنا وعبد الله بن الأستاذ ، عندها ، فالتفتت إلى ناحية فى البيت وصاحت بأعلى صوتها : يا علىّ ، ارجع خذْ المنديل . فقلنا لها : مَنْ تنادى ؟ فقالت : علىّ ، قصد زيارتى ، فلما وصل إلى ماء بالطريق عند بلجانه قعد يأكل ، وقام ونسى المنديل ، فصحت به لئلا يرجع من أجله – وبينهما ما يزيد على فرسخ – فبعد ساعة ، دخل علينا ، فقلنا له : يا علىّ ، ما اتفق لك فى طريقك ؟ فقال : نزلت على الماء ، وأكلت ، ثم قمت ونسيت المنديل ، فسمعت صوت ستى شمس وهى تنادى : يا علىّ ، خذْ المنديل ، فرجعت وأخذته .
ومن شيخات ابن عربى : جارية قسيم الدولة ، مملوكه سيدنا أمير المؤمنين جاورت بمكة إلى أن توفيت بها . كانت سيدة وقتها . كانت صاحبة خطوة . كانت إذا خرجت للسياحة تخاطبها الجبال والأحجار والشجر : مرحبا، مرحبا ! وكانت قوية الحال ، خديمة لأهل الله ، صادقة فى طريقها ، صاحبة فتوة ، مجتهدة ، كثيرة الوصال (متابعة الصوم) قوية على ذلك. كانت لها شفقة على هذه الأمة ، لم أرَ فى زمانها أكثر فتوة منها ، معظمة لجلال الله، لا ترى لنفسها قدرًا جملة واحدة .
ومنهن أيضا : زينب القلعية ، من قلعة بنى حماد . كانت من أهل كتاب الله . زاهدة وقتها . وكانت ذات حسن وجمال وثروة ، تركت الدنيا عن قدرة ، وجاورت مكة ، شرفها الله تعالى . عاشرتها بإشبيلية وبمكة . وصحبت رجالاً وسادة مثل ابن قسوم ، والشبربلى ، وميمون القرمزى ، وأبى الحسين بن الصايغ ، المحدث زاهد وقته ، وأبى الصبر أيوب الفهرى ، وغيرهم .
كانت إذا قعدت تذكر ترتفع عن الأرض فى الهواء ، قدر ثلاثين ذراعا ، فإذا سكتت نزلت إلى الأرض برفق ! رافقتها إلى القدس من مكة ، فما رأيت أحفظ على أوقات الصلوات منها . كانت من أعقل مَنْ فى زمانها .
تلك هن أشهر شيخات ابن عربى اللاتى قابلهن فى الأندلس ، وهناك بالطبع مَنْ أشار إليهن أشارة عابرة : مثل : أم الزهراء ، التى كانت من المجتهدات فى طريق الله تعالى : لكن هناك غيرهن ممن استقصى أحوالهن فى كتابه المفقود “الدرة الفاخرة فيمن انتفعت به فى طريق الآخرة” . وهو يقول فى روح القدس الذى كتبه بعدها : “وقد لقينا من المشايخ والإخوان والنساء ما لو دونت أحوالهم وسطرت كما سطرت أحوال من تقدم ، لرأيت الحال الحال ، والعين العين ، فى الأعمال والجهد والإشارات وصحة القصد”.
لكن ابن عربى يعود فيذكر إحدى الشيخات اللاتى كان يودّ أن يلتقى بها ، وهو فى مكه سنة 6..هـ ، وما بعدها ، وهى أخت الشيخ مكين الأصفهانى ، وكانت تلقب : فخر النساء بنت رستم . يقول عنها : “وأما فخر النساء ، أخته ، بل فخر الرجال والعلماء فبعثت إليها ، لأسمع (الحديث النبوى) عليها ، وذلك لعلو روايتها ، فقالت : فنى الأمل ، واقترب الأجل ، وشغلنى عما تطلبه منى من الرواية الحث على العمل ، فكأنى بالموت قد هجم، فأقرع سن الندم . فعندما بلغنى كلامها كتبت إليها أقول (شعرا) :
حالى وحالك فى الرواية واحد
ما القصد إلا العلم واستعماله
فأذنت لأخيها أن يكتب لنا نيابةً عنها إجازة فى جميع روايتها ، فكتب رضى الله تعالى عنه وعنها ، ذلك ، ودفعه لى” .
المرأة : تلميذة (أو مريدة) : كثير من النساء والفتيات اللاتى أردن الانحراط فى طريق التصوف ذكرهن ابن عربى بصدد إلباسهن (خرقة التصوف) ، وهو أحد الطقوس التى اصطلح عليها الصوفية ، وكان يعتبرون قيام الشيخ بإلباسها لأحد المريدين فاصلاً فى حياته بين مرحلتين : مرحلة الإقبال على الدنيا بمباهجها وزخرفها ، ومرحلة الإقبال بالكلية على أسلوب الزهد فيها ، وعدم الاهتمام إلا ما ينفع فى طريق الآخرة . وعلى الرغم من أن ابن عربى لم يكن يعطى للطقوس الصوفية أهمية كبرى ، فإنه قد مارس هذا الطقس ، وألبس الخرفة لعدد من تلميذاته ، اللاتى ذكر بعض أسمائهن ، وأخفى بعضها الآخر . ومنهن : فاطمة ، وصفية ، وست العيش ، ودنيا ، وجارية ، وبنت زكى الدين ، وست العابدين .. لكن الملاحظ هو هذا الطابع الغزلى الذى تكتسى به الأبيات ، ومحاولة إظهار حسن هؤلاء النساء والفتيات، مع احترام واضح لأخلاقهن الفاضلة ، وسلامة اختيارهن لطريق التصوف عموما ، أو لطريقته على نحو خاص . ومن ذلك :
لبست جاريةٌ من يدنا
خرقة نالت بها عين الكمالِ
خرقة دينية علويه
ألحقتها بمقامات الرجالِ
وكذاك الله قد ألبسها
ثوب عز وقبول وجمال
وضياء وسناء وسنا
واعتدال وبهاء وجلال
كلما أبصرنها غيّبنى
ما أرى من حسن دلّ ودلال
حفظ الله عليها عهدها
وعلينا حفْظها طول الليالى(24)
* *
وإذا كان لنا من تعليق سريع هنا على علاقة ابن عربى بالمرأة فى مختلف مواقعها من حياته ، أمكننا رصد ظاهرتين واضحتين تماما ، تتمثل الأولى منها فى نظرته الحضارية التى تعلى من مكانة المرأة ، ولا تجعلها تقل بحال من الأحوال عن مكانة الرجل ، والملاحظ هنا أن المرأة كانت ذات أثر إيجابى فى مجرى الحياة الاجتماعية بالأندلس ، فكانت تتعلم وتعمل وتشارك الرجال فى طريق الزهد والتصوف ، بل وتتفوق أحيانا عليهم . أما الظاهرة الثانية فتبدو من الرعاية الحانية من ابن عربى على المرأة ، سواء فى دائرة الأسرة ، أو فى دائرة تلمذته لشيخاته المتعبدات . ومن ذلك حرصه على تزويج أختيْه من أكفاء ، من غير القائمين على أمر السلطة ، ومنها بناء كوخ من القصب لشيخته فاطمة ، وخدمته لها عدة سنوات . فإذا أضفنا إلى هاتين الظاهرتين ما تميز به ابن عربى من روحانية صافية ، ورومانتيكية حسّاسة تجاه المرأة حين أحبها ، استطعنا أن ندرك حقيقة الدوافع أو البواعث الشخصية التى كان لها – بدون شك – تأثيرها فى تكوين آرائه وأفكاره الفلسفية ، والتى سوف يصرح بها حول مكانة المرأة . ومن الواضح أن النظرة إلى المرأة فى الأندلس لم تكن بنفس الشكل أو المستوى الذى كانت عليه فى المشرق ، ولعلنا نتذكر فى هذا المقام الفقيه الظاهرى ابن حزم الذى ألف كتابه “طوق الحمامة” عن أحوال النساء ، وحاز سمعة عالمية ، وكان له تأثير على نظرة الغرب إلى المرأة خلال العصور الوسطى ، وخاصة لدى شعراء الترو بادور(25) .
المسار الثانى : آراء ابن عربى فى مكانة المرأة
تتناثر آراء ابن عربى حول هذا الموضوع فى أكثر من باب فى موسوعته الضخمة الفتوحات المكية ، والله وحده يعلم مدى الجهد الذى بذلته فى محاولة العثور على هذه الآراء والأفكار فى نصوص محددة ، تمهيدًا بعد ذلك لجمعها ، وتصنيفها ، واستخراج النتائج الطبيعية منها .
وقد أمكن أن أحصر(13) نقطة ، تحمل كل منها فكرة أو رأيا لابن عربى حول مكانة المرأة . الخمس الأولى منها تدور حول (تأويل) بعض النصوص الدينية التى وردت فى مجال تفضيل الرجال على النساء ، وقيام ابن عربى بفهمها على نحو خاص ، بحيث تجعل هذا التفضيل مرتبطًا بأمر عارض ، وليس ذاتيا . أما النقاط الثمانية الباقيات فمعظمها نصوص دينية واضحة الدلالة فى إعلاء مكانة المرأة ، ومساواتها ، إن لم يكن رفعها أحيانا، على مقام الرجل . وسوف نبدأ أولاً بالنقاط الخمسة لدى ابن عربى :
النقطة الأولى : بشأن ما ورد فى القرآن الكريم خاصا بالمطلقات إذا أردن الصلح مع ازواجهن )وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ( (سورة البقرة ، آية 228] وهنا يؤكد ابن عربى أن الرجل والمرأة يشتركان بدايةً فى (الإنسانية) التى هى حقيقة جامعة لكل منهما . وفى هذا المستوى لا توجد درجة لتقدم الرجال على النساء . لكن الشرع (= القرآن الكريم) يثبت هذه الدرجة . وهنا يقول ابن عربى إنه عند التأمل نجد أن الإنسان يشترك مع العالم فى حقيقة (العالمية) ، لكن العالم يفضله بكبر حجمه فى الخلق . وهذا هو المعنى الذى يفضل به الرجلً المرأة . فكما أن الإنسان منفعل عن السماء والأرض ومولَّد بينهما منهما ، والمنفعل لا يقوى قوة الفاعل لما هو منفعل عنه ، كذلك وجدنا حواء منفعلة عن آدم ، مستخرجة متكونة من الضلع القصير ، فقصرت بذلك أن تلحق بدرجة مَنْ انفعلت عنه ، فلا تعلم من مرتبة الرجل إلا حد ما خلقت منه ، وهو الضلع ، فقصر إدراكها عن حقيقة الرجل .
وأخيرًا يصل ابن عربى إلى النتيجة التالية : بما أن الإنسان لا يعلم من العالم إلا قدر ما أخذ فى وجوده من العالم لا غير ، فلا يلحق الإنسان أبدًا بدرجة العالم بجملته ، وإن كان مختصرًا منه ..
كذلك فإن المرأة لا تلحق بدرجة الرجل أبدا ، مع كونها نقاوة من هذا المختصر ، وأشبهت المرأة الطبيعة من كونها محلا للانفعال ، وليس الرجل(29) .
النقطة الثانية : بشأن ما ورد فى القرآن الكريم خاصا بالشهادة على الديْن )وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ( (سورة البقرة ، آية 282) .
يقول ابن عربى : إن التذكر لا يكون إلا عن نسيان . فقد أخبر الله تعالى عن آدم : أنه نسى (سورة طه ، آية 115) ، وقال رسول الله r : “فنسى آدم فنسيت ذريته” فنسيان بنى آدم ذرية عن نسيان آدم ، كما نحن ذريته ، وهو وصف إلهى منه صدر فى العالم . قال تعالى ) نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ( (سورة التوبة ، آية 67) .
على أن الحق ما وصف إحدى المرأتين إلا بالحيرة فيما شهدت فيه ، ما وصفها بالنسيان . والحيرة نصف النسيان لا كله ، ونسب النسيان على الكمال للرجل ، فقال ) فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( (سورة طه ، آية 115) ، فقد يمكن أن ينسى الرجل الشهادة رأسا ولا يتذكرها ، ولا يمكن أن تنسى إحدى المرأتين ، وهى المذكِّرة على التعيين ، فتذكّر التى ضلت عما شهدت منه ، فإن خبر الله صدق بلا شك . وهو قد ذكر فى هذه الآية أن إحداهما تذكر الأخرى ، فلا بد أن تكون الواحدة لا تضل عن الشهادة ولا تنسى ، فقد انصفت الواحدة فى الشهادة بإخبار الحق عنها بصفة آلهية ، وهو قول موسى الذى حكى عنه فى القرآن ) لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ( (سورة طه ، آية 52) .
ويقول فى موضع آخر : من لحوق النساء بالرجال أن تقوم المرأة فى بعض المواطن مقام رجلين ، إذا لم يقطع الحاكم بالحكم إلا بشهادة رجلين . فقامت المرأة فى بعض المواطن مقامهما ، وهو قبول الحاكم قولها فى : حيض العدة ، وقبول الزوج قولها فى أن هذا ولده – مع الاحتمال المتطرق إلى ذلك ! وقبول قولها إنها حائض ، فقد تنزلت هنا منزلة شاهدين عدلين ، كما تنزل الرجل منزلة امرأتين ، فتداخلا فى الحكم (27) .
النقطة الثالثة : ما ورد فى السنة النبوية خاصا بنقص النساء عن الرجال فى العقل والدين “ناقصات عقل ودين” .
أما من حيث نقص العقل ، فقد بينه ابن عربى فى أصل نشأة المرأة المستخلصة من الرجل ، وأنها لا تدرك من مقامه إلا المقدار الذى خلقت منه، وهو ضلعه الصغير .
وأما نقصان الدين ؛ فإن ابن عربى يؤكد أن الجزاء على قدر العمل ، ثم يستمر على أساس الدور المنطقى ، فيقول : إن العمل لا يكون إلا عن علم، والعلم على قدر قبول العالم ، وقبول العالم على قدر استعداده فى أصل نشأته ، واستعداد المرأة ينقص عن استعداد الرجل لأنها جزء منه ، فلابد أن تتصف المرأة بنقصان الدين عن الرجل(28) .
لكن ابن عربى يعود فيذكر أن هذا التفاوت بين الرجل والمرأة إنما يرجع إلى أصل نشأتهما . أما من جهة العوارض التى تعرض لهما فالمساواة قائمة . والقرآن الكريم يقول ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( (سورة الأحزاب ، آية 35) .
وقوله عن الرجال : ) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ ( (سورة التوبة ، آية 112) وعن النساء : ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ( (سورة التحرية ، آية 5) .
النقطة الرابعة : ما ورد فى السنة النبوية خاصا بعدم فلاح القوم الذين يولون أمرهم امرأة .
وهنا يقول ابن عربى : ولا يحجبك قول رسول الله r : “لن يفلح قوم ولّواْ امرهم امرأه” فنحن نتكلم فى تولية الله ، لا فى تولية الناس(29) . والحديث جاء فيمن ولاه الناس(29) . ولا شك أن هذه لمحة ذكية جدا من ابن عربى لم يشرْ إليها أحد من شراح هذا الحديث . وقد شاع بين المسلمين حتى يومنا هذا أن تولية المرأة شأنا عاما من شئون المجتمع سوف يؤدى به إلى الهلاك لا محالة ، دون أن يتنبهوا إلى الفارق الكبير بين توليتهم هم للمرأة، وتولية الله تعالى لها !
النقطة الخامسة : ما ورد فى السنة النبوية خاصًا بخلق حواء من ضلع أعوج ، ولذلك فإنه ينكسر إذا حاولت تقويمه .
يقول ابن عربى : إن حواء خلقت من القصيرى فقصرت . وعوجها استقامتها . فانحناؤها حنوها على أبنائها ، وعلى ماله من الخزائن مثل إنحاء الأضلاع على ما فى الجوف التى أريدت لها . ولهذا كان اعوجاج القوس عين استقامته ، فإن رمت أن تقيمه على الذى تؤمله ، وهذا لجهلك بالاستقامة اللائقة به .
فما فى العالم إلا مستقيم عند العلماء بالله ، الواقفين على أسرار الله فى خلقه ، فإنه قد تبين لنا ذلك فى قوله تعالى أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ (سورة طه، الآية 5.) وهو عين كمال ذلك الشىء ، فما نقصه شىء(3.) .
فإذا انتقلنا الآن إلى النقاط الثمانية الأخرى التى تؤكد أو تشير فيها النصوص الدينية إلى مكانة المرأة ، فهى كالتالى :
النقطة الأولى : ما ورد فى السنة النبوية خاصًا بأخوّة الرجال للنساء، وأخوّة النساء للرجال ، فى قوله r : “النساء شقائق الرجال” .
يقول ابن عربى : ولو لم يرد إلا قول النبى ، r ، فى هذه المسألة إن “النساء شقائق الرجال” لكان فيه غُنية .. وهو يؤكد أن كل ما يصح أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء ، كما كان لمن شاء من الرجال(31) .
النقطة الثانية : ما ورد فى السنة النبوية خاصا ببلوغ بعض النساء مرتبة الكمال . قال رسول الله r : “كمل من الرجال كثيرون ، ومن النساء مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون” .
يقول ابن عربى : فاجتمع الرجال والنساء فى درجة الكمال ، وفضّل الرجل بالأكملية ، لا بالكمالية . فإن كملا بالنبوة فقد فضّل الرجل بالرسالة والبعثة ، ولم يكن للمرأة درجة البعثة والرسالة مع أن المقام الواحد المشترك يقع التفاضل فى أصحابه بينهم ، كما قال تعالى ) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ( (سورة البقرة آية 253) وقال ) وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ( (سورة الاسراء ، آية 55) (32) .
النقطة الثالثة : ما ورد فى القرآن الكريم خاصًا بتكليف الرجال والنساء . يقول ابن عربى : ان الله تعالى قد شرك بين الرجال والنساء فى التكليف فكلف النساء بما كلف الرجال ، وإن اختصت المرأة بحكم لا يكون للرجل فقد يختص الرجل بحكم لا يكون للمرأة ، وإن كان النساء شقائق الرجال(33) .
النقطة الرابعة : يقول ابن عربى : لما كانت حواء شجنة (أى قطعة أو نسيلة) من آدم جعل بينهما مودة ورحمة ، ينبه أن بين الرحم والرحمن مودة ورحمة ، ولذلك أمرك أن تصلها بمن قطعت منه ، فيكون القطع والوصل لك، فيكون لك حظ فى هذا الأمر ، تشرف به على سائر العالم ..
فالمودة المجعولة بين الزوجين هو : الثبات على النكاح الموجب للتوالد والرحمة المجعولة هو : ما يجده كل واحد من الزوجين من الحنان إلى صاحبه ، فيحن إليه ويسكن . فمن حيث المرأة : حنين الجزء إلى كله ، والفرع إلى أصله ، والغريب إلى وطنه . وحنين الرجل إلى زوجته : حنين الكل إلى جزئه ، لأنه به يصح اسم الكل ، وبزواله لا يثبت له هذا الاسم .
فالمودة والرحمة طلب الكل جزءه ، والجزء كله . فالتحما فظهر عن ذلك الالتحام أعيان الأبناء ، فصح لهما اسم الأبوة ، فأعطى وجود الأبناء حكنا للآباء لم يكونوا عليه ، وهو الأبوة .. فالتحق النساء بالرجال فى الأبوة(34) .
النقطة الخامسة : يذهب ابن عربى إلى أن شرف التأنيث يتمثل فى إطلاق كل من (الذات) و(الصفة) على الله تعالى . وكلاهما لفظ تأنيث : جبرا لقلب المرأة الذى يكسره من لا علم من الرجال بالأمر !
ثم يبسط شرح هذه المسألة فيقول : إنه لا يعرف قيمة المرأة ومكانتها إلا من يعرف مرتبة الطبيعة من الأمر الإلهى . فإن المرأة من الرجل بمنزلة الطبيعة من الأمر الإلهى . لأن المرأة محل وجود الأبناء ، كما أن الطبيعة للأمر الإلهى محل ظهور أعيان الأجسام . فيها تكونت وعنها ظهرت . فأمر بلا طبيعة لا يكون ، وطبيعة بلا أمر لا يكون . فالكون متوقف على الأمرين.
فمن عرف مرتبة الطبيعة عرف مرتبة المرأة . ومن عرف الأمر الإلهى فقد عرف مرتبة الرجل. وأن الموجودات – مما سوى الله – متوقف وجودها على هاتين الحقيقتين . والنتيجة أن المرأة بدون الرجل لا شىء ، كما أن الرجل بدون المرأة .. لا شىء !(35) .
النقطة السادسة : قال رسول الله ، : “حُبّب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عينى فى الصلاة”. يقول ابن عربى : فذكر النساء . ثم يتساءل : أترى حُبّب إليه ما يبعده عن ربه ؟! ثم يجيب مقسما : لا والله ! بل حُبّب إليه ما يقرّ به من ربه (36) .
النقطة السابعة : وهى من الدقائق الصوفية ، حيث يتحدث ابن عربى عن حنين (العارف) إلى النساء بأنه حنين الكل إلى جزئه ، مثل استيحاش المنازل لساكنيها التى بهم حياتها . ولأن المكان الذى فى الرجل ، الذى استخرجت منه المرأة (الصدر، وبداخله القلب) عمّره الله بالميل إليها ، فحنينه إلى المرأة حنين الكبير ، وحنوه على الصغير(37) .
ثم إن هناك لدى ابن عربى بعض الآراء التى تتعلق بإمامة المرأة فى الصلاة ، وجواز لبسها المخيط فى الحج . وهى آراء فقهية لا نريد تناولها فى هذا البحث .
النقطة الثامنة : يعتمد ابن عربى على الآية الكريمة ) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ( (سورة الحجر ، الآية 88) ليبسط رأية فى العلاقة الزوجية ، وكيف ينبغى أن يعامل الزوج زوجته بأعلى مستوى ممكن من الإنسانية واللطف . يقول :
“جعل الله النساء زهرة حيث كن ، فإذا كنّ فى الدنيا كنّ زهرة الحياة الدنيا ، فوقع النعيم بهن حيث كن . وأحكام الأماكن تختلف . فهن وإن خلقن للنعيم فى الدنيا فهن فتنة يستخرج الحق بهن ما خفى عنا فينا مما هو عالم ولا نعلمه من نفوسنا فيقيم به الحجة علينا .
وهذا مقام أعطانيه الحق بمدينة فاس سنة 593 ، قبل ذلك ما كان لى فيه ذوق .. ولما كانت الزهرة دليلة على الثمرة ، ومتنزها للبصر ، ومعطية الرائحة الطيبة ، فإن صاحب الزهرة (= الزوج) إذا لم يدرك رائحتها ، ولا شهدها زهرة وإنما شهدها امرأة ، ولا علم دلالتها التى سبقت له على الخصوص ، وزوجت به ، وتنعم بها ، ونال منها ما نال بحيوانيته ، لا بروحه وعقله ، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان ، بل الحيوان خير منه”(38) !
نتائج البحث :
أولاً : حاولت جاهدًا أن أعرض آراء ابن عربى كما وردت فى مصادرها من مؤلفاته ، دون أن أفرض وجهة نظرى عليها ، أو أقوم بتوجيهها لكى تخدم رأيى الخاص ، معتمدًا فى ذلك على منهجى فى التعامل مع النصوص التراثية ، والذى يقوم على عدم اجتزاء نص من هنا أو هناك، ثم بناء نظرية أو فكرة حوله ، وإنما لابد من استقراء كافة النصوص حول الموضوع الواحد ، مع ربطها بالمؤلف الذى كتبها فى ظروف معينة ، وبدوافع خاصة .
ثانياً : من خلال هذا العرض ، يمكن أن نتبين أسلوب ابن عربى نفسه فى تعامله مع النصوص الدينية ، حيث أنه يوظف معرفته الدقيقة والواسعة بالإمكانيات اللغوية ، سواء كانت على مستوى علم الصرف ، أو علم النحو ، أو علوم البلاغة ، مع الاستشهاد عند الضرورة بأبيات مفردة من الشعر العربى ، وذلك كله لكى يوجه معنى الكلمة أو العبارة إلى الاتجاه الذى يهدف إلى تقريره .
ثالثًا : أنه عندما لا تسعفه الإمكانيات اللغوية والبلاغية فى مراده ، فإنه يلجأ إلى تصوره الوجودى للأكوان ، السماوية والأرضية ، مع الرجوع فى أغلب الحالات إلى بداية خلق الكائنات ، وقابليتها لمختلف الصور التى تتشكل فيها بالقدرة الإلهية .
رابعًا : أن ابن عربى يتميز بجرأة فكرية لا حد لها . والمثال على ذلك أنه فى هذا الموضوع الذى عرضناه يكاد يختلف مع (معظم) ، إن لم يكن (كل) المفكرين والعلماء الذين لم يعطوا للمرأة تلك المكانة ، والتى حاول هو بكل الطرق والوسائل أن يثبتها لها . ويمكننى أن أشير على أحد شباب الباحثين فى هذا الصدد أن يعقد مقارنة بين آراء ابن عربى فى مكانة المرأة وآراء الغزالى فى نفس الموضوع ، لكى يتبين الفارق الهائل بين تصور كل منهما للمرأة ، ومكانتها .
خامسًا : أننى لم أعثر – مع الأسف – على تفسير ابن عربى ، أو تأويله للآية الكريمة فى سورة النساء )الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ( (آية 34) ، ولعل أحد شباب الباحثين يعثر على ذلك، فيكمل به هذا النقص .
سادسًا : أن الكثير من المسلمين ، أو بعضهم قد لا يتفق مع ابن عربى فى طريقة تحليله للنصوص الدينية ، أو للآراء الوجودية التى ذهب إليها ، ولكنهم فى مثل هذا الموضوع : مكانة المرأة ، قد يجدون فيه سبقًا على كثير من معاصريه واللاحقين به ، وتقدما واضحًا على أحدث ما وصل إليه العالم فى مجال حقوق الإنسان ، أو فى مجال التطور المدنى والحضارى.
سابعًا : أننا صححنا من خلال هذا البحث خطأين وقع فى الأول منهما المستشرق الأسبانى الكبير آسين بالاثيوس ، حين قرر أن كتاب (روح القدس) هو (مختصر الدرة الفاخرة) . والصواب أننا أمام ثلاثة كتب ، أولها ضاع بالأندلس . وكذلك للمستشرق بيدرسين ، الذى كتب مادة (ابن عربى) فى (دائرة المعارف الإسلامية) – الطبعة الثانية ، حين قرر – دون اعتماد على أى مصدر – زواج ابن عربى أكثر من مرة ، وكذلك حين حدد عدد أبئاته باثنين من الذكور فقط ، دون أن يشير إلى ابنته زينب ، التى توفيت وهى صغيرة .
ثامنًا : من خلال متابعتى لكل ما نشر عن موضوع (المرأة) أو (الأنوثة) عند ابن عربى ! على شبكة الأنترنت ، يمكن القول بأن الذين كتبوا أو اللاتى كتبن عن هذا الموضوع لم يتعاملوا مباشرة مع نصوص ابن عربى، وإنما داروا حولها لأنها لم تكن تحت أيديهم ، ولذلك قاموا بإسقاط أفكار ونظريات غربية ، بصورة متعسفة على ابن عربى ، فخرجت نتائجهم بالتالى بعيده كل البعد عن الحقيقة .
_______
*المدونة الشخصية للدكتور حامد طاهر