الموسيقار التشيكي سميتانا.. قلب بوهيميا النابض


مصطفى القرة داغي

يُعد سميتانا، الذي ولد عام 1824 بمدينة صغيرة مِن مُدن بوهيميا، الى جانِب دفورجاك وجيجيك وجوزيف سوك، مِن أبرَز المؤلفين الموسيقيين التشيك في القرن التاسع عشر ورُبما حَتى يَومنا هذا، ورَغم أن شُهرة دفورجاك مَحلياً وعالمياً قد جاوزت الآفاق، ويَرد اسمه اليوم الى جانب كبار أساطين الموسيقى العالمية، إلا أن اسم سميتانا ودوره بإرساء أسس هوية الموسيقى التشيكية الأوركسترالية راسِخ في الوجدان الشَعبي التشيكي، وفي الذاكرة الموسيقية العالمية، ولا يُمكن إنكاره ولا يُعلى عليه.

سَنتحدث في هذه المقالة بشَيء مِن التفصيل عَن مُؤلفه الأبرَز والأكثر شَعبية ليسَ فقط على مُستوى التشيك بل ومُستوى العالم، وهو سويت (أرض الآباء)، الذي عُرف واشتهَر بشَكل أوسَع عَن طريق حَركته الثانية “المولداو” وهو نهر التشيك الشَهير الذي يَخترق عاصِمَتها الساحِرة براغ، والتي تعتبَر مِن أعرَق وأجمَل العواصم الأوروبية.
في هذا العَمل تتجَلى عَبقرية سميتانا في المَزج بأستاذية وتمَيّز بَين الموسيقى الشَعبية الفلكلورية التشيكية وألحانها الراقِصة، وبَين البناء السمفوني الاوركسترالي، للخروج بشَكل موسيقي جَديد باتَ أساًساً ونموذجاً للموسيقى الكلاسيكية التشيكية سارَ عليه تلاميذه مِن بَعده.
(فيسرد) هو الاسم الذي اختاره سميتانا عُنواناً لحَركته الأولى، وهو اسم المُنحدر الصَخري الذي يَطل على نهر المولداو، والذي يُخبرنا التأريخ بأنه كان يوماً مَوقِعاً لواحِدة مِن أقدم قِلاع براغ التي كانت مَقرا لمَلكها وفرسانه، الذين دارَت عليهم الأيام ليَخوضوا مَعركة خاسِرة مع أعدائِهم انتهَت بمَوتهم وضَياع مُلكِهم وهَدم قلعَتِهم.
وقد سَعى سميتانا في هذه الحَركة الى وَصف المَكان بأجوائه ودَلالاته التاريخية مُفتتحاً إيّاها بأنغام الهارب الساحِرة لتعَبّر عَن شروق الشَمس على وَجه المُنحدر وسَفحه المُطِل على نهر المولداو، ثم ليَنقلنا عِبر حِوار نَغَمي خَلاب بَين الهارب والهَوائيات الى صور افتراضية للقلعة وذِكرياتها وأجوائها التأريخية الغابرة بمُصاحبة الوَتريات التي تمسِك بزمام المُبادرة في مُنتصَف الحَركة وترتفع بها لمَدَيات نغَميّة عالية ثم تعيده للهَوائيات والهارب التي تختتم الحَركة بنفس اللحن الذي بدَأتها به.
جَداول غابات بوهيميا التي تأتي مِن مَصادر مُختلفة، تتوَسّع خِلال مُرورها بالريف المُحيط ببراغ، لتُصبح نهراً عَظيماً مَهيباً هو (المولداو) عنوان حَركة السويت الثانية، والتي تعَد الأجمَل والأشهَر مِن بَين حَركات المَعزوفة لإنسيابية وسَلاسة موسيقاها كسَلاسة وانسيابية مياه النَهر وأمواجه.
هنا أبدَع سميتانا ببناء الجُمَل ورَسم الصُور الموسيقية التي توَضِّح طبيعة المولداو، وبطرُق وأشكال وتنوّعات لحنيّة نغميّة مُختلفة. ففي مَطلع الحَركة نستمِع عِبر الهَوائيات والنُحاسيات لأصوات الطيور وتدَفق مياه النهر عِبر الغابات، ثم تأخذنا الوتريات مَع لحن بولكا الى أجواء إحتفالية لعُرس ريفي على ساحل النَهر، ليَحل بَعدها الليل وتسكُن مِياهه العَذبة ويَنعَكِس وَجه القمر عليها بأجواء مُفعمة بالعاطفة والرومانسية تعيدُنا شَيئا فشيئاً الى لحن البولكا، حَيث يَبزغ الفجر مِن جَديد وتعود الى مياه النهر قوّتها ويَبدأ بالإتِّساع مَع اقترابه مِن مَدينة براغ الرائِعة ويَدخلها بهدوء ومَهابة نستشعِرها مِن خلال عَودة اللحن الرئيسي للحَركة الأولى. 
الحَركة الثالثة (ساركا) هي على اسم شَخصية نِسائية أسطورية مِن التُراث الشَعبي التشيكي كانت تعيش في القرون الوسطى، تَحكي قِصص التاريخ أنها أقسَمَت يَميناً بأن تُعادي كل الرجال وبضِمنهم حَبيبها (كتارد)، لذا نصَبت كميناً له ولأصحابه ونَجحَت بالقضاء عَليهم. لذا فموسيقى الحَركة هي مَزيج بين لحن سمفوني عاصِف، وبَين أنغام هادئة لطيفة تصِف قِصة الحُب الشائكة ومَشاعِر (ساركا) المُلتبسة بَين حُب وكُره تِجاه (كتارد)، والتي انتهَت بمَوته بطريقة مَأساوية مُؤلمة.
فِكرة الحَركة الرابعة والتي اختار سميتانا عِبارة (مِن حقول وغابات بوهيميا) عُنواناً لها، هي وَصف لسِحر وأجواء الطَبيعة التشيكية الجَميلة البَهيجة، أجواء غاباتها الواسِعة، ومُروجها الخَضراء، وموسيقى الهورن الفلكلورية، والسُكان وهُم يُغنّون ويَرقصون على أنغام البولكا، أجواء لطالما بارَكت مَراعيها المُمتدة على مَد البَصر بخُضرتِها وبَرائتِها وخَيراتِها، والتي تتخللها بَين حين وآخَر هَمَسات نسَمات الهَواء الدافِئة وهي تداعِب أوراق أشجار غابات بوهيميا العِملاقة.
أما الحَركتان الأخيرَتان الخامِسة (تابور) والسادسة (بلانك) فمُرتبطتان ببَعضِهما البَعض نظرياً وموسيقياً، وتتضَمّنان دَلالات وطنية عَميقة، يَربطهما لحن مُقتبَس مِن نشيد لحَركة دينية ظهرت بالعصور الوسطى ويَرمُز لجَماهيرها الغاضِبة التي اجتاحَت مَدينة تابور لإستِعادة قوّتها بَعد إحراق زعيمها (هوس) مِن قِبل مَحاكم التفتيش.
أما (البلانك) فهي بيوت تقع على سُفوح تلال بوهيميا كانت المَلاذ الآمِن الذي يختبيء فيه فرسان الحركة لإستِجماع قواهُم والعَودة لمُساعدة الاهالي، وفي النهاية ساهَمَت هذه الحَركة كغيرها مِن المُتغيّرات في نهوض الأمة التشيكية مِن جَديد وتخلصها مِن قيود مَحاكم التفتيش التي كانت تحكمُها بالحَديد والنار وتستعبد مُواطنيها كأغلب دول أوروبا في ذلك الزمَن.
في الخِتام لا بُد مِن أن نُشير بعُجالة الى بَعض مُؤلفات سميتانا الأخرى كثلاثية البيانو المُتميّزة، والتي ألفها بَعد خَسارته لابنتِه وعَزفها بنفسه أمام الجمهور في نفس السَنة، وفي العام التالي قام بعَزفها في بيته أمام ضيفه وصَديقه الموسيقار فرانز ليست الذي أثنى عَليه وعَليها ووصَفه بالموسيقار الذي يَحمِل قلباً بوهيمياً نابضاً. وكذلك الرَقصات البوهيمية التي إستلهمَها مِن أنغام البولكا وأعادَ توزيعَها وصياغتها على البيانو كما فَعَل شوبان مَع المازوركا. وقبل وفاته شَرع سميتانا بتأليف مُقدمة ومَجموعة حَركات لسويت موسيقي راقِص، إلا أن وفاته المُفاجئة عام 1884 حالت دون إكماله.
ميدل ايست أونلاين

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *