شهرنوش بارسي بور
ترجمة: سمية آقاجاني ويد الله
ملايري
ملايري
تُفتح نافذة غرفتي على حديقة واسعة قديمة فيها كهريز، فهي منطقة خضراء مليئة بأزهار بتونيا وشقائق النعمان. أرى أحياناً صاحب الحديقة يقتلع الأعشاب الضارّة. يبدو من بعيد أنّه عجوز. يلبس طقماً أزرق ويتّجه نحو الأزهار بيده المغطّاة بالقفازات، ليقطع رؤوس أغصان شجيرات الشمشير، ويقتلع الأعشاب الضارّة، ويروي العشب. حين ينهي عمله يخلع القفازات، ويجلس على مصطبة على طريق الحديقة الرملي، ليرنو إلى أزهار اللوتس داخل المسبح.
“غرفتي جيدة جداً.” لها نافذة كبيرة تطلّ على الحديقة، ولها نافذة تُطلّ على زقاق مزدحم، يحلّ ضوء الشمس ضيفاً على بلاطها السيراميكي حتى قبيل الظهر. لا أعرف لماذا أتصوّر ببلاهة لو أنني جلستُ إلى جانب النافذة المطلّة على الزقاق، بإمكاني رؤية عشاق يمرّون على الأرصفة بأيديهم المتشابكة. بالطبع نستطيع إلصاق صفة الحبّ إلى الناس. هنا لا يتبادل الناس القبلات في الأزقّة المزدحمة ولا يقبض بعضهم بأيدي بعض.
ربما فعلوا ذلك في الأزقة الضيقة جداً. لكنّ زقاقنا واسع تعبره السيارات فلا مكان فيه لمثل هذه الأعمال. لا شكّ في أنّ هذا التصوّر أحمق، لكنني أظنّ دائماً أنني لو ابتعدتُ عن بيتنا مسافة زقاقين لأجد الناس كلّهم عشاقاً.
“غرفتي جيدة جداً.” جدرانها زرقاء. صورة الحديقة تنعكس في مرآتها. سقف الغرفة أبيض ناصع. لي أربع ملائكة من الجصّ في زوايا السقف الأربع، تحطّمت أرنبة أنف إحداهنّ. هنّ ملائكة مدلّلات سمينات لا بؤبؤ لعيونهنّ. أتناول الغداء والعشاء إلى جانب النافذة المطلّة على الحديقة، حيث وضعتُ طاولة ومقعداً. سريري في الزاوية الشمالية الشرقية. بموازاة النافذة المطلّة على الزقاق، جثة رجل على فراشي، له ملامح ملكية وبشرة صفراء بلون الكهرمان نتيجة الموت. كان الرجل ميتاً منذ يوم تسعفني الذاكرة على استذكاره. له قامة طويلة وشارب وقور. على رأسه تاج نحاسي يغطّي نصف شعره الرمادي وقسماً من جبينه الأصفر العالي. للتاج حواف مسننة كجدران مسننة لقلعة قديمة بُنيت بتصميم قاس. قميصه من الحرير وعباءته من المخمل الأحمر. طرّزتْ حافة العباءة بالخيوط البيضاء ونقوش اللوتس. كان خياط العباءة عديم الذوق، فليست أزهار اللوتس متناسقة، إذ خرجت الخيوط الحريرية من أمكنتها على حافة العباءة. في يد الميت خاتم فضيّ بفصّ فيروزي كبير. بمرور الأيام اسودّ الخاتم وتجمّعت تحت أظافره الطويلة نسبياً وساخة كثيفة. تتراءى على أصابعه تجاعيد كثيرة. توهم ملامح وجه الرجل أنّه بلغ الخمسين، لكنّ اليدين تشيران إلى أنه أكبر سنّاً.
أستيقظ كلّ صباح من النوم وأمارس الرياضة. أقف أمام النافذة وأمارس حركات رياضية خفيفة، ثم آخذ نفساً عميقاً. حين أنهي الاستحمام عائدة إلى الغرفة أسمع قرقرة الماء في السماور وقد دوّت في الغرفة كلّها. ثمّ أشرب الشاي على الطاولة إلى جانب النافذة وأنظر إلى أزهار الحديقة، كما أنظر أحياناً إلى صراصير تتسلّق قوائم السرير لتضيع في ثنايا عباءة الرجل المخملية.
في تلك الأيام كنت أنام على السرير إلى جانب الرجل. لم أكن أستطيع تبديل شرشف الفراش. كان تحريك جثّة الرجل في غاية الصعوبة، خاصة أنّ له هيبة يخاف المرء من أن يلمسه. إذن كنت مضطرة إلى أن أغطّي بالشرشف المساحة الخالية، وأحياناً كنت أستيقظ في منتصف الليل فجأة، لأرى أنني اقتربت في النوم من الرجل ويدي ملقاة على صدره، فيبدو لي أنّ الرجل ينظر إلى السقف بعينين مفتوحتين. والأدهى هي الصراصير. إذ تضيع الطريق أحياناً وتنحرف من تحت عباءة الرجل إلى حيث أنا نائمة. وحين تتحرّك يدي أو آخذ نفساً عميقاً يمكث صرصور لحظة ثم يهرب بسرعة. كنت أشعر بأثر قدمه على كتفي زمناً طويلاً. كان سيئاً للغاية.
اشتريت كنبة جلدية. وضعتها إلى جانب النافذة المطلة على الحديقة، لصق الطاولة. أنام هناك منذ فترة طويلة.
أطعم طيور الكناري كل صباحٍ. أملأ لها إناء الماء. أقطّع الخبز للحمام. أكنس الغرفة وأنفض غبارها، فتلمع من شدة النظافة. لكنني لا أملك حيلة أمام الصراصير، فيزداد عددها يوماً بعد آخر. اشتريت شيئاً من السموم ورششت السمّ بحذر تحت عباءة الرجل، لكن ذلك لم يحلّ مشكلة الصراصير.
على عاتقي هذه الأعمال كلّها حتى وقت الغداء. مرّة أخرى أجلس خلف الطاولة إلى جانب النافذة المطلّة على الحديقة وأنظر أثناء تناول الغداء إلى ظُهر الحديقة المثقل بالرطوبة. منذ العصر تبدأ البطالة. أتراوح بين النوم الخفيف، والمشي على رؤوس الأصابع في الغرفة، وحياكة الكروشيه، ورتق ثقوب عباءة ذلك الرجل.
ثم يأتي الصبي بائع الصحف مساءً ويدقّ الجرس. أعرف طريقته في الدقّ: دقّتان قصيرتان تتبعهما دقة طويلة. أرمي له بالسلة على الفور، فيضع الصحيفة فيها. أسأله: “هل قبضوا على القتلة أخيراً؟” ويردّ: “قُبض على أحدهم والبقية مجهولون”. يمدح كلّ واحد منا، أنا وبائع الصحف، القتلة، لكننا لن نتحدّث معاً عن هذا الموضوع، كأنّ الحديث عنه، كما يقال، ليس جيداً.
والصحف مفيدة حقّاً. يمكن القول لو لم تكن الصحف، لما كان الصبي البائع للصحف، وفي الحالة هذه لما كان العالم موجوداً. كيف أعرف حقّاً ماذا يجري؟ أرى أحياناً سياراتٍ تعبر الزقاق زامراتٍ، أو أرى أشخاصاً يجتازون الشارع بين فينة وأخرى، ولا يبدو من ملامحهم أهُم عشّاق فعلاً أم لا؟ من أين لي أن أعرف أنّ هناك حقّاً عالم؟ لكنّ الصحيفة مليئة بالناس. الناس يشترون الأوراق المالية، يتبادلون القبلات أمام الكاميرا، تنشر صورهم في الصحيفة وهناك من يذهبون إلى ساحات القتال. أنا أسافر بالصحيفة إلى أماكن مختلفة، إلى تشيلي، إلى بوليفيا. في غابات بوليفيا، أفرش الصحيفة على الأرض وأنام عليها كي لا تؤذيني النباتات الشوكية، وأنظر إلى الأشجار الخضراء المتصببة عرقاً من الحرارة المرتفعة فوق رأسي وإلى صمغ الأشجار الأصفر المحموم الذي قد تدفّق من جذعها ومال لونه إلى البني قرب الأرض. أمسك الصحيفة بيدي وأسبح في قناة السويس منتبهة لئلا تصيبني رصاصة. لا تختلف صورة القناة عما كانت في فيلم “لورنس العرب”. أتزلج في سيبريا وأضع الضمادات في فيتنام على جروح الجرحى وأربطها بأوراق الصحيفة.
نعم، هذه هي الصحيفة. أحياناً أتحدّث قليلاً مع الصبي قبل أن أشتري منه صحيفة. أتذكّر أنني سألته في يوم من أيام الربيع الأخيرة: “ما أخبار السوق؟”. قال: “الكرز الحامض وصل”. سألته: “هل تشتري لي؟” رميت له بالنقود. اشترى الصبي كيساً مليئاً بالكرز الحامض وأرسله لي بالسلة. خطرت فجأة ببالي فكرة فقلت له: “هل تصعد لتشاركني أكل الكرز؟” اتجه الصبي إلى الباب. سحبتُ حبل الباب، وغسلت الكرز بحماس. تأخذ حركاتي وتيرة أسرع كلّما اقترب وقع خطوات الصبي. وكانت قرقرة السماور قد ارتفعت. رأيت وجه الصبي الخجل عبر الباب الموارب، ففتحت الباب. كان يلقي إلي فترةً نظراتٍ خجلة مستطلعة وأنا أتأمّله، أتأمّل حركاته. منذ فترة طويلة، ما كنت قد رأيت إنساناً من مسافة قريبة. كان له وجه أحمر جبلي ولم يكن خداه السمينان قد تخلّصا من جفاف البرد الذي اجتاح المدينة قبل بضعة أيام. لون عينيه وشعره بنيان وخصلة من شعره منسدلة على جبينه، كأنه ملاك من ملائكة زاوية السقف، والفرق بينهما الدماء التي تموج تحت بشرته بوضوح تامّ. قلت له: “ادخل واجلس هناك”. اتجه نحو المقعد بسذاجة وجلس عليه. كان ينظر إلى الملائكة في زوايا السقف بعينيه المستطلعتين. قلت له: “يشبهنك، أليس هكذا؟”. فأدار وجهه المحمرّ من الخجل إلى الحديقة ونظر إلى الأزهار. وضعت سلة الكرز الحامض أمامه وجلست في حالة تحول دون رؤيته الجثة ووجهه أثار ضحكتي. كانت قطرات الماء تتدفّق من الكرز ويلتمع لونه الخمري اللامع في ضوء العصر الطويل لمعاناً مذهلاً. كان كلّ شيء مذهلاً بالأساس. تخيلتُ لو استطعت الابتعاد عن البيت بمسافة الزقاقين، لأجد حتماً الناس كلهم عشّاقاً. قلت له: “أيعجبك القتلة؟” أيّد كلامي بحركة رأسه. قلت له بحماس: “وأنا أيضاً. لو أرادوا أنا جاهزة لإخفائهم في بيتي. أتعرفهم؟” رفع رأسه تعبيراً عن إجابته السلبية، فوقعت عيناه على الجثة وتسمّر في مكانه، كأنّ السماور توقف عن الغليان. قلت له: “ربما كان قاتلاً في أزمنة غابرة فبإمكاننا أن نحبه لو كنا في ذلك الزمن”. قال الصبي، وعيناه مازالتا محدّقتين: “سامحيني، لو… بحذاء ملطّخ بالوحل” قلت له: “وما أهمية ذلك؟ كلْ الكرز”. ودفعت السلة نحوه، ذهبتُ إلى النافذة الصغيرة كي آتي بشيء لعين لا أتذكره الآن، وحين رجعتُ كان قد ذهب.
قلتُ هذا لأساعد في فهم كآبة تنتاب الإنسان أحياناً. هكذا أحياناً لا يزور المرء ضيف فيشعر بالوحدة. كما لا يحبّ أحياناً أن يزوره أحد، لكنّه يشعر بالكآبة أيضاً. أنا هكذا أحياناً. أجلس ساعات على المصطبة وأحرّك إبهام رجلي وأنظر إليه، وقد أمشي في الغرفة ساعات. عليّ الاعتراف أن الصحيفة أيضاً لا تساعدني في مثل هذه الأوقات. كلّ بلد يزوره المرء يجد فيه في البداية شارعاً طويلاً باسم الملك، ثم يرى ساحة في وسطها تمثال. وإذ لا يرى المرء جديداً، يشعر بمزيد من الكآبة. انتابتني نوبة قاسية من نوبات هذه الكآبات غروب يوم سافرت فيه إلى كاتماندو. كنت قد قرأت في الليل شيئاً عن كاتماندو ومعابدها. ذكر صحفي أسماء معابد كاتماندو و … ونمت ليلاً، ونظفت الغرفة صباحاً وتناولت الفطور وطبخت الغداء وتناولته. ثم جاء عصر مملّ أحمق نظرت فيه إلى إبهام رجلي ألف ساعة، وحرّكته بين فينة وأخرى. ثم أعطى الاكتئاب مكانه شيئاً فشيئاً للخيال، فذهبت إلى كاتماندو. كانت كاتماندو في قمّة جبل مرتفع، وبدت جدران معابدها المسننة، من بعيد، ملتصقةً بالغيوم. كنا نصعد أنا وأناس كثيرين بصعوبة طريقاً جبلياً. كان الصحفي قد نسي ذكر مدّة وصول المرء إلى المدينة. كان الصحفي نسي في الأساس أن يكتب شيئاً عن الطريق والطريق غامض جبلي، فكاتماندو مدينة جبلية. كان ظهراً والجو مفعم بالرطوبة والبخار، وأوصالي تتصبب عرقاً، وكاتماندو مثل سراب بعيد.
ثم وصلنا إلى كاتماندو. كانت كاتماندو هي التي كانت بوسعها أن تكون. لا أستطيع التركيز على التفاصيل، فهذا يجعلني أشعر بالملل حين أكون خارج البيت. كان لكاتماندو شارع رئيسي طويل باسم ملك كاتماندو، وفي نهاية الشارع ساحة فيها تمثال الملك. كان الصحفي على حقّ، فالمدينة مليئة بالمعابد. زرت عدة معابد، ودخلت معبداً له باحة واسعة مرصوفة بالحجارة، إذ نبت العشب من خلال الأحجار. كان للمعبد قبة زرقاء وعدة منارات وللناس ملامح غامضة. في الحقيقة، أنا لم أدخل أي معبد، دخلت باحة المعابد. كنت أظنّ أن العود يحترق حتماً داخل المعابد، وهناك رجل جالس في إحدى الزوايا يتلو شيئاً ما، ولعلّ هناك بضعة جثث معارة في الأروقة. لعلّ هذا ما في المعابد. ثم تمدّدت على بلاط الباحة. كنت مرهقةً للغاية والصحيفة قد تبلّلت من العرق في يدي. كان الوقت عصراً، وفوق رأسي قبّة كاتماندو الزرقاء بلون السماء والسقف سجن لي وللمعبد. كانت السماء زرقاء حقّاً، وخيوط ضوء الشمس تتخلل في الغرب، وفي مزيج من لون قبّة المعبد الأزرق ولون السماء الزرقاء وضوء الشمس، بدت خيوط بيضاء تصل أحياناً إلى منتصف السماء، وخطفني النوم في هذه الحالة في كاتماندو.
العربي الجديد