ماجد الشّيخ
بعد 41 عاما من الأسر والمنفى، وبعد 15 عاما من نضال قانوني بلا هوادة، نجحت معركة الكاتب الفلسطيني توفيق فياض، بالعودة إلى أرض الوطن، مجسدا ولو وحيدا حق العودة، الذي يجب أن ينطبق على كل الذين غادروا فلسطين بدءا من العام 1948 قسرا، بفعل الأعمال الإجرامية التي مارسها الصهاينة، بتغطية من الاستعمار البريطاني، تحقيقا لوعد مشؤوم، صدر منذ أكثر من ثلاثين عاما، مارست خلاله الإدارة البريطانية وتنظيمات الحركة الصهيونية، أبشع صور نهب ومصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات، ودفعت الفلسطينيين إلى مخيمات اللجوء في المنافي القريبة والبعيدة، داخل الوطن الفلسطيني وخارجه، في محاولة لتذويب الهوية الوطنية، ونفي أي حق للفلسطيني بوطنه التاريخي.
هكذا، وبعد 67 عاما من النكبة الأولى و48 عاما من النكبة الثانية، ما زال مشعل حق العودة مرفوعا، وحلم كل التائقين للعودة إلى أرض الوطن. لهذا لم يكل توفيق فياض ولا محامياه عن نضال قانوني منذ 13عاما، أثمر اليوم عودته إلى حيفا: «حيفا هي أمي التي قضيت فيها أجمل أيام عمري، وإذا ما نسيتك يا حيفا نسيتني يميني، وإن هجرتك يوما جفاني الفرح».
بهذه الكلمات افتتحت تلك الأمسية الثقافية التي نظمت في مسرح الميدان بمبادرة من مؤسسة محمود درويش، ومسرح الميدان في حيفا، ومسرح الجوال في سخنين. في حين وصف لقاءه مع أصدقائه ومحبيه ضمن الأمسية الثقافية بأنه جعل من سنوات الغياب الواحدة والأربعين عاما كواحدة وأربعين ثانية في حضور محبيه، وبأنه رغم 41 غيابا عن الوطن إلا أنه لم يغادر حيفا.
إنهم يعرفوننا
هذا ولم يتمالك الأديب توفيق فياض نفسه عن البكاء من شدة الحب الذي وجده من أهله، فقال: «أشكركم جميعا، شكرا للأساتذة الذين أعطوني أكثر مما استحق. لم أكن أعرف أن هذا الحب هو أكبر من أي شيء، لم أكن أعرف أن أستاذي حنا أبو حنا سيكون يوما جالسا هنا، وهو أحد الرجال الذين شاركوا في تجريحي يوما من الأيام، عندما كنت كاتبا غضا صغيرا. ولكنه في هذا العمر، وبعد خمسين عاما، عاد ليقول إنه ظلمني، مقبول اعتذارك أستاذ حنا. شكرا لمسرح الميدان، ولمؤسسة درويش ومسرح الجوال، شكرا لكل الأحبة الذين أتوا هنا ليستقبلوني بعد غربة طويلة، 41 عاما لكنها كانت 41 ثانية في حضوركم، شكرا يا فتحي الفوراني صديقي القديم، شكرا لصديقي عبد الذي من حبي له ذهبت لزيارته، فرأيت الباب مفتوحا، ودخلت إليه وبدأت أتكلم وأتحدث وكأنه يجلس إلى جانبي، واذا أنا في بيت آخر، كنت حينها أكتب تلك المسرحية بيت الجنون، فالجنون مرض قديم وجنون قديم حديث، ماذا أقول؟ 41 عاما ولكن حيفا لم تذهب، لقد حملتها أينما ذهبت، سُئل محمود درويش عني، فقال «هذا الفلاح جاب العالم، ولم يخرج من المقيبلة. وأنا لم أخرج من حيفا، وكثيرون يعرفون كم تغزلت بنساء حيفا، وكأنني أتغزل بحيفا».
وتابع: «لنعد قليلا للأدب الذي صنعه رواد فلسطينيون، لم نكن نعلم بأنه يوما من الأيام سنقف على هذه الخشبة، لم نكن نعرف بأن العالم قرأ لنا، ذات يوم، وعندما سكنت مع محمود درويش جاء يلوح بجريدة ويقول: «أنظر إنهم يعرفوننا»، كان يحمل نصا نقديا لإبراهيم أبو ناب، لم نعلم أن أحدا سمع بنا وكتب عنا، ولكن العالم الآن سمع عنا وكتب عنا، لأننا مثلنا هذه الأرض، وهذا التراب المقدس، لم نستسلم ابدا ولن نستسلم، لأنه ترابنا وهي أرضنا مهما ابتعدنا».
وأضاف: «بالمناسبة أشكر معيدي لهذه الأرض، شكرا لك المحامي محمد دحلة والمحامية سهاد دحلة، في لحظة وجد على الجسر قلت له: يا أبا العائدين، لأنه قاتل 15 عاما لكي يعيدنا وأعادني، ويبدو أنه قد تأثر برسالتي الأخيرة له، حيث كتبت له وصيتي: إن لم تستطع أن تعيدني فوق الأرض أعدني تحت التراب تحت الأرض. وعلى الجسر قال لي: لقد أعدتك يا توفيق فوق الأرض وفي حيفا. لقد عدت لكي أراكم جميعا، وقد أعطيتموني هذا الحب».
واختتم: «ظننت في لحظة أن شعبي لا يعرفني، لكنني عدت لأرى النساء والأطفال حتى المحجبات خرجن ليقبلنني، كان هذا كثيرا عليّ. أحبكم أحبكم… أحبك يا حيفا، أحبك يا حيفا حقيقة،.. لم أغادر حيفا يوما، هي كانت رفيقتي دائما وقد عدت إلى حيفاي أنا كما تركتها، وليس أكثر صدقا من قول أحبك حيفا، ولكني أنا ابن المقيبلة مسقط رأس والدي».
النفي والمنفى
في المقابلة التي أجراها معه موقع عرب 48، يقول فياض عن المنفى: إنه أصعب من الموت، فالاقتلاع هو أبشع جريمة إنسانية ترتكب بحق الإنسان. وأضاف: «عدت للمقيبلة لكني لم أجد البلد، لم أجد المقيبلة، رغم أنهم احتضنوني بحرارة منقطعة النظير. اجتمعوا جميعا حولي، وحاولت تشخيصهم من خلال التشبيه..على سبيل المثال صادفتني شابة في الشارع، وصافحتني فقلت لها مباشرة أنت بنت حسنة، ومع غيرها حصل كذلك وشبهت الكثيرين، وأصبت. هذا ناتج عن الحب الكبير والعميق لآبائهم وأجدادهم ولبلدي، فأنا أختزن الصور الأصيلة لهم، ومن جهة أخرى أشعر بالصدمة من المتغيرات الاجتماعية والثقافية الكبيرة التي أراها، وأنا حزين لأني لم اعش هذه الفترة في بلدي.
وعن لحظة النفي، قال: «عندما أخذوني من سجن شطة لم يخطر ببالي أنني سأتحرر من السجن، حيث نقلت إلى غزة، وفوجئت هناك بوجود الأسير المرحوم عبد الرحيم قرمان في المركبة ذاتها. وكانوا قد نفوه أيضا. وعندما عرفنا بقضية التبادل رفضت ذلك، إلا أنهم رفضوا إعطائي هويتي وجواز سفري، وتوجهوا بي نحو الصحراء لتسليمي للجانب المصري. وبعد أن مكثت فترة قصيرة في مصر التقيت بالقيادة الفلسطينية هناك، ومنهم أبو عمار وأبو جهاد، وطلبوا مني الذهاب إلى بيروت، وهكذا فعلت. وبعد أن انتكست الثورة عام 1982 والخروج من بيروت انتقلت إلى منفى آخر في تونس، إلى حين عدت إلى أرض الوطن، بعد أن فتحنا معركة العودة التي تصدرها المحامي محمد دحلة منذ 13عاما.
في بيروت كان قد تزوج فياض من فتاة لبنانية، إلا أنها استشهدت في قصف إسرائيلي، أصاب منزل العائلة. وبعد أن استقر به المقام في تونس، تزوج من فتاة سورية، وأنجب منها ولدين وابنة، لا يزالون يقيمون في تونس. مؤكداً على أن معركته القادمة ستكون لمّ شمل عائلته.
توفيق فياض
ولد فياض عام 1939 في مدينة حيفا، وبعد النكبة انتقل إلى قرية المقيبلة قضاء جنين، وعمل في قسم الجمارك في ميناء حيفا وهناك جنده قرمان في مجموعة مقاومة. اعتقل عام 1970 مع شبكة اتهمتها إسرائيل بالتجسس لصالح سوريا، كان على رأسها الأسير المرحوم عبد الرحيم قرمان، وأطلق سراحه عام 1974 ضمن عملية تبادل أسرى مع مصر، ونفي إلى القاهرة ثم انتقل إلى دمشق وبيروت وتونس.
من مؤلفاته: المشوهون – رواية، الشارع الأصفر – قصص، وادي الحوارث – رواية، بيت الجنون – مسرحية.. وقد صدرت سلسة الشارع الأصفر للمرة الرابعة عام 2004.
المستقبل