سلام الإرتواء : حفرٌ في ديوان “ملحمة العطش” لسميحة المصري


علي عبيدات *

( ثقافات )


صدر للشاعرة سميحة المصري ديوانها الشعري الأول “ملحمة العطش”، عن دار فضاءات، عمان،الأردن. ويعد هذا الديوان أول ما نشر للشاعرة المُكثرة بالكتابة والمُقلة بالظهور والإصدارات، لا سيما أن المُقل أكثر موفوقية من المِكثار باعتبارنا في مرحلة فوضى الطرح.
العنوان بوابة النص، بعيداً عن الجودة والرداءة وبالقرب من الأبعاد والدلالات والسيمياء، فالعنوان العميق أول محفزات السير نحو النص القائم على ما ورائه، والعنوان بوابة التلقي والتلقي أول مرحلة من مراحل الإستحسان وآخر مرحلة من مراحل النفور، وإن كنت على عتبة ديوان وسمَّ بـ “ملحمة العطش” سيتوجبُ عليك مراعاة درجة انزياح العنوان عن المضمون وسترمى كصوفة مطروحة في حضرة التأويل الذي سيهيمن عليك آناء التأويل القسريّ وأنت ترتب مفردات تلقيك مترجماً وموؤلاً مفردتي “عطش و ملحمة”.
قيل في الماء” أعز مفقود وأهون موجود” ومن هنا تنطلق أهميّة عمود بيت الحياة والفاصل الدلالي بين سطوة المُعاش ودعة المُتخيل، ليتداعى الآخر في ملحمة العطش قحطاً حيناً وأخضراً يشبه راحة الماء أحياناً أخر، فكأن الشاعرة ترتدي نظارة قلب النتائج وتعديل الصور واصفةً لنا قسوة ما تعيش مستعينةً بالإبعاد الدلاليّة للعطش.
أما الإرتواء الذي هو الأمل المنشود الذي تبحث عنه الشاعرة بين ممتلكات إخوتها في المؤسسة البشرية فهو هالة الديوان التي نسجتها النصوص الموشاة بالدلالة والرمز والأسطورة والتجليات المعرفية التي اندلقت بين بنى الديوان وارست دعائمها على ابستمولوجيا البوح لاستجلاب المنشود والمواربة والتصحيف والتحريف لكل تفاصيل التجربة الشخصية للشاعرة والخسائر والأنفال التي تقاد دلالاتها بين ردهات بوحها، معلنةً أن المُتخيل هو المأمول وأن المُعاش مدعاةٌ للوصف لا أكثر، فهي ترفضه وتحمل الكثير من قسوته على عاتق ذوات شاركت بها الشاعرة محيطها بشيء من التراجيديا التي برع بها شعراء الاعتراف.
ماذا أفعل بك بك وأنت جميلٌ جميلٌ كالوطن؟
وكيف أبلغ منهاك وأنت رواية طويلة كالزمن ..!
أنا بعض ما صنعت يداك، عافني العطش ولمني الوهن
وأن الكثير من العطش لنا .. ولكم كل مواسم المطر “ملحمة العطش ص 13”.
تعود بنا الشاعرة – وفقا للعنوان – إلى عصر حروب الماء التي لم تحدث على هيئة حرب بقدر ما نعيشها بمفهوم خسارة اللا حرب، والتي تجيء دون ارتعاشة كف وعناق سيف، لتكون خسارة اللاحرب نتيجة ما لم يحدث – أصلاً – بين ردهات ذات الشاعرة التي قدمت لنا الإستبطان والغناء (الإعتراف) بصورة هوية رغم أن العالق بين طيات هذا النصوص وتلك الخسائر ،ذات الشاعرة فقط، فملحمية العطش وجرف حروب الماء صوب ضحايا الماء بصورة تشاركية، ليس إلا عطش الذات المتكهفة بمنأىً عن خسائر الجمع الذي أُقحِمْ في النصوص لتكون خسارة الذات بمعية خسارة جماعية وقف بها الخاسرون بكامل عطش الخاسرة الوحيدة (الشاعرة).
انهم يسقون العطش سراباً يا سيدي
هل عندك ماء؟
من يسقينا غير السراب..
وحياة كل هذا العطش إننا ظمئنا..
فهل من أنبياء جدد، يبسرون بالماء يا سيدي..؟”ملحمة العطش ص21″
تترسم معالم ما يدور في أرشيف ذاكرة الشاعرة على نواصي وهوامش وصميمية الديوان، والعطش بذاته لم يكن مبرراً للحرب بقدر ما كان استجلاباً للإرتواء المنشود، فهي عطشى وفي حيرة من أمرها بينما ترسم لمخاطبها صورة الوطن مكللة تلك الصورة بمعادلة معقدة تأبى الشاعرة أن تستوضح غموضها لأن المخاطب صعب المنّال وثقيل الحمل، وها هي ترمي على عاتقه مسؤولية وجودها (عطشها) بينما هي تدلنا على خيط من خيوط التعرف على هذا المخاطب الذي جعل منها متعبة لا تشفي غلة عطشها وكأنها تفتح باب الموقف من الزمن عبر الحديث عن الآخر الذي اثقلت كاهله بما أصابها بسببه.
نحن الذين متنا يا صديقي .. وهذه ليست ذنوبنا
نحن الذين نمنا وهذا الفجرلا ينبيك عن صحونا
ونحنُ الذين ذهبنا وهذي الأطلال ليست عناويننا
(فلا تشعل النار بهشاشتنا). “اسفاً لحماقاتي فالعارء ليس لأحد ص 23”
تبدأ هذه الذات المتعبة (العطشى) برسم معالم هيئتها وحالتها ومواقفها تزامناً من الترميز الذي لا يفارق ديوان العطش هذا، ولعل الرمزيّة وصعوبة التراكيب في ديوان كهذا ليست بداعي احتراف الشاعرة بقدر ما هي ردة فعل المبدع الذي يعيش في زمن التعقيد والصعوبة ليتأثر طابعه النفسي بطابعه العام وبيئته المليئة بالقلاقل والرُعب، فأي ذات تلك التي ستعيش حياة سهلة خلف تخوم عالم يحترف التعقيد والفوضى، وكان لهذا أثر كبير على ذات الشاعر المعاصر الذي صُيرَّ لشعره أن يتخذ مجرى مأساوي في عصر المأساة الذي نحن فيه، لتكون الشاعرة كغيرها من شركاءها بالشعر في حيرة تامة وتكهف نسبي على الذات المجهدة.
لن نترمل يا بنفسج .. يا سيد الأنس برغم كل هذا الثلج
حتى لو انهار الوردُ من حولك أسراباً أسراب
وبقيت وحدك أنت وشوك الصبار. “أسفاً لحماقاتي فالعراء ليس ملكاً لأحد ص25”.
استثمرت الشاعرة كل مبررات التعقيد والاسهاب بشرح الكوامن النفسية في قصيدة النثر التي هيمنت على هذا الديوان بنصوصها التي اتخذت من موسيقى الكلمة وازدحام الصور والتشبيهات ومراثي الذات نهجا مستقلا في عواملها المغلقة، فكما يرى أدونيس فإن قصيدة النثر عالم مغلق لأن الكامن في الكتابة النثرية هو انفتاحها وقدرتها على أن تسيب وتنداح.
تتجلى ذات الشاعرة الغريبة باستثمار نفير القصيدة الحديثة والسعة التي تملكها غير منضبطة بوزن أو موسيقى داخلية أو حتى بترتيب يبعد النص عن شبهات التنافر، فهنا نتائج مهولة ومباشرة تفيد بأن هذا العطش للجميع متجاوزة ذاتها ومحملة مخاطبها ذنب القحط والجدب باعتبار معادلة العطش تقوم على طرفين متضادين المنكوب والسارق، فهي تنوب عن شركاء عطشها وتعلن ان العطش ملك للجميع منذ ان انتزعت ملكية الإرتواء منها ومنهم.
قل لي بربك من قتل النغمة في قيثارتي
وجمع العوسج وأوقده على ممشى الورد ليترمّد
أعذرني .. حرامٌ أن يترمد الورد وأنت سائسه .. 
“غفران لن يمحو الخطيئة ص30”
تفرطُ الشاعرة بالطلب تكرماً من هذا المخاطب المتشعب، فهو الله حيناً والعبد أحياناً أخر، والظالم يوماً والمُنتظر لغايات مختفلة أحياناً، فالذات منغمسة في غير موضع وضمن أُطر مختلفة، ولعل الإلحاح اصرار على أمل لم ينقطع ودعوة للمخاطبين المختلفين ليحضروا فوراً وسنداً وعضداً.
ولم تنج الأسطورة من الحضور في ركن العطشى اللاواقعي آناء تسكعها فيه واستجلابها لحضوره الذي بدا خجولاً من سطوة فلسفة الخسارة المسيطرة على بُنيَّة النص الشعري الطويل والحاشد، لتتبدى أريانا على شفاه هذا العطش وليتمايل سيزيف منتشلاً نفسه من جُبّ المعاناة بينما يتلكأ أنكيدو ويعيدنا إلى ثنائيات جلجامش التي لها من الصبر والنفور والغواية والخدعة والتسليم والمثابرة ما يجعل من روح الأسطرة بثاً متشعباً في جسد النص الذي انجبته دينامية مبدعّة قرأت لتكتب وعاشت تأويل كل تلك الأساطير في مرآيا مُثلها بعد أن عكستها على أسهل الخسارات التي أسبغت عليها وجع الذاكرة الشعبية كلها، لتبان بهذا الأكثر خسارة في نصٍ كان حضور الفوز فيه بمقدار التمني الذي سيطر على وصف الخسارات والاستبطَّان الصرّف.
أنكيدو أفق وصاحبك، ستصير أول العطاشى وأول المجانين
سيزيف، يكفيك أنك تصارع على قارعة موتك كل الوقت ماء
أريانا، لا تقطعي الخيط قبل أن أقرأ تعاليم الدخان والعشق. “ملحمة العطش 14”
هذا التعقيد الذي يترشح من معالم الديوان، سوريالياً حيناً ومنظماً في عقر وعي الشاعر في أحيان أخر، يفهمُ فذلكة حداثيَّةُ إن قارئ القارئ قصيدة واحدة واكتفى، ويذهب بالقارئ ذاته إلى امتداد لنظريات ومشارب فلسفية وتناص محتوم على شاعرة تقرأ لتحتشد وتحتشد بينما تكتب، وترمي نصها مكسداً بالشيفرات أمام القارئ، ولعجز –ربما لا أكون منصفاً إن وصفته بالعجز”- فالحركة النقدية الأدبية في بيئتنا الثقافية شبه غائبة مقارنةً مع ما ينتجه المبدعون وينتقده النقاد ويمر به المتلذذون، فلو كان النقد حاضراً لشاعت بين القراء ثقافة القارئ الناقد والمتلذذ الحصيف، ولكانت ملكات الجرجاني في المعادلة الإبداعية “ملكة منتجة وملكة متلذذة وملكة ناقدة” في تكامل وافٍ ضمن مشهد أدبي صحيّ، ولوصلنا بهذا إلى نصوص تغرق في الرموز والدلالات وقريبة من وعي القارئ بعد أن يجر عربتها النقاد.
وهنا أيضاً، في ديوان الشاعرة الذي نحن في صدد المشي على عتباته ، نرى استعراضاً حاشداً لمشارب فكرية يظّنها القارئ لم تكتب من أجله بقدر ما هي مكتوبة ومنتقّاة نكايةً بالشعراء وعلى نهج من فتنوا بتعدد المشارب الفكرية، لنرى مزجاً عجيباً بين الأسطرة والأنسجة الدلالية وبنى النصوص الشعرية الشاهقة، في غياب تام للنثرية و المباشرة. فنحن نرى البنيّة والمكونات الجمالية والفكرية لما ترسمه الشاعرة على وجوه نصوص ديوانها وهي تعزف على آلة السيمياء، وضابطة سيطرة تضع المفردة بجانب جارتها على صعيد التساؤل أكثر مما هي زينة لها ضمن ما يتداعى في مخيلة الشاعرة وهي تبوح محملة بإرث الذوات المتعبّة والخطوات التي يتردد صوت انغراسها في رمال مسيرة شعراء الأسى والتراجيديا “الميتا شعورية”، فهنا الورد بأنواعه، وهناك الروائح وهي تضوع في مدى التشبيهات والصور الشعرية، وبين سطر وآخر ثمّة تفرد ومحاولة تجديد على صعيد تكنيك الصورة ضمن حسابات الصوريين (الإيماجيين) لتظهر الزهرة بكامل حقيقتها ويخنس في قفاها أقسى أنواع الشوك، وكذلك النبع والقحط والغدير والجدب.
ولو تعرف الأماكن الخالية كم من البشر يسكنونها ..!
اغرورقت الشمس وشرقت، حيث أخبرتها أنني فشلت
في تجميل وجه هذا العالم المشوه ..!
لقد وجدتُ في الصباح دموع الشمس على وسادتها. 
“تغريبة العطور الكبرى ص 35”
تقودنا توازنات النصوص المتينّة لرسم انطباعات التلقي وفق اندماج والتئام أوصال البُنيّة التي بدأت تتكشف للمتلقي أولاً بأول، ومن هذا المباشرة في الاعتراف وأن يكون النص عفوياً مطلقاً، فكما سبق، نرى أن الشاعرة لا تؤمن بالمباشرة إلا في محطات معيّنة (مكثّات) أردات بها أن تريح القارئ الذي يواصل قراءته مشدوهاً بالكاد يفهم ما يقرأ – حتى المتخصصين- ودائماً ما حُسب هذا على المبدع أكثر مما هو نتيجة ضعف المتلقي، وهنا كان دور المباشرة التي وصلت على هيئة جمل خبرية في غير موضع من الديوان، فعلى صعيد البناء لا مندوحة من الحديث عن المباشرة فهي ليست هناك، بيد أنها تتلألأ على أبواب بعض النصوص وفي نهايتها شعوراً من الشاعرة مع القارئ الذي أجهدته القراءة المركزة والتكثيف المفرط.
والشاعرة وكثير من جيلها يحاولون دائماً أن ينتقوا لهذا الزمن ما يناسبه من مفردات وأنماط شعريّة، وأثرى هذا اللغة الشعرية للشعر الحديث برمّتها، فأنت تقرأ بولدير في شعر بدوي من الحجاز أو راسين وجون كيتس في شعر شامي من الأردن ومقدسي من فلسطين، وهذه نقطة فاصلة في شعريّة اليوم والأمس وركن رئيس لهويّة الشعر الحديث الذي تنتمي له الشاعرة مستندةً على ثقافتها الواسعة وسجيتها وتربيتها المؤثرة على طابعها النفسي ليتشكل كل هذا في لا وعيها بعد أن امتلأت بالمشارب الفكرية الجديدة، لنرى ضمن مخرجات هذا مصطلحاً نقدياً يعرفونه الفرس بـ “حسآميزى” أي مزج الحواس الذي بدا واضحاً في لغتها الشعرية بالاستناد إلى معارفها وقراءاتها المتعددة وحبها للغات مختلفة كما يتضح من نصوصها المليئة بالتناص والدلالات التي ترمي لثقافة واسعة ومخزون لغوي ودلالي ترف.
ونوافل على جنوب الروح
ومظلتان وبابٌ آخر خلف الباب
وشموعٌ على قارعة الشمس 
وتاريخٌ منسيٌ على التاريخ
وشفقٌ وأنتً ومساء . ” مطرٌ وأشياؤنا على شوارع الغرباء ص51″ 
نوافل (مرام) ووجهة (مكان) وروح(حيرة) وأبواب (خلاص) ومظلتان (أمن) وبابٌ إضافي (انعتاق) وشموع وشمس(ظلام) وقارعة (تيه) وشفق (حميمية وفّقْد)…، يتألق المزج في هذا المقطع الأفقي المأخوذ من نصها ” مطرٌ وأشياؤنا على شوارع الغرباء ص51″، فأن تكون المظلة مظلتان، فقد جاء بمعيّة التثنية أحدهم وثمّة بابٌ مضاعفٌ كنايةُ عن قيد سيمنع تأرجح المظلتان في رأسين اثنين ذات لقاء، والشموع تقبع قرب الشمس، ضربٌ من ضروب الأمل بالضوء المطلق الذي سيحضر مع الشمس ليقشع حاضراً مؤلماً خلف كل هذه الأبواب القاتمّة على مرأى رمز المراقبة والانتظار (الشفق)، فكل هذا المزج عضواً عن مفردة “لقاء”، ليتجلى مزج الحواس في قطعة موسيقية حشدت عشرات الصور وبعض الأضداد.
ويفرد لمزج الحواس، قراءة دلالية مستقلة تأتي بها نماذج المزج وتأويلها، باعتبار هذا المصطلح لم يعرف سابقاً في نقدنا العربي، وفيه ما يستدعي اهتمام الباحثين والدارسين للوقوف عليه، من منظور فلسفي وضمن ما يقدمه المنهج النفسي في النقد الأدبي من مساعدات في هذا الباب، ولأن القراءة النقدية لهذا الديوان محددة وفق معايير القارئ الملول فسيكون لمزج الحواس ونصوصنا الأدبية شأن في الأيام المتقدمة إن شاء المُتعال.
يعد التساؤل عمَّاد بنيّة النصوص التي تشكل أزمة تلقي بين المتلذذ كقارئ والناقد آناء سبره كنه النص وما وراء الخطاب الإشكالي الذي نما فيه التجلي المعرفي بينما بالكاد بزّغت أغراس التلقي عبر الديناميّة الابداعية التي تخدم النص استناداً لسموه المعرفي وتخدم المتلقي كلما حاول أن يدمج بين المفردات والجمل التي تصوغها الشاعرة كلما تغيّر مستوى الديناميّة الابداعية بين نجاح وارتباك لدق نواقيس القضية المشتركة بين ما يراه المتلقي في ذاته والذي تعبر عنه الشاعرة.
تماهي العطش مع العشق الإلهي
يقول مولانا نجم الدين كبرى: الطريق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *