*آمال الديب
تعرَّضت اللغة العربية لموجة عاتية من الاعتراض، والرفض، والثورة على قواعدها. وراحت تنتشر شعارات من مثل: “لتحيا اللغة العربية ويسقط سيبويه”. وبين مؤيد ومعارض اشتعل الصراع على صفحات الجرائد، ثم ظهرت كتب مستقلة إما تؤيد تلك الموجة وتسير وفق اتجاهها، وإما تتصدى لها مفندة ما تحمله معها من آراء وأفكار كانت حريَّة بأن تقضى على كل ما هو جميل فى تلك اللغة لولا أولئك الجنود الذين اصطفُّوا لحمايتها، ووقفوا بالمرصاد لكل من سوَّلت له نفسه المساس بأصالة تلك اللغة العريقة، ولكل من يحاول أن يلحق بها، أو بقواعدها أى ضرر.
ومن تلك الكتب التى ظهرت لتتصدى للدفاع عن اللغة العربية كتاب “إنقاذ اللغة.. إنقاذ الهوية: تطوير اللغة العربية” للأستاذ الدكتور أحمد درويش، وكيل كلية دار العلوم، جامعة القاهرة.
ويبدأ الكتاب بتمهيد تحت عنوان “التراث العريق واللغة المتجددة” يتحدث فيه المؤلف عن مكانة اللغة العربية وعراقة تراثها، وحفاظها على مكانتها فى صدر اللغات العريقة، ويشير إلى أنها تنتمى إلى عائلة اللغات السامية، وإلى أنها قد اكتسبت مكانة خاصة بعد نزول القرآن الكريم بها؛ فمنذ تلك اللحظة لم يعد الحفاظ عليها مجرد حفاظ على إرثٍ لُغوى، وإنما باعتبارها الوعاء الذى يحمل رسالة الإسلام، وأداة لغوية تؤدَّى بها شعائره المقدسة (مع مراعاة أن القداسة للقرآن، لا لتلك اللغة التى نزل بها).
ويوضح التمهيد تلك المراحل الحضارية التى مرَّت بها اللغة العربية بين فترات ازدهار وتألق فى بعض الأحيان، وفترات انكماش وجفاف – على حد تعبير المؤلف – فى أحيان أخرى، بل قد وصل الأمر إلى إعلان الحرب عليها خلال القرنين التاسع عشر والعشرين على يد كبار الخبراء فى عصر الهيمنة الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية، وبالطبع لا نستطيع أن نستثنى من هذه الفترة الزمنية تلك السنوات القلائل فى القرن الحادى والعشرين.
وجاءت فكرة “القطيعة مع التراث” لكى تشكل مبدأً مهمًّا من مبادئ الحداثة الفكرية. ويرى أن فكرة القطيعة هذه “فخٌّ” ينبغى التحذير من الوقوع فيه لئلا نجد أنفسنا نحقق ذلك الهدف الذى يسعى إليه أعداؤنا.
اللغة والهوية:
يتناول الفصل الأول من الكتاب تلك العلاقة الوطيدة بين اللغة والهوية، مشيرًا إلى ذلك الدور الذى تلعبه اللغة فى حياة الفرد والمجتمع، وكيف أنها ليست مجرد أداة تواصل، وإنما هى هبة من عند الله تمثل أولى درجات تميز الإنسان على ما عداه من الكائنات. ويربط المؤلف بين الهوية واللغة من خلال عدة أشياء أولها: لغة الأم؛ فالأم هى الوطن الأول لكل إنسان، ومنها يتعلم أولى كلماته المعبرة عن هويته، (وليس أدل على أثر لغة الأم على الإنسان من أولئك الذين يتزوجون من أجنبيات، فيجيد أطفالهم لغة الأم أكثر من لغة الأب). وتعتبر “لغة الأم” عاملاً رئيسيا فى هوية الفرد، حيث تؤهله لكى يلتحق بجماعة أكبر تنتمى إلى اللغة نفسها، ويبدو هذا جليا من خلال ملاحظة تشكُّل ملامح للهويات الجماعية الصغيرة، داخل اللغة الواحدة، بل وبين القرى الصغيرة المتجاورة فى كثير من الأحيان.
ولا شك أن اللغة العربية قد عرفت لونًا من موجات الانتشار خارج الجزيرة العربية بعد الدعوة الإسلامية، فارتباطها بالإسلام قد ساعد كثيرًا على سرعة انتشارها. كما أن هناك مبدأ من مبادئ الإسلام صرَّح به الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) حين قال: “ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربى”. وبالطبع ليس المقصود من تعلَّم العربية بعد لغته الأم، وإنما يعنى من ولد وتربَّى بين العرب، وتعلم تلك اللغة، وهذا يصدق على الثقافة والحضارة. وليس أدل على ذلك من أولئك المولدين الذين قاموا بالتقعيد للغة العربية فى العصر العباسى. وكم قام التعريب بدور كبير فى إنعاش الثقافة العربية، لدرجة ترجمة الإنجيل إلى اللغة العربية حين حلَّت العربية محل القبطية فى مصر.
ويشير المؤلف إلى أمر بالغ الأهمية، ألا وهو أن الهوية ليست تقليدًا لأمة أخرى، ولا اتباعًا لحضارة مغايرة. ويستشهد بقول المفكر الشهير “صموئيل هنتنجتون” صاحب نظرية صدام الحضارات من أن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن لها أن تدخل فى النسيج الحضارى للغرب، لمجرد أنها تستهلك بضائعه، وتسمع موسيقاه ؛ لأن روح أى حضارة هى اللغة والدين، والقيم والعادات والتقاليد.
وهناك تجربتان معاصرتان تم فيهما الاعتماد على اللغة لإنقاذ الهوية المشتتة، وهما التجربتان اللتان تمتا مع اللغة الفرنسية، واللغة العبرية.
فخ القطيعة مع الماضى:
هل معنى تطور اللغة هو أن تنقطع عن تاريخها وتراثها؟!
يدور هذا الفصل حول نقطة شديدة الأهمية، وهى تلك المحاولات التى تناقش فى أيامنا هذه قضايا اللغة العربية وموقعها على سلم التطور والجمود، ومقدرتها على الاستجابة لمطالب العصر. ويتوقف عند بعض تلك العناوين من مثل “لتحيا اللغة العربية، يسقط سيبويه”، فهذا عنوان كتاب ظهر حديثًا يقول مؤلفه فى مقدمته إنه لا يقصد إلى هجر اللغة العربية لحساب اللهجات العامية، أو استخدام الحروف اللاتينية. وهذا كلام جميل لو أن الرجل كان قد التزم به، ولكنه يناقض ذلك فى كثير من المواطن.
ويطرح فى نهاية الفصل سؤالاً مهمًّا: ولماذا سيبويه؟ هل يستحق مثل هذا النموذج فى ذاته أن ندعو إلى إسقاطه؟. وهل فعل ذلك الإنجليز – مثلاً – مع طاغور الهندى لأنه أحب الإنجليزية وحرص عليها؟، ألم يكن سيبويه شديد الغيرة على اللغة العربية لدرجة أنه مات كمدًا بسبب الاختلاف حول إحدى المسائل اللغوية؟ أليس هذا كفيلاً بأن يجعلنا نقدِّر لذلك الرجل قيمته، وأن نحترس من الوقوع فى فخ القطيعة مع الماضى؟!.
تحديد أبعاد المشكلة اللغوية:
ينبهنا هذا الفصل إلى أن ما ينبغى فعله بصدد مناقشة أى قضية هو تحديد أبعادها، ودراسة التصورات حولها، ثم بناء الأفكار على نسق أسلوبى متماسك. ويشير إلى بوفون ومقاله الموجز “مقال فى الأسلوب”، الذى وردت فيه عبارة شائعة نستعملها جميعًا هى: “الأسلوب هو الرجل”. ثم يعود إلى كتاب “لتحيا اللغة العربية، يسقط سيبويه” لشريف الشوباشى، ليصفه بأنه “يخضع فى مجمله للخطوط العامة لمناهج البحث، ويطرح خطة قابلة للمناقشة وهو يوزع صفحات الكتاب بين القضية الرئيسية التى يمكن أن تسمى “نواة الكتاب”، وهى مقترحات الإصلاح اللغوى والنحوى…”، ويدلل على اضطراب ذلك التقسيم بتلك المساحة التى تحتلها القضية الرئيسية (وهى لا تتجاوز 7% من صفحات الكتاب).
اللغة والدين:
يفصِّل المؤلف فى هذا الفصل ما أشار إليه إشارة مجملة فى التمهيد، فيطرح مرة أخرى – بشىء من التفصيل – قضية اللغة والقداسة، وهل العربية لغة مقدسة؟، فليس معنى إنها لغة القرآن أنها لغة مقدسة بالضرورة. ويستمر المؤلف فى ذلك الفصل أيضًا فى الرد على الشوباشى فى كتابه مفندًا الكثير من آراء الأخير، وردها بشواهد من الحياة والتاريخ العربى والإسلامى. “فالعلاقة بين اللغة والدين لا تضع أى قيد على حركة اللغة وتطورها ونموها”.
العربية لغة متطورة:
يتصدى هذا الفصل للزعم القائل إن “اللغة العربية هى اللغة الوحيدة على وجه الأرض التى لم تتطور قواعدها، ونحوها وصرفها منذ ألف وخمسمائة عام، وهى اللغة الوحيدة التى أصر الناطقون بها على تحنيطها، وبذلوا كل الجهود للحفاظ على نقائها”. والدليل على بطلان هذا الزعم أن المثقف العادى، ناهينا عن المتخصص، لو قرأ بيت امرئ القيس:
أغرَّكِ مِنِّى أنَّ حبَّك قاتِلى وأنَّكِ مهما تأمُرِى القلبَ يفعلِ
لما وجد أدنى صعوبة، ولا احتاج معجمًا للكشف عن المفردات، فلا يعنى احتفاظ الفاعل بالرفع، واحتفاظ المفعول بالنصب أن اللغة العربية جامدة أو غير متطورة!
نماذج من عصور العربية المختلفة:
تخير المؤلف فى هذا الفصل أحد عشر نموذجًا للكتابة من عصور مختلفة – متقاربة ومتباعدة – ليؤكد أن اللغة العربية تثبت من خلال تلك النصوص المتنوعة أنها لغة بعيدة تمامًا عن أن توصف بالجمود والتخلف، وهى فى كل تلك النماذج أقرب ما تكون إلى اللغات المتطورة التى تحافظ على عناصرها ومكوناتها الرئيسية. ويأتى بالشواهد على طواعية اللغة العربية ومرونتها وقدرتها على التأقلم مع معطيات كل عصر، كما أنها تتميز بالوسطية فى القواعد بين اللغات.
اللغة القومية وتوطين العلم:
حين كانت اللغة العربية فى أقوى عصور ازدهارها كانت قادرة على استيعاب العلوم كافة، وأثبتت نجاحًا وعبقرية منقطعِى النظير، ولكن حين تخلَّى العرب عن عروبتهم واختاروا أن يكونوا تابعين دون تفكير فى عواقب تبعيتهم كانت النتيجة هوَّة عميقة تفصل بين العلم واللغة العربية فى معظم البلاد العربية إن لم يكن فيها جميعًا. وربما يكون الاستعمار من أقوى الأسباب التى ساعدت على الفصل بين اللغة والعلم حين حولت لغة التعليم إلى الإنجليزية مثلاً فى مصر. حتى إننا صرنا الآن ندرس العلوم النظرية والاجتماعية، وليس فقط العلوم الطبيعية والتجريبية، باللغات الأجنبية!.
وهناك آثار سلبية واقعة أو محتملة وراء موجة التغريب فى التعليم بمستوياته المختلفة، فلم يُكتفى بذلك فى الجامعات، وإنما صار يحدث فى المرحلة الأساسية من التعليم، رغم الحقيقة العلمية الثابتة أن تعلم الطفل لغة أجنبية قبل اكتمال نمو لغته الأم يؤثر سلبيًّا على لغته الأولى.
مخاطر الجمود فى تعليم اللغة:
ليست المشكلة الحقيقية التى تواجهها اللغة العربية اليوم هى عجز مفرداتها وتراكيبها عن الاستجابة لمتطلبات الحياة المتطورة؛ فلديها من الإمكانيات ما يؤهلها لأن تكون لغة الحاضر والمستقبل، ولكن المشكلة الحقيقية هى جمود التقعيد لها، وتنقيح قواعدها النحوية والبلاغية، لا تغييرها، أو عدم الالتزام بها وتجاهلها.
وما من شك فى أن القواعد التى أسسها القدماء تحتوى على جانب أساسى وجوانب فرعية كثيرة متغيرة، يتطلب تغيرها ضرورة التحرك فى اتجاهين: اتجاه الإغفال النسبى لعدد من القواعد الفرعية التى لم تعد مستخدمة حاليا، و”اتجاه اكتشاف المستجدات فى القواعد، وإبداء المزيد من المرونة، يحول دون وصف كل تطور بأنه خطأ وخروج على القواعد، وإدراج ما يستقر عليه الرأى من هذه القواعد المكتشفة فى مناهج تعليم اللغة”.
الفصل بين المستويات:
المشكلة الأساسية التى يقع فيها معلِّم اللغة العربية هى أنه يطرح على عقول صغيرة عددًا لا محدودًا من القواعد، مع مطالبة تلك العقول باستيعاب أكبر كم ممكن من هذه القواعد فتكون النتيجة ألا تستوعب شيئًا تمامًا، فماذا لو كان تعلم قواعد اللغة تدريجيًّا، وتصاعديًّا؟ بالطبع ستكون النتائج أكثر إيجابية. وهناك نوعان من مستويات التعلم: الأول هو المستويات الأفقية للمتعلمين، وهى على ثلاثة مستويات: عام وخاص ومتخصص. وتشترك المستويات الثلاثة فى حد معين من العلم بالقواعد يحتاجها كل مستوى، وتزداد الحاجة فى المستوى الخاص، وتتزايد أكثر فى المستوى المتخصص.
والنوع الثانى من المستويات هو المستويات الرأسية، وهى تُعنى بـ”طريقة تقديم المادة اللغوية التى تستخلص منها القواعد، ويتم على أساس منها تعليم اللغة وآدابها للراغبين فى ذلك من أبنائها أو من غير أبنائها”.
على أن اللغة العربية لم تتوقف بعد تلك الفترة عن التطور والاكتمال، فإنها قد اختلطت بلغات أخرى، وأفرزت نماذج كثيرة فكرية وأدبية وحضارية كنتيجة لذلك التطور والاختلاط. وعلى هذا نجد أن مستويات اللغة الرأسية يمكن تقسيمها إلى: عربية تراثية، وعربية وسيطة، وعربية معاصرة (إن صح ذلك التعبير).
الخاتمة: عود على بدء
لا يمكن بحال إنكار أن مثل تلك الدعاوَى قد أتت بعض ثمارها، وبسرعة، وليس أدل على ذلك أكثر من ذلك الانحسار الشديد للعربية حتى فى بلادها.
و ينبغى علينا على الأقل – إن لم نشارك مشاركة إيجابية فعلية – ألا نقف عاجزين مكتوفى الأيدى، فليس أقل من ألاَّ نشارك فى هدم ما بقى من جدران تؤوينا دون سواها. وفى هذا الإطار ينبغى ألاَّ تكون دعوتنا لإصلاح اللغة عشوائية، وإنما يجب أن تكون مبنية على أسس قوية وإعادة تقوية الشبكة الخارجية للغة بالتخطيط لتعاون ثقافى أكثر اتساعًا مع اللغات التى تكتب بحروف عربية، والمحافظة على عدم تقلُّص مثل تلك اللغات كما حدث مؤخرًا فى بعضها.
ويؤكد المؤلف فى النهاية أن “المحافظة على اللغة والتمسك بها لا يتعارضان أبدًا مع فتح باب الحوار والنقد على مصاريعه بشرط أن يكون قائمًا على أسس علمية، من شأنها أن تهب اللغة مزيدًا من التماسك وتلافى نقاط الضعف والاستجابة لمتطلبات الحياة، وبهذا كله نستطيع أن نجمع إلى عراقة التراث وحيوية التطور، والأمل فى المستقبل الواعد للغة والشخصية القومية معًا”.
ولا يمكن لعربى غيور على لغته العربية إلا أن يحاول أن يقدم لها شيئًا، فليس أقل من حرص المتخصصين على البدء بأنفسهم فى الاهتمام أكثر بتطبيق القواعد الأساسية بمرونتها، حتى يصبحوا نموذجًا يحتذى لغير المتخصصين، أو للأقل مستوى حتى يمكن النهوض باللغة وتراكيبها وقواعدها، ربما نستطيع أن نعود مرة أخرى إلى عصور الازدهار، تلك التى كانت فيها العربية لغة لدراسة الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء… إلى جانب القانون والفلسفة وعلوم الاجتماع. فهل نطمح؟!
بيانات الكتاب:
عنوان الكتاب: إنقاذ اللغة.. إنقاذ الهوية.
المؤلف: أحمد درويش
عدد صفحات الكتاب: 162صفحة (14×20).
دار النشر: نهضة مصر.
تاريخ النشر: يناير 2006.