جورج هيفارنو يحقق الشهرة بعد اكتشاف عذاباته


حسونة المصباحي

ثمّة كتّاب يرحلون ولا يحصلون على الشهرة التي يستحقونها عن جدارة الاّ بعد رحيلهم بسنوات طويلة. والفرنسيّ جورج هيفارنو المولود عام 1902 واحد من هؤلاء. وكان والده موظّفا بسيطا في مدينة «أنجولام»، مسقط رأسه. أما والدته فقد كانت خياطة، وبعد أن أكمل دراسته في دار المعلمين العليا، عمل مدرّسا في المعاهد الثانوية. وفي عام 1935، انتمى الى «جمعيّة المثقفين المناهضة للفاشيّة». وبعد زواجه بسنوات قليلة، اندلعت الحرب الكونيّة الثانية فالتحق بالجبهة ليقع في الأسر في ضواحي مدينة «ليل»، شمال فرنسا يوم 29 مايو 1940. ومع آلاف الجنود الآخرين سيق الى معسكر للأسرى في شمال ألمانيا على ساحل بحر «البلطيق». وهناك واجه مصاعب وأهوالاً لا تحصى ولا تعد.

وطيلة خمسة أعوام ظلّ مقطوعا عن العالم الخارجي، مقاوما الجوع والبرد بجسده النحيل الذي بات جلدا على عظم. وعن ذلك كتب يقول: «عقب مرور ثمانية عشر شهرا خلف الأسلاك الشائكة، أحسست أني أصبحت أعيش على هامش الحياة، وأنني لم أعد لشيء الاّ للقبر. وأظن أن الأسرى الآخرين كان لهم نفس إحساسي، لذا كنت أرى صورتي في وجوههم، ويرون صورتهم في وجهي».
ولتحمل الأوجاع التي كان يكابدها، كان جورج هيفارنو يلقي محاضرات عن رابليه، وعن فلوبير، وعن جيد، وعن زولا. بل انه أدار فرقة مسرحيّة قدمت بعض الأعمال للأسرى خفية عن عيون الجنود الألمان. وفي البعض من رسائله، اشتكى من رفاق الأسر. وفي عام 1945، دخل الجيش الروسي الى الأراضي الألمانية، فأخلى المعسكر من الأسرى الذين اقتيدوا عبر طرقات تغطيها الثلوج الى وجهة غير معلومة، قاطعين مسافات مديدة. عند انتهاء الحرب، عاد جورج هيفارنو الى فرنسا ليكتب جملة من الشهادات المؤثّرة عن سنوات الأسر السوداء. وقد فعل ذلك بـ«أفكار فقيرة، لكنها خشنة وثقيلة»، متجنبا الجمل الطويلة، والنظريات الجاهزة. وفي النهاية كانت الثمرة كتابا رائعا حمل عنوان: «الجلد والعظام» الصادر عام 1949. بعدها أصدر جورج هيفارنو كتابا آخر حمل عنوان: «عربة البقرات». وقد حظى الأول بإعجاب سارتر وتقديره. أما الثاني فقد حيّاه بليز ساندرارس معتبرا إياه «تحفة فنيّة». غير أن الكتابين لم ينالا الشهرة التي يستحقانها. فقد كانت وجودية سارتر، وخصوماته مع كامو طاغية على الحياة الثقافية الفرنسيّة. وكان القراء يحبذون الكتب التي لا تعكّر صفو حياته الجديدة، وتجنبهم ذكريات الحرب وأهوالها. وبسبب هذا الفشل الذي أصابه في الصميم، لم يرغب هيفارنو في إنهاء الكتاب الثالث الذي كان قد شرع في تأليفه. وعلى مدى السنوات الثلاثين التي تبقّت من حياته، ظلّ يحنّ إلى قراء قادرين على اكتشاف موهبته الفنية العالية. واليوم يعود اليه الفرنسيون ليجدوا في كتبه ما يكشف لهم عن جزء مروّع من تاريخهم، وليلحقوه بقائمة كبار كتابهم في القرن العشرين!
الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *