صحراء أمجد ناصر نصاً تخييلياً حراً


*أحمد زين الدين

يخترق أمجد ناصر في روايته الجديدة «خذ هذا الخاتم» (دار الآداب)، أصول النص السردي الكلاسيكي. نص يتحلّل من ارتباطات والتزامات فنية توجبها الرواية، أو تفرضها عادةً القوانين السردية. يتحاشى خيوط الحبكة بما هي ترسيمة معينة تتمثل في انتقاء الأحداث والأعمال المروية وتنظيمها، لتجعل من المادة السردية حكاية حدثية موحدة.
ومن دون أن يقع في أسر شكل تعبيري أحادي، يزاوج ناصر بين الشعر والسرد، من دون أن يلغي أحدهما الآخر. وسبق له أن وظّف السرد كمكوّن من مكونات القصيدة وبنيتها في «حياة كسرد متقطع». لذا، تغلب على النص في بعض النواحي، الطقوس الشعرية بما هي تشكيل حر، وصور لمّاحة منفلتة من جاذبية الواقع، وتؤلّف مادته الأثيرة التي تضيء المسار الحكائي المتمرد على أي تصنيف أو معيار. ثمّة انكسارات وأشتات من الحكايات والصور والأوصاف، التي تحمل النص على المراوحة بين الواقعي والمتخيّل. بين اليقيني والمحتمل. كما يتوسط الراوي لا بين القارئ والكاتب، بل يحتلّ مكان الراوي الشخصي (الأنا)، وكأنّ الأنا تعلن هنا، أنها لا تستحوذ على الحقيقة، ولا تتحكّم بخيوط السرد، إنما تضع زمام الحكاية بيد راوٍ غفل يخاطبها ويذكّرها. ويسمح لها هذا الاستبدال، بأن تتملّص من إطار السيرة الذاتية الوثيقة الصلة بالأنا، التي تنهض على تسليم ضمني بالتطابق بين الذات التي تروي في الحاضر قصة وجودها الشخصي، والذات المتحدَّث عنها في الماضي. وتتيح هذه الطريقة المجال أمام ذاكرة القاص، للتدفّق الحر الذي يبني عالماً حقيقياً بقدر ما هو عالم استيهامي. والنص التخييلي الحر أقدر على قول حقيقة الذات من النص المرجعي، مصداقاً لقول فرنسوا مورياك: «وحده التخييل لا يكذب، فهو يفتح باباً خفياً على حياة المرء تلج منه روحه المجهولة، في مأمن من كل رقابة».
كما في دواوينه الشعرية، يرجع أمجد ناصر إلى طفولة صحراوية، ويستعيد الحنين إلى المكان الأول المنفتح على آماد مكانية وزمنية أخرى. مراقباً تحوّل البادية إلى امتداد كسول «لمدن صنعها الاستيطان والنزوح ومعسكرات الجيش والمعامل»، من دون أن يعقد لواء النصر للحداثة على البادية، والتاريخ على الأسطورة. بل تعيش باديته مفارقة الحداثة والأصالة.
ثمار الحداثة
وبحسّه الواقعي، يرصد الكاتب العديد من مناخات حياته الشخصية وتجاربه الذاتية، ويمعن في ذكر تفاصيل الأمكنة والمواقع الأثرية، والقصور والقلاع المهجورة، ويعرّف بالمواد المصنوعة منها، وطرائقها الهندسية. وسرد المرويات حول نشأتها ودورها. والماضي هنا بقدر ما هو ماضي الطفولة، فإنه أيضاً، وبالتوازي، ماضي الأرض والحضارة. ماضي المدن الغارقة في رمال الصحراء، وماضي الشعوب التي تعيش اليوم صدى هذا السيل الكاسح من ثمار الحداثة، وهي تخترق المدائن والقرى والبوادي.
وتاريخ الراوي هو تاريخ الصحراء وتحوّلات قاطنيها من العشائر والقبائل، بوطأة قيام الدولة الحديثة التي قضت على ملاحم الغزو ودورات الثأر. «جاءت الدولة ببنادقها وسياراتها ومعلباتها ورواتبها الشهرية، لتنهي قوّة وتحلّ قوة أخرى. وأُبدلت المواثيق العشائرية بالقوانين والأنظمة الجديدة».
يصف أمجد ناصر الحياة البدوية التي تكاد تنقرض. يعيدنا إلى جمالية الجفاف، إذا جازت العبارة. جمالية اليبوسة والتقشف، والعيش بين الوجوه المحروقة والقاسية والرياح المغبرّة والنباتات الشوكية والأمنيات المبتورة. ويتمثّل ناصر روح الصحراء التي يعشقها، روحاً بريةً تقاوم التدجين الذي جاءت به الحضارة الحديثة. روحاً برية تشكّل معيناً لا ينضب لتجربته الكتابية بشعرها ونثرها. مناخات تذكّرنا بتحوّلات الصحراء في كتابات عبدالرحمن منيف، التي رسمت الفوارق العميقة بين العالم البدوي الأسطوري، والعالم التكنولوجي الوافد الذي أحدث انتقالاً متعدّد الوجوه بتعرّجاته وتداخله.
تبدأ رواية «خذ هذا الخاتم» بفص الخاتم الأزرق الكابي الذي وصل إلى الراوي، بعد أن اشتراه من بائعة جوّالة، وكان عندما يحكه بردن قميصه يسمع «رجع وعود لم تُنجز قط «، وتنتهي الرواية بخاتم آخر كان يحركه رجل عجوز على نحو دائري في إصبعه النحيلة، وكأننا إزاء خاتم سليمان الأسطوري الذي نلمس من خلاله ملامح عالم ومصائر متبدّلة على حافة الأزمنة والأمكنة.
التكوينات الصحراوية
ما فتئ المكان الطفولي الصحراوي الأول يترك بصماته على الراوي. وهو عبارة عن فضاء مفتوح على ضروب السحر الغامض كافة، الذي تغتذي به ذاكرته، وتحوّله إلى صور شعرية ومرجعيات حكائية متفرقة. طفولة بدوية يستعيدها مرة تلو أخرى، قبل أن تضيع في دورة الحياة وتتحوّل، وقد نضجت تجربة الكاتب إلى ما يشبه الحالة الصوفية. وهو المترحّل في أصقاع الأرض، المتنقّل من جفاف الصحراء وضحالتها إلى بلاد الثلج والبرودة. يرسم الكاتب بعض ملامح سيرته من دون أن يخضعها لكرونولوجيا محددة ورصد دقيق، بل ينثر بعضاً من ذكريات شبابه وصبواته وصوراً من أزمنة متخيّلة.
لا شخصيات. لا حبكة. لا سردية منتظمة. إنما أمشاج من الذاكرة المفعمة بطعم الحياة البدوية القائمة على الصبر، والحكمة العفوية، وتحمّل شــظف العيش والندرة. والراوي يفتّش عن الأوابد والمدن التاريخية في بلاده.
عن تراكم التواريخ والأديان واللغات وتداخلها طبقة فوق أخرى. يضعنا أمام بقايا لوحات يعمل الخيال على سدّ ثغراتها، أو لملمة أجزائها المدمّرة أو المسروقة. ويدور حول التماثيل الصغيرة والكبيرة والرؤوس المبتورة والعملات الذهبية واللفائف. ويسرد طريقة صناعتها، ويذكر أعمارها الافتراضية ونوع كتلتها وأحجامها وأشكالها. مستحضراً من خلالها، تاريخاً مكتوماً غير معروف. ويستغرق في خيالاته ورؤاه، ويقيم علاقةً جدليةً بين البقاء والزوال في إطار من الهواجس التي تطارده، وهي الحدود بين الصحاري والمدن الحديثة. بين الحضارة الموروثة القديمة والحضارة الحديثة الماثلة أمامنا.
يسترسل في اكتشاف التكوينات الصحراوية من حيوانات وكائنات، ويعيد إحياء تاريخ الأمكنة ومسالكها وناسها وطبيعتها وعناصرها المبعثرة، ويحصي الأشياء الموجودة وكأنها النقاط الأساسية، أو الخطوط الأولية لبناء هذا الفضاء الصحراوي في ذهن القارئ. وهو ينحو إلى تفتيح وتقليب معاني الأسماء واشتقاقاتها ودلالاتها. وإلى ما يمكن أن نسميه شاعرية التكوينات البدوية وأشيائها وشذراتها وموجوداتها. مثل الرمل الذي يقاوم الجمع والتماسك والاستقرار. الرمل الذي لا اسم ولا تاريخ له، والذي يصنع التيه والضياع. والجبل الذي لا يعطي فكرة مسبقة عما خلفه.
في الرواية، يحضر الآخر الأجنبي كهاجس على هيئة رحّالة أو مستكشف أو مستعرب، وأحياناً، على هيئة جاسوس أو مغامر أو كاتب تقارير. ولا يجد الباحث الغربي في تاريخ هذه الأصقاع سوى الأطلال والرواسم، بعد أن كانت حواضر زاهية تزدحم في كلّ مظاهر الحياة الخفّاقة. ولم يعد هناك تحت طقطقة الجفاف شيء يلمع، سوى العطش والسراب.
بيد أن الراوي لا ينبذ هذا الآخر، إنما يتواصل معه على رغم أخطائه وهفواته ومطامعه وسوء نيّته. يصادقه ولا يرتاب منه، ولا تحمل كلمة مستشرق لديه رنين الشتيمة، كما هي حال المتوجّسين من العرب والمسلمين. إذ يكفي أن نقرّ له بشجاعته وفضوله المعرفي.
_____
*الحياة

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *