أن تكتب عن الطفولة يعني أن يكون قلبك قطعة حلوى




فائقة قنفالي*

( ثقافات )

ماذا يعنى أن تكون في ورطة؟
أن تكون عاشقا أم أن تكون شاعرا أم أن تكون طفلا؟ 
الورطة الحقيقية أن تجد كل هذا في الصفحة الأولى لمجموعة شعرية مفتاحها التّأجيل. تأجيل المياه؟ أيّ مياه يمكن أن يؤجلها شاعر؟
شاعر يصرخ بهدوء وسط شلال من الكلمات وأعاصير من الحنين. “ليست الجريمة أن نولد بل الجريمة أن نكبر”. هذا يعني أنّ الشّاعر يراوغ في عنوانه فيحيلنا على نصّ لا ندري أيحاكي الطبيعة أم يحاكى الوجود؟ كأنّه يعود بنا إلى سؤال الإنسان الأوّل : ما أصل الكون؟
مرواغة تجذبنا الى الدّاخل وتغلق الباب خلفنا كساقية مكسيكيّة في حانة إسبانيّة تعرف أنّنا بعد غلق الباب سنصير إمّا ملائكة أو كائنات أشدّ خفّة من الملائكة. إنّنا بعد عتبة حليب أمّهاتنا الذي سنكتب به شعرا أو نثرا سنصير أطفالا.
هكذا يبدأ الشّاعر ديوانه الأوّل الذي قسّمه الى قسمين ما قبل البراءة وما بعدها لا ليكون جدولا يقودنا إلى نهر أو نهرا الى بركة بل ليكون معماريّا على طريقة كانط في هندسة العقل لكنّ الشاعر يصير معماريّا ليس للعقل بل للحدس.
إنّه طفل يشكّل العالم مربّعا لا دائرة. أن تكون طفلا مع أنور يعني أن تهدم أولى القواعد التي أسّسها الكبار. الوجود ليس دائريّا فعذرا أيها الإغريق. ( طبعا الوجود ليس إلاّ البيت بالنسبة إلى الطّفل)
بنى مربّعا عاليا وكبيرا،
هذه حيطانٌ.
قسّمَ المربّعَ الكبيرَ إلى مربّعاتٍ صغيرةٍ،
هذه غرفٌ.
فتحَ في الحيطانِ ممرّاتٍ كبيرةً،
هذه أبوابٌ.
فتحَ في الجدرانِ ثقوبا كبيرةً،
هذه نوافذُ.
مَلَأَ المربّعاتِ بأشياءَ جميلةٍ،
هذا أثاثٌ.
له الآن ما يسمّيه بَيْتًا
هل يكون المربّع مناسبا كشكل وجود؟ يبدو الأمر مرهقا بالنّسبة إلى طفل يريد أجنحة. لذلك لا بّد من هدمه. هو لا يهدم بمكر الوعي فقط يترك الطّفل يلعب. يكمل البيت بسوره وحديقته ثم يرميه في لجّة الطبيعة. موجة صغيرة تحطّم عالم الطفل. الطّفل الذي سيبكى ويركض بعيدا في نصّ جديد-عنوانه طفل 2-نحو البحر.
لمْ يعدْ للطّفلِ بيتٌ.
لكنّه مازال يحبّ الموجةَ التي تُبلِّلُ الرّملَ.
الطّفل الثّاني يتعلم لغته من الطّبيعة إذن.
إنّها لعنة الطفل ستصيبنا قبل البراءة وبعدها فنجد أنفسنا في متاهة مع الطّفل الشاعر. أنور اليزيدي الذي كرّر لفظة الطّفل طيلة 110 صفحة أكثر من سبع عشرة مرّة بشكل صريح طفلا/ أو طفلة وأكثر من عشر مرات تنويها عبر معجم الطّفولة، فيمسك بنا كقراء من تلابيبنا كي نتبع حدس الطّفل.
في استعادة جذّابة وضمنية للحدس كمبدأ ومنهج للمعرفة يطلّ علينا الفيلسوف الفرنسي برغسون من طيّات نصوص أنور اليزيدي ليطرح أشدّ مشاكل النّفس الانسانية حساسية : خوفها من أن تكبر فتفقد براءتها. في الخيط النّاظم بين ما قبل البراءة وما بعدها نجد صراع الطفل مع كلّ شيء كي يبقى طفلا.
ولعلّ المفهوم الأساسيّ عند برغسون الذي يذيبه شاعرنا بلغته الخاصّة مع مفهوم الحدس هو «الدّيمومة الخالصة» أي اللامادّيّة وهي أصل وأساس جميع الأشياء من المادة والزّمان والمكان ومن العناصر الأربعة من تراب وماء وهواء ونار ومن عناصرَ في جوهر المعرفة والحدس معاً في إدراك الصّوفي المعولم اليوم.
والحدس كما يعرفه برغسون هو المدخل إلى الميتافيزيقا والنّفاذ إلى باطن الأشياء وذلك التّعاطف العقلي الذي يمتزج فيه العقل بالغريزة. إذن ونحن نستعيد هذه المفاهيم البرغوسنية فهذا يعني أننا أخذنا شمعة أو فانوسا أو شمسا من معجم أنور اليزيدي كي نعبر إلى عالم الطفل الذي يسحبنا إليه صاحبه. الشاعر / الطّفل الذي يتخلّى عنّا وسط المتاهة. 
المتاهة ليست إلاّ قلب الشاعر. الشّاعر الذي يتحكم في اللّعبة. الطّفل الذي يغضب منا حين نقترب من فكّ أسراره فيأمرنا بالدّخول فقط كي يرى الله.” أيّها الناس ادخلوا القلب جميعا حتى أرى الله”( ص 100). في منتصف القلب يطفئ القنديل الذي سلّمنا إيّاه عند الباب 
” سأطفئ هذا القنديل كي لا أصل” ( ص 105). 
فكيف سنستدلّ إذن على مخارج المتاهة الآن؟
من ينجو حين يدخل دهاليز قلب الشّاعر؟ دهاليز قلبه التّي حفرتها الأشباح.
“كُلَّمَا دَخَلَ القَلْبَ أَحَدُهُمْ حَمَلْتُ فَانُوسًا وَمَشَيْتُ أَمَامَهُ. أُضِيءُ لَهُ دَهَالِيزَ حَفَرَتْهَا أَشْبَاحٌ لا أَعْرِفُهَا، كُلَّمَا سِرْتُ إِلَيْهَا صَارَتْ دَمْعًا، وكُهُوفًا أَوَتْ إليها ضَحِكَاتٌ مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، تِلْكَ الّتي خِفْتُ أَنْ أُطْلِقَهَا فَيَتَّهِمَنِي الوَطَنِيُّونَ بِالخِيَانَةِ والمُؤْمِنُونَ بِالكُفْرِ ويَرْشُقَنِي الأَطْفَالُ بِالحِجَارَةِ.”(ص 97)
فلْنتّبع خطو الأشباح علّنا نعثر على مخارج متاهة الشّاعر ودهاليزها.
1- اللغة:
في لغة أنور اليزيدي لا نرصدُ ثوابت غير أنّنا نحسّ المتحرّكات. فاللّغة لا تخضع لمنطق الزّمن بما هو نهر متدفّق منساب. كأنّه نهر هرقليطس الذي “لا يمكننا أن نسبح فيه مرّتين”. هرقليطس الذي يسكن روح الشّاعر ولغته. كيف يعيد تحديد الوجود لغويّا تحديدا مشابها أو مناقضا لهرقلطيس؟ فلغته متحرّكة. تكاد تكون الصّيرورة ذاتها.
لغة يشدّها الحدس من أذنيها أو ربّما هي من تمسكه من قلبه. فتكون اللّغة سبيله للإقبال على العالم إقبالا من شأنه أن يدرك ما يعتمل داخلها من حركة. اللّغة في مياه مؤجّلة تتأسّس على بداهة العلاقة التي تربط عالم الأفكار بعالم الأسماء من جهة وعالم الأسماء بعالم الأشياء من جهة أخرى. إنّ الشّاعر يستعيد المقام ذاته الذي استعاده برغسون ” مبدع الكلمات يتصوّر أنه لم يفعل شيئا سوى تسمية الأشياء” (الفكر والحركة) هذا بالضبط ما يجعل الشّاعر طفلا.
اللّغة التي تنزع إلى الثّبات في حين أنّ الأشياء والذّوات تتقوّم بالحركة، فـ”نحن لا نرى الأشياء ذاتها، إنّما نكتفى في معظم الأحيان بقراءة بطاقة ملصقة عليها.”
لذلك نجد الشّاعر حين يصل إلى هذه النّقطة وحين نجد نحن القرّاءَ طريقا سهلة للخروج من متاهته نصطدم بمراوغة جديدة وهي استبدال الكلمات التي لا تقول الحقيقة بشكل آخر للّغة وهو الرّسم.
ففي نصّ حفرة في الصّفحة 16 يحوّل الشّاعر كل حركة الوجود إلى فعل الرّسم. ويحوّل هذا الرّسم إلى حركة وجود فعليّة فهذا الذي يرسم على ورقة حفرة وماء وفأسا ومعولا وشمسا ليس إلاّ صانع الوجود. وجودا حقيقيا لا مجازيّا حيث أنّ” القرويّين يسيرون بدلائهم نحو البئر”. أمّا في نص رسّام في الصفحة العشرين، فإنّ الشّاعر يقودنا من حركة اليد إلى حركة العين..و من الأشكال إلى الألوان.ليغيّر تشكيل الوجود بصريّا فنخرج من متاهة الكلمات إلى بريق الألوان وتوهّج الحياة. إنّه لا يرسم أو يلوّن بل يسمّي.
“استعار من السّماءِ نجومًا لوّنها بالأخضرِ الحزينِ.
الرّيحُ التي لوّنها بالأبيضِ الكاذبِ،
في غفلةٍ مِنْ فُرْشَاتِهِ، صارتْ مِكْنَسَةً”.
أيا كان التباس اللّغة علينا في المياه المؤجّلة فإنّها المخرج الذي ما إن تصل إليه، حتى تجد نفسك في متاهة جديدة. اللّغة لا تدعنا بسلام والتي تبدو للوهلة الأولى عائقا تعبيريا أمام الولوج الى عمق الوجود يتمسّك الشاعر بنحتها كائنا حيّا ينبض بالحركة ويشّكل جوهرها. إنّها سيّدة الحدس، مذهلة في التجلّي سحريّة في التخفّي بليغة في الصمت. 
هذه لغة أنور اليزيدي في متاهة المياه المؤجلة.
2- الحب
” إننا في الحب نثق في الاختلاف عوضاً عن الشك فيه ” آلان باديو 
الحب في المياه المؤجلة يأتينا من جهة النّار في الوقت الذي نتوهّم أننا قادمون إليه من جهة الماء. ككلّ العشاق لا يفوت شاعرا عليلاً بالحبّ والحنين والوجد، أن يكتب عن الحبّ. ليس الحبّ الذي عهدنا العشاقَ يسكبونه في تغزّلهم بامرأة وإن كان الشّاعر يستحضر المرأة/ الحبيبة أو العشيقة المشتهاة أو الرّفيقة في ثلاثة نصوص متتالية : احتيال ( ص 62) باب البحر (ص65) لهذا السّبب يغضب البحر ( 67).
يحبّ المرأة. إنّها نصف وجوده لكنّه لا يمتلأ بأيّ امرأة حدّ الحبّ حتى لو حركت السّكر في فنجان شهوته فقط يمتلأ بتلك التي تهتمّ بالتّفاصيل، ولها القدرة أنْ تسمّي معه الأشياء. 
الأسماء التي تكون قصيدته . وهي مسكينة فقط لأنه مازال يحبها : “اليوم لم أهاتف حبيبتي المسكينة مازلت أحبها. ( ص 30) طفلة لا تكبر ولا تخدش موج البحر ( نص 67).
إنها حبيبته التي يعلن أنها” غرستْ في كفّي غمامة تأويلا لملامح وجهي”( ص 62)
هذا يعنى أنّ الحبّ لا يتوقّف عند حبيبة بل إنّه ينتشر في كلّ مكان. يحنو الشاعر على كلّ شيء في الطّبيعة وفي ذاكرته فتفيض المحبّة حنينا إلى طفولته : رائحة العنبر، تمتمات العرافة، عودة الأب من العمل، السّباحة مع بنت الجيران المستعارة، حقل البرتقال حيث طفولة الشّاعر وبئر سيدي عبد القادر حيث كان يذهب رفقة عائلته كل خميس. إنّ كلّ هذا الحنين ليس إلاّ أنفاسه التي يخبأها في قلبه ويأمرها: “راقبي العالم من بعيد ودعيني أختنق”.(ص 102) إنّ هذا الحبّ يفضحه قصيد الجريمة ( ص 102) لنجد أن الجريمة ليست أن نكبر فقط كما أعلن قبل البداية بل أن نحبّ أيضا ونشعر بهذا الحنين.
إنّ الحبّ هو روح الشاعر التي يبثّها في كلّ قصائده وفي كلّ تفاصيل ذكرياته ومعجمه حتّى أنّنا كلّما ظننّا أنّنا أمسكنا بأسرار هذه المتاهة حتى نضيع مرّة أخرى. ضياع لذيذ وخفيف الوقع بسبب ذكاء الشّاعر الذي يتعمّد أن يكون بوذيّا فينثر ذرّات روحه في نهر الغانج المقدس. إنّ حبّ الشّاعر للطّبيعة وللمرأة وللوجود ليس إلاّ طريقا إلى الحبّ حيث يتجلّى الإله. الله كجوهر للوجود والمحبّة كجوهر الله هي ما جعلت حدس الشاعر البرغسوني يصل بنا الى الله. 
الشّاعر هو طفل كلّما ضاقت به الحياة وغرست الخيانة و الخيبات سكاكينها في روحه رفع بصره إلى الله وقال: 
إلهي… لا تَبُحْ لَهُمْ بِسِرِّي. لا تَقُلْ لهذا المَكَانِ أنِّي لَسْتُ فيه. لا تُخْبِرْ النَّاظِرَ إليَّ بِأَنَّهُ لا يَرَانِي أَنَا. سَيَعْلَمُ الزَّمَنُ، هذا الذي يَجْرِي بِقَدَمَيْ طِفْلٍ وَظَهْرِ عَجُوزٍ، أَنَّهُ لَنْ يَطَالَ إلاّ ظِلٍّي. إلهي… لا تَلُمْنِي إِنْ كَشَفْتُ سِرَّنَا فهذا الكَوْنُ أَصْغَرُ مِنْ قَلْبِي والجُرْحُ أَقْدَمُ مِنَ الوَقْتِ.( عابر سبيل ص 103)
إلهي،
حَسْبِي أَنَّكَ في القَلْبِ
وَحَلِيبُ أُمِّي بَيْنَ أَسْنَانِي. ( 110).
إنّه الله روح الطفل والبراءة لعبته التى لا يكسرها بل يحميها فلا يذكرها علنا في ديوانه لأنّها الحدس الحقيقي الذي يكشف لنا مكان الشّاعر في العالم. نصفه في ما قبل البراءة حيث الغريزة هي سيّدة الزمان ومالكة للديمومة ونصفه الآخر في ما بعد البراءة حيث العقل. العقل الذي يجعل فكرة الخلود هاجسا لأنه يفكّر بالنهاية. لأنّه يعتقد أن النّهاية هي الموت. إنه العقل بكامل جبروته يفكّر بالموت. 
هذا التّفكير الذي يجعلنا نصحو من فكرة الوصول لمخرج مع أنور اليزيدي فنجد أنفسنا في متاهة الموت. 
فكيف يقول شاعر لا يريد أن يكبر الموت؟
3- الموت:
ذكر الموت أربع مرات في ما قلب البراءة حيث اكتشف الشّاعر/الطّفل هذا عندما حدس أن عصفوره ” سيموت ولن يعرف أنّ له جناحينِ” ومن أجل هذا قرّر أن يغيّر ” كل عاداته. ” اليوم غيّرتُ كلّ عاداتي/ من أجلك أيّها الموت”(ص 32)
ثمّ نجد في الصّفحة الموالية نصّا جديدا عنوانه الموت يهزم مرتين. يااااااه… كيف يمكن لشاعر أن يقف أمام الموت ويغازله ويطلب صداقته : 
لا داعي من الاختفاءِ./دعني أشمُّكَ، ربّما أهديكَ روحي وشيئًا آخرَ./وردةً إن شِئْتَ أو تفّاحةً.
ربّما نصبحُ صديقيْنِ، نتبادلُ الهمومَ والشّتائمَ./ نشربُ قهوتَنا المسائيّةَ معًا. (مواعيدي الصباحيّةُ تؤجَّلُ دائمًا)
ويبدو أن الموت قد أغرته الفكرة فصار صديقا ليتحدث عنه الشّاعر بحميمية أكبر. في ما بعد البراءة تقريبا يذكره ثماني مرات تصريحا وضعفها تلميحا ( القبر/ النّعش/ الدّفن/ الدّم/ القتل). هل صار الشّاعر هنا يفكّر بمنطق المحاربين: عليك دوما أن تراقب عدوّك – عدوّ الحياة المتعارف عليه- فيكون قريبا من عدوّه حدّ الصّداقة أم أنّه فقط مجرد طفل لم يتعوّد الخوف؟
من الخائف؟ الموت الذي يعرف أنّه سيهزم في حضرة شاعر أم الطّفل الذي يعرف بحدسه أنّ صديقه هذا سيأخذه بعيدا مثلما أخذ شجرة اللّوز وعصفوره.
في أَقْصَى القَلْبِ،
جِذْعُ شَجَرَةٍ مُزْهِرَةٍ تَقْطَعُهُ الفَأْسُ.
الآنَ فَقَطْ، مَاتَتْ شَجَرَةُ اللَّوْزِ.
هو لا يُصَدِّقُ مَوْتَهَا حتّى يَجِيءَ الرَّبِيعُ.( ص 87 نص صابر العبسيّ يدفن شجرة اللّوز).
في المياه المؤجّلة يصبح الموت ملتبسا وحقيقيّا جدّا مثل بكاء الأطفال. الشّاعر الذي يعلن لنا في بداية نصّه آخر قفزة عمياء أنه لن “يحمل معه شيئا إلى القبر” و سيتّجه إلى القبر بكلّ أحزانه غير الوراثيّة، بجارته التي تقتحم بيته شهوة في كلماته التي يسمّيها مستنقعا وتسمّيها مخيلة، بجراحه وبثيابه الدّاخليّة، وبتجاعيده فقط ليجد استعارة تليق بحياته. وعندما نوشك أن ننتهىَ معه داخل القبر الذي اختاره يفاجئنا بقوله ” أقف على حافة القبر وكأنّي أعودُ إلى البيت بعّد يوم كامل من اللّعبٍ”(ص 96) . إنّها الحيرة مرّة أخرى ونحن نقف مع طفل أمام الموت. كيف حوّل لنا الشّاعر الموت من هاجس إنسانيّ مخيف إلى مومس فقدت رحمها من فرط إجهاض أبناء أولئك العشّاق الذين مرّوا تباعا فوق جسدها ولم ينتبهوا للشّامة أسفل سرّتها؟
لقد فتح ثقوبا كثيرة كي يمر منها العالم بسلام إلى روحه وكي تخرج روحه وتتماهى مع الطّبيعة والأشياء. في هذه المتاهة أيضا وحيث نتّوهم أنّنا أمسكنا كلمات الشّاعر وطفولته كي ننظم إشاراتنا المروريّة وأدواتنا التفكيكيّة وعواطفنا المسروقة تنظيما يليق بنا كقرّاء أجبرنا باختيارنا أن نسيل مع مياه أنور اليزيدي، بمكر طفل لا يتقن إلاّ الحبّ، هاجسه اللعب بأقانيم الكبار يعيدنا سالمين من متاهة الموت. فنكاد أن نبتسم غير أنّه سبق وسيّج لنا عالمه بفخاخ من كلمات لنقع في متاهة جديدة. 
– الذاكرة:
إذا كان جوهر العالم لا يختلف عن جوهر الشِّعر، في كمونهِ المتحرِّك بحذر في تعدد المعاني الممكنة، فلماذا نغتاله بالمعنى المتوحِّد؟
انطلاقا من هذا السّؤال نبدأ مع أنور اليزيدي رحلة البحث عن مخرج في متاهة الذاكرة. فمن منّا يعيش بلا ذاكرة؟ و ما شكل ذاكرة الشّاعر؟ إنّها الكلمات دون شك.
كلمات تقوم على إعادة تشكيل الوجود في المياه المؤجّلة على فكرة تقابل المتناقضات: الكلام/ الكتابة، الحياة/ الموت، الأب/الإبن، السيِّد/ الخادم، الأول/ الثاني، الروح/ الجسد، الداخل/ الخارج، الخير/ الشر، الجدّ/ اللعب، الليل/ النهار، الشمس/ القمر، إلخ، قوانين تسود كذلك وبحسب التّشكّلات ذاتها في الميثولوجيّات المصريّة والبابليّة والآشوريّة وميثولوجيات أخرى ولا ريب أهمّها أسطورة الذاكرة.
إنّنا إزاء نص يربكنا بتأكيده أن الشّاعر طفل يلعب بالمتناقضات ليبنيَ ذاكرة من كلمات. ذاكرة تؤمن بالكتابة لا بالمشافهة. فيقول في بداية قصيدة رسالة متخلدة بالذّهن: 
اصْمُتْ كَيْ لا تُصْبِحَ الفِكْرَةُ كِذْبَةً.
الآنَ، وقَدْ تَكَلَّمْتَ، فَقَدْ صَدَّقْتَهَا.
سُرْعَانَ مَا سَتَصْمُتُ فَتُؤْمِنُ بِهَا.
تَتَكَلَّمُ ثَانِيَةً، تَتَكَلَّمُ…
كَلِمَةٌ حِذْوَ الكَلِمَةِ،
كَلِمَةٌ فَوْقَ الكَلِمَةِ،
صَارَ لِفِكْرَتِكَ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ.
لَوْ أَنَّكَ صَمَتَّ قَلِيلاً لَكَانَ لِغُرْفَتِكَ شُرْفَةٌ.
لَوْ أَنَّكَ صَمَتَّ طَوِيلاً لَكَانَ لِغُرْفَتِكَ بَابٌ.
(مِنْ أَيْنَ آتِيكَ بِحَدِيقَةٍ وأَنْتَ بِلاَ جُذُورٍ؟).
إنّه الصّمت من يحوّل الحياة الى حقيقة. فالكلام بلا جدوى ثرثرة (والثَّرْثَرَةُ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ: كَلاَمٌ لا يَجْعَلُ الفِكْرَةَ كِذْبَةً، كَلاَمٌ لا يَجْعَلُ الكِذْبَةَ كِذْبَةً أُخْرَى، والثَّرْثَرَةُ صَمْتٌ كَاذِبٌ)( ص 90)
الكلام عند شاعرنا إذن ليس إلاّ ثرثرة يفقد اللّغة جدواها وبالتّالى تصبح الأفكار غير أصيلة. إذن يجب أن نعود للكتابة. كأنّنا إزاء استعادة لدرس دريدا حول أهمّيّة الكتابة مقابل تراجع الكلام.
غير أنّ الشّاعر يتمرّد على كلّ المدارس الشعريّة والفلسفيّة ليبنيَ بيتا رمليّا بمفرده. لا بيت للشّاعر سوى قلبه. وفي قلبه يمزج القول بالكتابة فالحدثان لا ينفصلان ولا يسكنان إلاّ قلبه ليكونا ذاكرته الفرديّة والجمعيّة فهو القائل: “كُلُّ دَاخِلٍ لِلْقَلْبِ أُطْلِعُهُ عَلَى جُحُورٍ تَسْكُنُهَا أَرَانِبُ خَجُولَةٌ، تِلْكَ كَلِمَاتِي الّتي أَجَّلْتُهَا كُلَّمَا نَظَرْتُ في عَيْنَيْ حَبِيبَتِي. أَتَمَدَّدُ فَوْقَ كَلِمَاتٍ تَكَسَّرَتْ حِينَ قُلْتُهَا لِيَعْبُرُوا دُونَ أَنْ تُجْرَحَ أَقْدَامُهُمْ.”( ص 97). أنور اليزيدي الذي يعتقد طيلة مجموعته أنّ ذاكرة الشّاعر الحقيقية هي كلماته المكتوبة على ورق مقابل صمته إزاء العالم. فهو مثل كرة ثلجيّة في الحياة يتدحرج من أعلى الجبل. يبدأ نطفة تكبر بما يلتصق بها من عشب وشوك وذكريات وآلام وفرح و صدف وأصدقاء وألعاب ليصل إلى السّفح. عند السّفح يبدأ الكتابة فتصير كلماته نارا تذيب كرة الثّلج. ليتخلّي الشّاعر عن كلّ شيء ويدخل إلى ورقته يرسم و يكتب. لا يكتب بحليب أمّه فقط بل بذاكرة قلبه ووجعه. 
” في طريقه كي لا يكونَ، تخلّى عن عَيْنَيْهِ، وأَنْفِهِ ويَدَيْهِ، ولِسَانِهِ وقَدَمَيْهِ، ومِنْ بعدُ تخلّى عن أُذُنَيْهِ. كان يمحو أثرَ خُطُوَاتِه. لا حاجةَ له سوى بقلبٍ يَعْصِرُه مِثْلَ اسفنجةٍ ويكتبُ… 
والآن هو يكتبُ عنهم وهم أحياءٌ بلا رؤوسٍ.
إنّنا نخرج من متاهة لندخل في متاهة أخرى. متاهة المياه التي تأخذنا من جدول إلى نهر إلى شلاّل إلى بركة إلى البحر. نصّ مليء بالمتناقضات يبحث في كلّ شيء ويمسك بكلّ شيء يعطينا بقدر ما يريد بحكمة…لا إفراط ولا تفريط. إننّا نتبع المياه ورغم ذلك نبقى عطشى. إزاء نصّ يأخذ من الفلسفة والأسطورة واليوميّ والذّاكرة الجمعيّة والتّجربة الشّخصيّة ثم يحوّلها إلى لوحات أو قصائد ليست إلاّ مصائد. يعلّمنا أنور اليزيدي ببراءة الأطفال كيف نكون صيّادين وفرائس في ذات اللّحظة. كيف نراود الكلام بالصّمت ونغازل الأمل باليأس وننسج فكرة الحياة انطلاقا من مقاربة الموت والاطمئنان إليه لا الخوف والهوس منه. 
في مياه مؤجّلة نتعلّم أنّ ” الحبّ، يجب أن يُبتكَر من جديد”.على حدّ عبارة رامبو وأنّ الموت صديق وأنّ اللّغة ليست كلماتٍ بل ألوانا وإشاراتٍ وأن نصغي للغة الطّبيعة وموسيقى الوجود بحذر وانتباه فمن يدري ماذا قد تقول لنا زهرة بريّة أو موجة صيفيّة؟
يذكّرنا بدرس دريدا حول أهمّيّة الكتابة واعتبارها ذاكرة حيّة لا تموت. حتى الصّمت هنا يصير لغة أخرى تلفظ الكثير من الوجع والتّأمّل حتّى أنّه قد حوّل الشّاعر إلى جرس في معبد مهجور. ويا لأهمية الجرس في معبد حتّى لو كان مهجورا. إنّه يضع ملحا على جرح من يتكلمون ويمسح دموعا تشبه النّدى من عيون من لا يملكون إلاّ الصمت.
نحن بحاجة إلى اللّعب كي نفهم طفولتنا، بحاجة إلى البراءة كخيط رفيع لنمسك بما قبلها وما بعدها. بحاجة إلى المياه تغرقنا في دوّامة من كلمات وذكريات. 
ما أحوجنا إلى مياه مؤجلة تذكّرنا بتلك الموجة التي محت أوّل بيت رمليّ نبنيه على الشاطئ. تلك الموجة ليست إلاّ الحياة. وذاك البيت ليس إلاّ دهشتنا الأولى.
ما أجمل الوقوف في منطقة وسطى بين عقل يبحث عن منافذ العبقريّة وبين غريزة إنسانيّة تنفذ لروح الأشياء. إنّه الحدس دليل أنور اليزيدي كي لا يحميَ المعنى من الالتباس ويخلق معجما متنوعَ الرّوافد فيكون نقطة تميّزه. ننفذ معه لعمق الأشياء والأحاسيس ونرتدّ الى القلب. القلب منارة الشّاعر التي ترشد الأطفال إلى قطع الحلوى.
هكذا هو نصّ المياه المؤجّلة: أن تكتب عن الطفولة يعني أن يكون قلبك قطعة حلوى تهبها لبنت يتيمة تلوّن البحر بالأخضر.
ملاحظة ضرورية جدا: مياه مؤجلة هو الكتاب الحاصل على جائزة بيت الشّعر لأفضل مخطوط شعريّ سنة 2014 عن منشورات بيت الشّعر التّونسيّ. المخطوط الأوّل للشّاعر التّونسي أنور اليزيدي المولود في 15 أفريل 1984 بنابل. للشّاعر قيد النشر مجموعتان شعريّتان : عندما كنتُ حيّا كتبت عن الموت والآن أكتب عنكَ و الناظر من ثقب.
* كاتبة من تونس

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *