سعة السماحة


محمد أمين أبو العواتك *
( ثقافات )

الموروث الثقافي الاجتماعي السوداني في نسخته الشعبيه العامة او حتى في نسخه النوعية الأخرى تشكل بمرجعيات تواضع على احترامها الكل طواعية دون نظام سياسي او سلطة، فهذه المرجعيات فرضت احترامها عبر قيم وتجارب زرعها الأتقياء الأوائل بفطرة الأخلاق في السلوك والمعاملات التي بنيت بالحكمة والموعظة الحسنة و(السماحة) لا بأي شيئ آخر.
الأخلاق كانت على الدوام حجر الزاوية في كل شيئ لذا اشتهر أهل السودان في مختلف الانحاء فيه بشكل جلي، وشكلوا بهذه المرجعية مزاجاً عاما تميز عن ما سواه من اهل القبلة، هذه المرجعية الاخلاقية هي المانع والصمام الأوحد العاصم لنا اليوم من الانزلاق (الكامل) للفوضى التي تشهدها العديد من البلدان من حولنا وحتي بعض الانحاء (عندنا) التي فيها اشكالات لا يزال الموروث الشعبي يعمل (بما تبقي) من ذخيرته والياته لاطفاء التجاوزات التي تتم (للسماحه) السودانيه المعهودة.
ولا يزال الوصف الذي نطلقه على بعضنا حتى اليوم لوصف تعامل احدهم بانه (زول سمح) وكذلك حال وصف جميل الشكل ايضا، وكذلك الاجابة بنعم عندنا (سمح) وهي الموافقه علي ما يراد بأدب وكرم…واذا استرجع الواحد منا اليوم…(ونسة الحوش والسهلة) سيسترجع صدى كلمات (سمح يما) و (سمح النقوم نمشي) فنفوسنا مجبولة على السماحه.. ومبذولة بالسماحه..بلا تكلف او تصنع وهي اشياء تؤكد اصالة اهل السودان فالمعنى (لغة) صحيح وهي السلاسة والسهولة والتساهل والكرم (رحم الله رجلا سمحا…) وهو جمال الباطن ايضا لذا يقال (سماحة) الشيخ وهكذا..
السؤال هو ..هل نفعل ما يكفي للمحافظه علي هذه (السماحه) التي لا تقدر بثمن؟
بسماحتنا المعهودة استقبلنا ونستقبل مختلف الهجرات الحديثة ونحسن اكرام ووفادة المهاجرين سواء كانت هذه الهجرات بسبب الرباط التاريخي القديم او بفعل الظروف المناخيه ونقص الغذاء من جوارنا الافريقي او في رحلة الحج المشهوره لشعوب غرب افريقيا والتي انصهرت قوافلها علي مر الزمن في مجتمعنا بتناغم تام مع فطرته السليمة في السلوك والمعاملة والسماحة ولم تشذ عن قواعد الاجداد المؤسسين فلم تبشر بغير نهج الاخلاق فاصبحوا امتدادا وتنوعا جميلا معتزين بوطنهم الجديد مستمسكين بسماحته واخلاقه.
مع اضطراب الاوضاع في البلدان العربيه والاسلاميه واندلاع الحروب فيها اصبحنا نشهد مؤخرا كثير من الهجرات الي بلادنا من هذه البلدان المنكوبة ، بسبب مجافاة تلك المجتمعات لنهج (السماحه) والاخلاق المعروف عندنا والذي هو علامتنا المسجله و(فشلهم) في بلدانهم الاصليه في المحافظه علي نسيجهم الاجتماعي بسبب الدعوة بغير منهج الحكمة والموعظة الحسنة واذكاء نار الخلافات المذهبية والاختلافات وبالتالي الدخول في دوامة العنف ومن ثم كارثة اختفاء النظام وحاكمية الفوضي.
بالطبع هم محل الترحاب والعون فنحن اهل السودان اهل النجدة والمروءة واكرام الضيف و(لا نؤمن) باختلاف العرق او اللون او الايمان وتذوقه بمختلف المشارب واراضينا علي الدوام كانت دار هجرة واختلاط… لكننا (نؤمن) تمام الايمان باننا دار( سماحه) في الاخلاق والتعامل وخطابنا معتدل وساهل ولا يقبل بغير نهج (السماحه) واتعجب غاية العجب لسهولة استباحة بعض( منابرنا) بخطاب لاعلاقة له بنهجنا او( سماحتنا) موغل في التحريض والخطورة من مستجير بامان هذه البلاد!!
تزعجتني الجرأة على المنابر حيث انه في المحيط العربي والاسلامي لا يتاح لكل زائر اوعابر او ضيف ان يعتليها بمثل هذه السهولة وهي محصنة بالقانون والعديد من المطلوبات التي ترعاها الجهات المختصه لانها تمثل تهديدا لمجتمعنا واهم قيمه واصوله وفي رصيد سماحتنا الذي يتعرض هو الاخر لنزف مستمر حتي وصل الشارة الحمراء…. فنحن لم نعدم من نقدمهم علما واخلاقا ولدينا نماذج نباهي بها الدنيا في العلم والدعوة بمقصد الرسالات والعجيب في الامر انه لا يسمح لكفاءاتنا بمجرد الاقتراب من المنابر في تلك البلاد …فلمصلحة من تعكر سوح اهل السودان بخطاب لا يشبهها و تستباح منابره (بضيوف) قدموا من قبل نموذجا للدعوه اثبت (فشله) بامتياز في البلاد التي اتوا منها..!

• إعلامي وباحث من السودان

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *