*جمال الجمل
«أشدّ الناس تعاسة يمكن أن يصبح سعيداً بالتوجيه الملائم». هذه العبارة التي كتبها الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل في مقدمة كتابه عن «السعادة»، تشبه تماماً المواد الإعلانية التي تطاردنا في كل مكان من أجل شراء كتاب جديد في «التنمية البشريّة» أو الاشتراك في دورة (مدفوعة الأجر طبعاً) للتدريب على اكتشاف قوانا الخفيّة، أو الحصول على السعادة والنجاح والثقة، أو التخلُّص من القلق والخوف.
هل يعني هذا أننا نعيش عصر الابتذال الفجّ، بحيث نتقبل إهانة راسل، وتسخير الفلسفة لتحقيق الربح، وتحويل السعادة إلى سلعة؟
لا أطرح سؤالي كمدخل استنكاري يُبرّر الهجوم على ظاهرة كتب التنمية البشريّة ودورات البرمجة اللغوية العصبية، بالعكس ربما يتضمن حديثي بعض الدفاع عن معرض التأصيل الثقافي الذي يكشف عن مفاجأة كبيرة في النقاش الدائر حول الظاهرة التي يصفها كثيرون بـ«الهراء» و«النصب» و«الابتذال».. إلخ.
لا تنزعجوا من هذه الأوصاف السلبية، فهي مقبولة إذا نظرنا إليها كسمات ثقافية لمرحلة «ما بعد الحداثة»، وهذه التسمية المراوغة (ما بعد الحداثة) تخفي الحال الكابوسية التي وصل إليها العالم، حيث يجلس نيوتن بعد انطفاء الحداثة، مسترخياً تحت الشجرة يأكل التفاح!
يقولون إنه يفعل ذلك بعد أن وبخه تاجر من أحفاده، لأنه ظَلّ يتأمل التفاحة في يده حتى تعفنت، وسأله حفيد آخر: ماذا استفدت من المعادلات البائسة التي تزعج الناس في حصص الدرس؟، ألم يكنْ يسعدهم أكثر أن يتذوّقوا طعم التفاح؟!
يقول مدرب في التنمية البشريّة إن نيوتن ندم على الفرص التي ضيعها بعد أن قرأ كتاب ستيفن كوفي «إدارة الأولويات»، وبكى كثيراً بعد أن قرأ هذه «النصيحة» في كتاب كوفي الشهير «العادات السبع للناس الأكثر فعالية»: عليك أن تبدأ في تطبيق ما تعلمت، فحينما تتعلّم ولا تطبِّق ما تعلمته، فأنت لم تتعلّمْ شيئاً، وهذا هو الجهل».
بعد هذه النصيحة البراجماتية أدمن نيوتن قراءة كتب التنمية البشريّة، وودَّع الفلسفة والتأملات ومعادلات الرياضيات، وجلس تحت الشجرة يقضم كل تفاحة تسقط، حتى سمع صوت كوفي يهاتفه: «كن مبادراً، يجب أن تفكر في المنفعة للجميع»، فانتفض نيوتن واقفاً، وجرى نحو السوق ليؤسس مع أحفاده إمبراطورية «فطيرة التفاح»!
كان نجاح الإمبراطورية التجارية مدوياً، بحيث أذهل برتراند راسل، فأمسك كتابه عن السعادة، وألقاه من النافذة، وانتظر نصيحة أحدهم ليتخلّص من تعاسته!
انبهاراً بنجاح «إمبراطورية التفاح»، كتب فوكوياما مُعلناً «نهاية التاريخ»، ومؤكداً اكتمال البرنامج المثالي لحياة «الإنسان الأخير».. كل شيء صار معروفاً، فلا حاجة إذن لمزيد من الدهشة والفلسفة والتأملات، سفينة البشريّة وصلت إلى الشاطئ، وعلى ركابها الاستمتاع بمباهج الحياة لمن يملك طبعاً، فالحق صار دائماً مع «الزبون»، والإنسان الجيد هو الأكثر استهلاكاً، والأكثر تكيفاً مع الحياة كما يرتضيها التجار في «عالم الماك»، حيث تتدفق الموسيقى صاخبة، وتنتشر الوجبات السريعة، ويمتطي الجميع أحصنة الاتصالات الخرافية التي تتجوّل في الفضاء السحري لكوكب البرجوازية المنتصرة.
ماذا يعني هذا الهراء؟
لا تسألوني، اسألوا بنجامين باربر، فهو الأميركي الذي يسخر من هذه الخدعة الأميركية ويطالب بالجهاد ضد غرور «السوبر مان»، وأوهام «عالم الماك»، ويستند في جهاده على مجموعة من فرسان العالم القديم مثل التاريخ والفلسفة والثقافة!
لكن أليست التنمية البشريّة هي التطوّر الطبيعي لهؤلاء الفرسان الباحثين عن السعادة والخير والحق والجمال والقوة منذ فجر البشريّة؟
ألا يمكن أن يكون كوفي وكارينجي وابراهيم الفقي أكثر فائدة للناس من أرسطو وكانط وراسل وبنجامين باربر أيضا؟
السؤال يستحق إجابة ثقافية، لأن البحث عن النجاح والسعادة لم يكن مجرد حيلة نصب جديدة يتربّح بها مؤلفو كتب التنمية البشريّة، لكنه هدف قديم راود الإنسان منذ القدم، بل إن مفهوم الثقافة يرتبط بمحاولة وصول الإنسان إلى الصيغة الأفضل في التعامل مع نفسه ومع غيره ومع ما يحيط به أيضاً من نبات وحيوان وجماد، ومع تطوّر المفهوم نشأ علم الانثروبولوجي، ليدرس سلوك الناس وعاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم وفنونهم، بهدف السعي لارتقاء القيم الإنسانية، بحيث صار الفرد المثقف في تعريف الكاتب الإنجليزى ماثيو آرنولد هو الشخص المثالى في حسن السلوك والأخلاق، أو بتعبيره «أفضل ما توصل إليه البشر من طرق للتفكير في زمانه»، وهو نفس المفهوم الذي شاع عند الألمان باسم «بيلدونج».
هذه اللمحة التاريخية توضّح لنا أن مؤلفات «التنمية البشريّة» ليست اختراعاً مشبوهاً ظهر متأخراً في عصر التسويق الإعلامي والجنون الاستهلاكي، لكنها نزوع ثقافي قديم يرتبط بجوهر تعريف الثقافة ورغبتها في تحسين حياة الإنسان، إذن المشكلة ليست في المُنتَج، ولكن في مستواه، فالهاجس الرئيسي بين روّاد الأسواق الرائجة يتعلّق بالغش والسعر أكثر مما يتعلّق بتوافر السلعة، لأنها موجودة بكثافة تجعل الإغراق هو الخطر، وتجعل المشكلة في الكثرة وليست في الندرة، حيث يغيب العقل وتتضخم غريزة الاقتناء (الشوبنج)، يضيع التأمل في متاهة فاترينات الفُرجة، يتضاءل الاختيار أمام إغراءات الأوكازيون وإلحاح أصوات الباعة في مزاد يعنيه التسويق وليس القيمة.
في هذا العالم الذي يخاطب الغرائز الأساسية للجمهور الواسع يصبح الإعلان أكثر فائدة وتأثيراً من الثقافة، يصبح «الزبون» في متواليته الجماهيرية هو الهدف وليس المختص أو الخبير.
هذه هي منصة انطلاق «الابتذال» في عصر الجماهير الغفيرة التي تستهلك دون وعي كل ما يقدّمه التجار باعتباره «الأكثر بياضاً» و«الأطول عمراً»، و«الأقوى قدرة»، كل ما يرتديه أو يستعمله الآخر الأغنى والأشهر.
ولما كان هذا التسطيح يتناقض مع تعريف آرنولد للثقافة باعتبارها حالة وعي تتجاوز الحالة الخام للإنسان، وتسمو على الغرائز الأوليّة، وتحافظ على القواعد الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي توصّلت إليها المجتمعات في تطوّرها الحضاري والتي يسميها هوبز «العقد الاجتماعي»، فكان لابد لتجار «فطيرة التفاح» أن يتخفّفوا من العمق الثقافي، ويستبدلونه بشعارات إعلانية جاذبة على الطريقة التي تحدّث بها المضحك المصري الراحل عبد المنعم مدبولي في فيلم كان يقوم فيه بدور طبيب نفسي يحاول علاج عقد نقص عند مريض، فنصحه أن يردِّد باستمرار عبارة «أنا مش قصير وقزعة، أنا طويل وأهبل»، إذن يكفي الإيحاء الظاهري لتعديل صورة الإنسان عن ذاته، حتى لو لم يتغير شيء من حاله.
مع انتشار هذه الحيلة «القشرية» تمرد الشكل على المضمون، وأصبحت جاذبية التغليف هي نقطة الأساس في ترويج السلعة (أي سلعة بما فيها الأفكار، والإنسان نفسه)، فلم يعد الفرد الناضج الراقي هو الذي ينطبق عليه مفهوم البيلدونج الألماني أو شرط إيمانويل كانط المتمثل في شجاعة التفكير باستقلالية عن المجموع، صار العكس هو المطلوب، حينذاك خفتت أفكار كانط، وسابر آود، ويوهان هيردر، وباستيان، لصالح أفكار فرانتس بوس، وجودال، وويليام ماكجرو الذين اهتموا بدراسة قدرة الحيوانات على التعلّم واكتساب سلوكيات جديدة استناداً إلى نظرية بافلوف الخاصة برد الفعل الشرطي المنعكس، بحيث يمكن غرس مهارات جديدة في الحيوان عن طريق التعلّم بالمحاكاة والتكرار!
التطوّر الثقافي القديم إذن كان يحتاج إلى إنسان لديه عقل وقدرة على الدهشة والسؤال والتأمل والارتقاء، لكنه في نظر مؤلفي التنمية البشريّة يقترب كثيراً من الحيوان ويخضع للمنظومة السداسية التي وضعها ماكجرو ليثبت أن «المثقف الجديد» هو من يكتسب سلوكاً جديداً، أو يُعدِّل سلوكاً قديماً، ثم ينقله إلى غيره، ويؤسِّس مجتمعاً ما لأصحاب هذا السلوك (جماعة، عائلة، شلة)، على أن يكون السلوك الجديد قادراً على الاستمرار، والانتشار!.
بصرف النظر عن الهويّات الثقافية الخاصة التي تحدّثت عنها الأميركية روث بنديكت في كتابها الشهير «أنماط الثقافة»، سعت العولمة إلى توحيد المواصفات القياسية للفرد المثالي (من وجهة نظر القوى المهيمنة)، وتبنوا مقولة ليزلي وايت: «من أجل حياة أفضل للإنسان، عليه أن يساير العالم الخارجي، لا يهم من يكون؟ وماذا يعمل؟، عليه أن يتكيَّف مع كل ما، ومن حوله».
هذه الدعوة للتكيُّف كانت أكبر انتصار لصنّاع «الماتريكس»، وأفضل فرصة لمصممي أغلفة السلع (بما فيها الإنساني)، فقد تطوّرت فنون المكياج، وانتشرت بشكل غير مسبوق- بين مليارات البشر- عمليات التجميل ونحت الجسد بما يلائم الصور النموذجية التي رَوَّجَ لها بكثافة تجار المعايير.
عند هذا الحدّ أختتم بمفارقة «طبيب بجماليون» الدكتور ماكسويل مالتز، وهو جرّاح تجميل أميركي انتقل من عيادة «تحسين الشكل»، إلى سوق «تحسين النفس» فقدّم كتابه الريادي عن «التحكُّم الذاتي في النفس»، وهو الأساس الذي سار عليه كوفي، وتوني روبنز، وبراين تراسي، وريتشارد باندلر، وغيرهم في التعامل مع السعادة باعتبارها أسطوانة أغاني يمكننا ببساطة أن نشغلها في جهاز كمبيوتر بداخلنا!
هنا اعتذر برتراند راسل عن غزواته الفاشلة في كتاب «السعادة»، وحاول أن يجرّب تشغيل أسطوانة السعادة بطريقة مالتز الأوتوماتيكية، لكنه شعر بتعاسة أعمق، وتذكّر حكمته الأثيرة: لا شيء أكثر إنهاكاً للنفس، وإثارةً للسخط والتعاسة من تكرارنا لمحاولة تصديق أفكار يثبت لنا كل يوم أنها وهمية وسطحية وغير معقولة!
_______
*الدوحة