*ناصر سالم المقرحي
خاص- ( ثقافات )
قيل الكثير عن محمد الفيتوري لا سيما بعد وفاته , وسال حبر أكثر وإنني لأتساءل عن الذي سأُضيفه إلى ما قيل وأنا أُمسك قلمي لأُلطخ به البياض , لم أتعمد الكتابة عن الشاعر وانطلاقا من فكرة طفيفة عنهُ ودون استعداد وجدتني أتناول القلم وأشرع في الكتابة بلا توقف كما لو أنني أُدون ما يُملى عليّ دون تدخل مني وبلا قدرة على وقف دفق الكلمات .
لم أتعمق في قراءة الفيتوري ولكني أعرف أنهُ شاعر حماسي تجتذبهُ الأحداث السياسية وتستثيره التحولات الكُبرى ليكتب عنها . ومن هُنا كتب أشعارا لأفريقيا الذي ينتمي إليها قلبا وقالبا وكتب لفلسطين المحتلة وكتب لقضايا الإنسان وصور معاناته في كل مكان .
ولهذا السبب , رُبما تم اختيار قصائده للتدريس في المناهج الدراسية مثل قصيدته التي يقول فيها :-
الملايين افاقت من كراها ما تراها
ملأ الأفقُ صداها
خرجت تبحث عن تاريخها
بعد ان تاهت على الأرض وتاها
حملت فؤوسها وانحدرت
من روابيها وأغوار قراها..!
فانظر الإصرار في أعينها وصباح البعث
يجتاح الجباها
يا أخي في كل أرض عريت من ضياها
وتغطت بدماها
يا اخي في كل ارض وجمت شفتاها
واكفهرت مقلتاها
قم تحرر من توابيت الأسى
لست أعجوبتها
أو مومياها انطلق
فوق ضحاها ومساها
التي تم اعتمادها بأحد المناهج الدراسية في ليبيا في السابق .
وما قصيدته أصبح الصبحُ فلا السجنُ ولا السجانُ باقﹴ . التي استغلها القذافي أيما استغلال وساهمت في تكريس شُهرة الشاعر محمد الفيتوري والمطرب السوداني محمد وردي الذي قام بأداءها , وما هذه القصيدة إلا دليل على ما ذهبنا إليه , أيضا للفيتوري وهو المُجايل لنزار قباني قصائد هجائية موضوعها العرب وخيباتهم المتتالية وتشخيص لحالة الضعف والهوان التي يعيشونها كما فعل تماما وبشكل موسع نزار قباني وأحمد مطر فهو الذي يُلمح إلى العرب والساسة العرب حين يُنشد قائلا في معرض مدحه للقذافي :-
فليسمع الحالمون الراقدون على .. بطونهم والدُجى من فوقهم حجرُ
أن المقادير تستثني الرجال وإن .. تشابه البشر الأفذاذ والبشــــــــــرُ .
إلى جانب هذه الخصيصة الفنية التي تتسم بها قصائد الفيتوري فقد اتسمت تجربته بكيل المديح للزعماء السياسيين , لا أعرف استرزاقا وتملقا وتقربا وتزلفا أو إعجابا بمواقفهم وأفكارهم !! وهذا ما فعلهُ حين تقرب من القذافي أو استدرجهُ هذا الأخير إليه فكتب قصيدة عصماء تمتدحه , وبدوره القذافي أجزل له العطاء حتى أنهُ عينه سفيرا لليبيا في المغرب ولبنان وأجرى له مرتبا شهريا ومعاشا تقاعديا بعد بلوغه السن القانونية للتقاعد , وأتذكر أنهُ حين بلغ سن التقاعد خرجت علينا السلطة آنذاك بمقولة أن المبدعين لا يتقاعدون في إشارة إلى بقاء الفيتوري في منصبه السياسي والمعنوي كشاعر مُقرب من السلطة يتم دعوته لحفلاتها ومؤتمراتها ويُكرم من قبل المتربع على قمة هرمها أي شاعر البلاط .
ولهذا السبب تلقى الفيتوري الكثير من النقد الذي يُدين استرزاقه بشعره وتقربه من السلطة التي اعتُبرت من قبل البعض ظالمة وغاشمة ومغتصبة لحق الشعوب في العيش بحرية وكرامة . سوى أن ذلك لا ينفي أن للفيتوري قصائد إنسانية عظيمة تتغنى بالإنسان وتدعو جهراً إلى انعتاقه وتحرره من التبعية والاستغلال والعبودية ,
أيضا للفيتوري قصائد صوفية غاية في الشفافية والعمق , نقول ذلك وفي بالنا قصيدته ” معزوفة لدرويش متجول ” التي ينشد فيها قائلا:-
و يحي…و أنا أتلعثم نحوك يا مولاي أجسد أحزاني
أتجرد فيك هل انت أنا ؟
يدك الممدودة أم يدي المدودة ؟
صوتك أم صوتي ؟
تبكيني أم ابكيك ؟
************
في حضرة من أهوى
عبثت بي الأشواق
حدّقت بلا وجه
ورقصت بلا ساق
وزحمت براياتي
وطبولي الآفاق
عشقي يفني عشقي
وفناءي استغراق
مملوكك …. لكني
أمير العُشاق .
وهذا النمط من الشعر ليس بغريب على الشاعر الذي تربى وعاش ببيئة صوفية كل من فيها يتبع طريقة أو يحسب على شيخ كبير له مُريديه وأتباعه , ومن هنا وحين كتب الفيتوري عما يعرف ومن داخل التجربة أبدع فيما كتب وقدم الجديد .
ولم يقف الفيتوري كشاعر كبير بشهادة النقاد العرب عند هذا الحد إذ قام بتسويق شعره عبر لقاءاته الصحفية الكثيرة وجولاته المكوكية بين المدن والعواصم العربية والأجنبية للمشاركة في ملتقياتها الشعرية والأدبية ومقابلاته التلفزيونية , ويبقى السبب الأهم لشهرة الفيتوري هو طريقة إلقاءه المميزة لشعره مستثمرا خاصية الإيقاع الذي يكتب وفقا له حيث أن الشاعر تعاطى إلى جانب قصيدة الشعر الحر , قصيدة البيت التقليدي ومع بروز موجة قصيدة النثر تأثر بها كغيره من شعراء جيله كأدونيس وأبو شقرا والماغوط ولربما كان لقربه من مركز الفعل الشعري في لبنان تلك السنوات حيث عمل كسفيرا لليبيا , ربما كان لذلك دوراً في كتابته لقصيدة النثر مبكرا وانخراطه في جوقة المنشدين النثريين ويظهر هذا التأثر جليا في ديوانه ” أبتسمي حتى تمر الخيل ” وبخلاف تجربة أدونيس التي ذهبت قصياً في التجريد وتجربة الماغوط التي استثمرت اليومي والمعتاد والمُعاش وتبنت لغة بسيطة وسهلة التناول وشبه مباشرة , راوحت تجربة الفيتوري بين هذين النمطين من الكتابة الشعرية فانحازت للإنسان واجترحت لنفسها طريقا ثالثا يأخذ من هذه وتلك دون أن يتورط في أيّ منهما وكتب قصيدة هي ما بين الوضوح والغموض ما بين المباشرة واللامباشرة فحملت لغته بوادر تجديد وتكثيف أسهمت في رسم خطوط أسلوبه وإبراز ملامح شعره .
كتب الفيتوري قصائده حتى أقعده المرض عن المشاركة في المنتديات الأدبية وحدّ من كتابته للشعر حيث لم يصدر للشاعر أية دواوين شعرية منذ سنوات عديدة قضاها أسيرا لأمراض عدة ألمت به .
إذن للفيتوري أسلوب إلقاء آسر بمقدوره شد انتباه المستمع والمشاهد بصوته الجهوري ونطقه السليم لجُمله الشعرية وإعطائه لكل حرف وحركة حقها من الأهتمام وهي تمر عبر حنجرته وشفتيه , ووقفاته الموزونة وسرعته وإبطاءه للكلام المُلقى والتشديد على القافية وتأكيد الإيقاع وفوق ذلك طريقته التمثيلية في الأداء وحركة يديه وما يرسم على ملامحه من انفعالات وتعابير , فالشاعر لا يُلقي الشعر فقط بل يتماهى فيه وينصهر في إيقاعاته ويذهب عميقا في معانيه ويتساوق مع تدرجاته القولية وتموجاته اللحنية .
هذا هو الفيتوري الذي عرفته أبّان فترة الشباب يوم إن كان ملء السمع والبصر كما يقول المتنبي , وهذا هو الفيتوري الذي وجدت دواوينه معروضة للبيع ذات زيارة لمكتبة فزان الواقعة بشارع أنس ابنُ مالك – الألكترونات – بمدينة طرابلس , وعرفت من صاحبها الجنوبي المنشأ أنهُ صديقا للشاعر وكم أغبطته على هذه الصداقة أنا المهووس بالشعر المهجوس بإيقاعاته .
وهذا هو الفيتوري الذي وجدت ديوانه ” ابتسمي .. حتى تمر الخيل ” الصادر عام 1975 عن دار الآداب , في سوق الأشياء المهملة والبضائع المستعملة مُمزقا فاقتنيته بثمنﹴ بخس وتعهدته بالصيانة والترميم حتى استوى بين يدي وفيه قرأت قصائد ” البطل يعبر إلى المعشوقة ” و ” إيقاعات قبل مارش النصر ” و ” الطفل والشمس ” و ” الأنتظار ” و ” دمشق وعاشق الأميرة الجبلية ” و غيرها من القصائد إضافة إلى القصيدة عنوان الديوان , وتمحورت اهتمامات الشاعر بهذا الديوان بين التغني بالأُنثى وتمجيد البطولة والشهادة ورسم معاناة الإنسان المظلوم والدعوة إلى الثورة , وفي خضم افتتانه بالأنثى يمزج ما بينها وبين الحرية ذاك المطلب الذي يتمناه الملايين من المحرومين فوق هذه الأرض وتلك القيمة المفتقدة , حتى تنصهر إحداهما في الأُخرى وتنمحي الحدود الفاصلة بينهما ليصيرا كلٌ لا يتجزأ الحرية \ والمرأة .
وتأكيدا لتوجه الشاعر الإنسانيّ الذي طبع قصيدته نراه بهذا المتن يستثمر حادثة موت الطفلة الليبية معيتيقة بعد تعرضها لقذائف الجيش الأمريكي الذي كان يقوم بمناورات حربية بالقرب من القاعدة الأمريكية في طرابلس فترة حكم الملك أدريس السنوسي , إذ لم تعود الراعية معيتيقة كعادتها ذاك المساء مع أغنامها إلى البيت وقد مزقت جسدها الصغير قنبلة أمريكية غادرة , وفي هيئة خطاب موجه لمعيتيقة الميتة \ الحية جاءت هذه القصيدة التي تُكرس لبراءتها وطفولتها المُجهضة وكأنما حين اغتالت آلة الغدر هذه الطفلة اغتالت السنابل واغتالت الضحكات البريئة واغتالت الأعياد واغتالت الحياة في اعتقاد الشاعر .الذي أخرجته الجريمة عن صمته وجعلته يندد بها من خلال شعره لتبقى صرخة احتجاجه خالدة على مر العصور يذهب الطغاة والضحايا يذهب القاتل والمقتول وتظل الجريمة ماثلة ويظل الشعر شاهدا عليها , وفي بعض جهات هذه القصيدة يقول مثلا :-
ما أبهى معيتيقة
مُرصعة بضحكتها الطفولية
وما أحلى معيتيقة
تُعلق شالها القمحي
فوق نوافذ الأشجار
ثُم تطير في أفاق رحلتها الربيعية .
وبعد أن يصور براءتها وضحكتها يتحول إلى الحديث , والحديث دائما بالشعر , عن موتها العبثي فيقول :-
وكان نهار
تخالط فيه لحم الأرض , والفقراء والأحجار
وأعشاب البحار , ومركبات الرعد والأمطار
وغاصت شُعلة من نار
في رئتيّ معيتيقة .
ويستمر الدفق الشعري متصاعدا في هذا الديوان لنقرأ في قصيدة ” البطل يعبر إلى المعشوقة ” وهي ثاني قصائد الديوان , عنفوان البطولة متلبسا تلك اللغة الحادة الغير مُهادنة التي تُقدم الروح رخيصة قربانا على هيكل الوطن , فليس إلا صوت البطل يظل مُهيمنا على حيثيات القصيدة وهو يعلو ويُزمجر متوعدا الباغي بالفناء وبالمقاومة حتى آخر قطرة دم , ويرق ويصفو حين يُخاطب البلاد , عطر الحضارات وسيدة الأرض , حين يسرد على أسماعها سيرة البطولة ويعدد أسباب الفداء والتضحية .
يحتمل كل هذا البوح وأكثر العبور إلى المعشوقة المرور إلى سيدة الأرض إلى عطر الحضارات إلى البلاد إلى الحياة , لذا لن يفوت الشاعر أن يُلقي بكل حمولته من البوح والإفصاح في حضرة المحبوبة يحاورها حديث الروح للروح ويبثها خُططه لافتدائها بأعز ما يملك قائلا :-
زمنٌ مر علينا . .
ساعةٌ من زمن , مرّت
على غربتنا . . أم سنوات !
طالما زُرتُك في الحلم . .
خلعت الحزن والخوف الجحيمي . .
وأسوار الهزيمة
وتفجرت لدى أرجوحة النهر
رصاصا وقنابل
وتجسدت رعودا وزلازل
وجيوشا تعبر البوابة الكبرى . .
وتاريخا من المأساة والصمت . .
يقاتل . .
ويقاتل . .
ويقاتل . .
كنتُ يا عطر الحضارات . .
ونيران القبائل
كلما أضحكني الباكون في المآتم . .
كنت – في حلمي – لا أرجع إلا . .
ونجوم الوطن المحتل في صدري . .
وأحجار السموات القديمة . .
****************
زمنٌ مر ثقيلا . . يا بلادي . .
كنت أعرف . .
أنه عصر الخيانات التي تنبت
تحت الجلد والعظم . .
وأعرف . . أنه عصر النبوات الشهيده
يولد الثائر في مستنقع القهر . .
كما تولد في الغيم الأعاصير
كما تولد في مستنقع الموت . .
المخاضات الجديدة !
إلى أن يختتم القصيدة قائلا :-
ألبسي زينتك الآن . .
فقد جئت
وها إني أقاتل
وأغني , وأقاتل
وأغني , وأقاتل .
ومتأثرا برؤية الجيوش العربية التي تدافعت إلى سيناء والجولان لرد العدوان وانتزاع النصر المُبين بقوة الحياة وإرادة الوجود وفي قلب تيار المد القومي يكتب الفيتوري قصيدته ” إيقاعات قبل مارش النصر ” التي يفتتحها بامتداح بطولة الجيوش العربية التي كانت عيون العرب – كل العرب – وقلوبهم متعلقة بها متطلعة إلى النصر من خلالها بعد أن رأت فيها المُخلص من حياة الذل والأستعباد ورأت فيها استعادة للكرامة والأمجاد الآفلة وتحقيق النصر الذي طالما داعب مخيلتها .
ممتدة زوارق الشمس . .
هم الآن , على مشارف الأفق
يضيئون دجى سيناء والجولان . .
يا رايات
يا قامات
يا جباه لن تنطفئ ثانية . .
توهجي . . توهجي . .
حتى تُضيئ المدن الخرساء
والأعشاب
والصخور
والمياه !
**********
أصرخ فيهم , باكيا , مضطربا . .
من فرحي
تأخذني الدهشة , ,
وارتعاشة اليقين
ما أروع الآية . .
يا من يركض التاريخ في غباركم . .
يا غابة الرجال
أيها المقاتلون
الله في آفاق هذه العيون
المشمسه
الله في أجنحة الحرائق
المقدسة
في عزة الصدور , والسواعد القويه
الله في كرامة الأرض , وفي
عدالة الثأر , وفي الحرية .
ولما ينذر الفيتوري قلمه للمحبوبة يقول :-
وتنمو على جبل الذكريات . خطى العاشقين
وينمو الحنين
وينتزع الليل ذو القبعات العريضة
أقنعتي . . فإذا أنت في جسدي تولدين
وفي جسد الليل . .
أيتها الغابة المستحمة بالعبق الإلهي . .
المغطاة بالصيف والأمسيات . .
التي نسيت عُريها تحت مروحة
الشمس . .
لتأتي الكتابة خشنة وحادة ووحشية حتى حين يتعلق الأمر بالمرأة , لأن الشاعر صاحب قضية وقد ينسى في خضمها وجهه الشفيف ويتنكر لمتطلبات الروح , فالقصيدة التي تنضح من مقاطعها البيئة الأفريقية تتحدث عن حياة الإستعباد والاستغلال كرقيق والإبعاد عن الأوطان والأهل عنوة .
إذن هذا هو الفيتوري الذي عرفته كشاعر شغل الناس حيا وميتا بسبب مواقفه وشعره وهذا هو ديوانه الذي عدّهُ الناقد والشاعر اللبناني محمد على شمس الدين أحد دواوين الفيتوري التي تخلصت من النبرة الزاعقة والخطابية المجانية التي أيضا اشتهر بها , واحتوى على شعر حقيقي وأصيل وكرّس الفيتوري كشاعر وطني وقومي وإنساني لا يُشق له غبار بعيدا عن التقريرية والوعظ والأتكاء المبالغ فيه على الموسيقى الظاهرة .