*أيمن عبد الرسول
خاص- ( ثقافات )
الآن فقط يمكن القول إن الإسلام بمسلميه ينتقل من مرحلة الوضعنة والانتصار لدين الفقهاء على حساب دين السماء، إلى مرحلة الحساب الصعب في الزمن الخطأ بصفته ليس فقط إسلاما من وضع البشر، تفكيرهم، مصالحهم، أزماتهم، حساباتهم الخاصة بالمكسب والخسارة. الإسلام اليوم يواجه سؤالاً صعبًا على أرض الواقع المرير الذي يعيشه المسلم المعاصر بين شقي الرحى، بين التكفير الداخلي من قبل أولئك الذين نصَّبوا أنفسهم شيوخ الإسلام، والجماعات الدموية التي تُعنى بالتجربة المدينية التمكينية دون المرور بالتجربة المكية ذات البعد التسامحي، وكذلك الجهلاء من مثقفي القنوات الفضائية الدينية التي غزت الفضاء الكوني تدعو إلى الإسلام، المتلوِّن تلوُّن معتنقيه بكل لون، نقول وبين الاتهام الغربي له بالإرهاب، فبين التكفير الداخلي من بني إسلامه الذي يدَّعي نصرته واتهامه بالإرهاب من الخارج الذي يحاول تحسين صورة الإسلام أمامه، يقف المسلم المعاصر الإنساني النزعة – إن جاز لنا هذا التوصيف – حائرًا لا يدري إن كان تمسكه بإسلامه دربًا من الخيال أم طريقًا لخيبته وجنونه، ولا يعرف إن كانت العلمنة التي تعيشها المجتمعات الإسلامية حاليًّا هي الجوهر أم القناع؟
من مظاهر تحول الإسلام من الوضعية غير المنطقية – بالمناسبة – إلى النفعية الفجة ما كان قد فجَّره هذا الكتاب منذ كان دراسات منشورة في دورية “أدب ونقد” من تسلُّط نزعة التأويل والتأويل المعاكس الذي يجعل من الدين الرسمي منظومة مغلقة على صانعيها تمنحهم امتيازات الفهم والتفسير وطرد ممثلي الإسلام الوضعي المستنير من على ساحة الرأي العام لصالح نمطين من التدين، التدين الشعبي بمفهوماته السمحة والمتعاركة على حقائق التصوُّف، وتصورات العالم الآخر وتصفية التناقضات بالتأويل المفرط – غير المنضبط – وليبقى الخلل في التدين قائمًا على مبدأ التناقض الداخلي بين النص والتفسير، العلاقة المضطربة مع التاريخ، أما النمط الثاني فهو نمط التدين الحركي، الذي تسانده المؤسسة الرسمية في أغلب الأحيان، وتناهضه على المستوى الرمزي فقط إذا تجاوز حدود الدعوة السلمية إلى المساس بالمنظومة السياسية السائدة والمسيطرة.
التدين الشعبي بنى وضعيته ونفعيته على أساس الواقع العملي المعيش، والتدين الحركي بنى نفعيته وانتهازيته على مديونية المعنى (سيجد القارئ تعريفًا مفصلاً لها في هذا الكتاب) وكاتب هذه السطور صاحب تجربة في الإسلام التطبيقي، ورصد الحركات الإسلامية قبل 11-9-2001 وبعدها حددت هذه التجربة مسارات أبحاثه وعمله وعلاقته بالإسلام النظري الذي يتبنى كاتب هذا الكتاب منظومة قيمه المعرفية، ويعمل سلاح النقد فيه بهدف الولوج إلى منهج مختلف وجديد في معالجة قضايا الفكر الديني، ومع ذلك يلقَى تعنتًا مبالغًا فيه من قبل ذوي الأدلجة الإسلامية التي تدعي امتلاكها للصواب الديني المطلق، بل وسيجد القارئ في هذا الكتاب نقدًا من مثقف مختلف وغير سلفي بالمرة وهو الصديق محمد شعبان الذي حاول لَيَّ عنق النص للوصول إلى نتيجة مفككة عكس مضمون مقاليه عن هذا الكتاب، لن نشغل أنفسنا بالرد عليه وإنما سنزايد عليه بوضع نقده للكتاب في هذه الطبعة من ذات الكتاب!!
ونعود إلى تحليل العلاقة غير المنضبطة بين الإسلام والمسلمين اليوم، وتتجلى بشكل معرفي عبر عدة نقاط سنحاول إيضاحها في السطور القليلة القادمة:
1- يغذي الإسلام ما يمكن تسميته – تجاوزًا – بالرأي العام في البلدان ذات الأغلبية المسلمة ومنها مصر قطعًا التي شهدت انحسارًا تدريجيًّا للعمليات الإرهابية المنظمة من قبل بعض الحماسيين الإرهابيين ولا نقول المسلمين، إلا أن خللاً ما في بنية التجمهر المصري الشعبوي بالأحرى أدى إلى احتفاء مبالغ فيه بهجوم أسامة بن لادن الموهوم بالحروب المقدسة على برجي التجارة بواشنطن، ذلك الحادث الجلل أدى إلى عدد من المتناقضات، إذ كيف يصدِّق الغرب العلماني، ذو الخلفية العقدية المسيحية أن الإسلام ليس دينًا إرهابيًا؟ وكيف يواجه المسلم هذه الاتهامات التي يرى نفسه منها براءً؟
إنها أزمة ومع فشل الإسلام المستنير في رد الفعل الغربي تجاه الإسلام أو المسلمين بالأحرى، ازدهر ما يمكن إطلاق مصطلح الظاهرة عليه وهو التجرؤ على الإسلام والخروج من الصمت الظاهري الذي طالما مارسه الغرب مع الجاليات الإسلامية، وظهرت البرامج العربية التي تمارس التنصير لا التبشير، لأن التبشير واجب ديني على كل مسيحي. كما أن الدعوة السلمية للإسلام فريضة على كل مسلم، المدهش أن الحركات التنصيرية اتخذت من كتابات التنوير الإسلامي هُزءًا
وحاولت استخدامه استخدامًا نفعيًّا منبت الصلة عن أسباب كتابته، وهو نفس الاستخدام النفعي الذي يمارسه الإسلاميون ضد خصومهم، ومع ذلك لم تهدأ حدة الصراع الحضاري (أسطورة صمويل هانتنجتون) بين الغرب والإسلام، بل ازدادت اشتعالاً مخلفة وراءها العديد من الضحايا منهم البابا بندكت الثالث بابا الفاتيكان، ورسامو الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد، وأزمات من عينة الحجاب في فرنسا (2003) والحجاب في مصر (إشارة إلى أزمة وزير الثقافة المصري فاروق حسني ) والمآذن في سويسرا والعديد من المفصليات غير الهينة في علاقة الإسلام بالغرب، ولكن السؤال المفاجأة نصه: هل المسلم المعاصر في حاجة إلى خلع إسلامه وبالتالي أن يبيع آخرته من أجل رضا الغرب عنه؟
ويتبعه السؤال الأكثر منطقية: ما رداؤه إذن؟!
2- الحقيقة – أو ما يبدو أنه كذلك – هو أن المسلم المعاصر لا علاقة له من قريب أو بعيد بالإسلام الوضعي، ولكنه منتمٍ إلى منظومة الإسلام النفعي بالأساس ذات الرداء العملي الربحي، فعدادات الحسنات التي تباع للشباب كي يحسبون عليها حسناتهم بعد كل صلاة تؤكد البعد النفعي لجيل مسلمي البسكويت، وما أسهل اتهام الباحث المجتهد بالجهل من جهلاء أيضًا لأنه يقول لهم إن الله ليس كذلك؟
وإن الإسلام حمال أوجه، وأنهم إذ يقومون بعصرنة الإسلام ذلك الحلم البعيد، يفككون الإسلام (الوحي والنص والتاريخ) إلى غير غاياته.
فلا الملتحون الحماسيون يمثلون الدين، ولا المتعصرنون الدعاة يمثلونه، وإنما هي درجات تُبنى بعضها فوق بعض، فالدعاة المودرن يمثلون شرعية الإسلام المكي المتسامح لأنه غير قوي، ومطارد، ومهزوم.. والسلفيون الحماسيون – لا نقصد هنا السلفية بالمعنى الشرعي – يحاربون على التأويل المدني للإسلام حيث القوة، والثأر (نعم الثأر ولم لا؟)، فجماعة التكفير والهجرة في مصادرها الشرعية تجسيد للحالة المحمدية بين مكة والمدينة وفقه الاستحلال يجد مرجعيته التأسيسية في غزوة بدر الكبرى التي لم تكن لتكون لولا محاولة المسلمين سلب قافلة قريش، وهو استحلال لأموال المشركين والثأر هنا يصبح ذا دلالة مسكوت عنها بالتأكيد.
ولا يعتمد أحد الفريقين اللذين يقتتلان في الحديث عن الإسلام هنا على لحظة تنوير وقي الدراما المحمدية التي تحمل مفارقتها بين الاستضعاف والتمكين، ألا وهي دلالة فتح مكة، أنه لا هجرة بعد الفتح!!
ومع تسويغ الاستخدام النفعي للإسلام من قبل الجميع يبحث المتحاربون على التأويل في المصحف العثماني عن الآيات المبررات لخطاب ديني مختل لا يليق بزماننا ومكاننا، ويقف الإسلام السياسي بين تناقضات الجميع متغذيًا عليها مفيدًا منها في صياغة مشروع الخلافة – الفريضة الغائبة – والجهاد أحد أركانها ومحاولة عصرنة الإسلام هي الخطوة السابقة لتسييس الإسلام وتحويله إلى إيديولوجيا للثورة في مجتمعات تحرص على المظهرية الإسلامية وتعمد إلى مخالفتها على مستوى الوعي الواقعي، فهل تتحرك الجموع الغاضبة (لأسباب علمانية بحتة – سياسية، اجتماعية، اقتصادية) سوى من أجل نصرة دين الله أو فريق المنتخب إذا خسر أمام الجزائر؟
ليست مُزحة.. المُزحة المبكية المضحكة في آن، أن المسلم المعاصر لا ناقة له ولا جمل بين اتهامه بالكفر من بني دينه، واتهامه بالإرهاب من المخالفين له في العقيدة ونعود للإجابة على السؤال الحرج:
لماذا نطالب المسلم بخلع دينه من أجل عدم اتهامه بالإرهاب؟
3- كل الأديان تحمل إرثها الوضعي الثقيل، وتغلغل معتنقيها بما يدعونه اليقين الإيماني، ومع ذلك يقف المسلم المعاصر والمثقف ذو التراث الغربي المعلمن، والذي أسس ثقافة الأسئلة حائرًا بين تراثين أحدهما يخصه والآخر يهمه، الخصوصية الثقافية للمجتمعات المسلمة أمر لا بد وأن يوضع في الحسبان، وعلى المسلم المؤمن بالإسلام كمنهج للخلاص أن يصوغ إسلامه اليوم كما يناسبه ولو تحت شعار التجديد، كما نحاول جميعًا، وأن يقوم بنقد منظومة الآخر المختلف معه، من أي سبيل، وأن ينتج تراث الأجيال القادمة، محتفيًا بعصره، وخصوصيته التاريخية والجغرافية معًا.
الإسلام ليس فخرًا كله، وإن كانت هناك بعض المفارقات الخاصة بالعلاقة مع الآخر فلا عيب في التصفية النقدية، لصياغة بيان تأسيسي لإسلام نفعي، سيكون خيرًا من ذلك الإسلام الوضعي الذي أفلس معرفيًّا ولكن هل يعفي هذا التصور النفعي للإسلام جديد مبتكريه من تقديم مسوغات مروره وأحقيته في التعايش السلمي مع العالم؟
“الإسلام أبي” هكذا يدافع الصديق د. محمد الباز عن إسلامه، تلك المقولة التقريبية والعفوية التي يتحمس لها البعض ومنهم كاتب هذه السطور بالمناسبة، تقرب الكثير من وجهات النظر المختلفة حول الإسلام، فلكل منا أب، ينتمي إلى فضائه الوجودي العام، نحبه، نكرهه، ننتقده، نغضب منه أو له، المهم أننا لا نتبرأ من هذا الأب لمجرد أن بعضًا من إخواننا في الأبوة يشوِّهون صورته أو يختلفون على ميراثه، ولما كان الإسلام الدين الذي يراه الجميع ممن ينتمون إليه، الأب، فعليهم أن يكونوا أول كافر بما يفعله السفهاء منهم، ذلك الذي يشوش صورة ذلك الأب، ويحاول إفساد صلة الرحم بين الابن وأبيه!!
لا عليك أيها المسلم المتسامح، فالإسلام يتسع للتأويل ومن حقك على أبيك، بل من حق أبيك عليك أن تتمسك به، وأن تكون سفيرًا طيبًا لعرض سيرة الأب أمام الابن الضال، قابلية الإسلام للتأويل يجب أن تنضبط، من خلال منهج متكامل نفصل فيه الثابت والمتحول في الإسلام، ونعيد صياغة إسلامنا بشكل لا يهدره عفوًا ولا ينوره قسرًا.
لا تخلع دينك ولا تتبرأ من أبيك، ولكن كن كما تريد فأنت حر.. وتتوقف حدود حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين في التفاعل مع دينك.
أبوك لا تخجل منه وإنما قوِّم فيه ما تراه عملاً غير صالح على أساس من العقل والعدل والحرية، وكل من هذه المفردات هي ميزان الآخر واعتداله.
لا تخلع إسلامك فقط قوِّم ما تراه منه غير صالح!!
_________
* كاتب صحفي مصري وباحث في الإسلاميات.. توفي في الرابع عشر من أغسطس 2012، إثر جلطة في المخ، عن عمر يناهز 37 عاما.
ترك كتابين منشورين “في نقد الإسلام الوضعي”، و”في نقد المثقف والسلطة والإرهاب”..
وله عديد من المقالات والكتب غير المنشورة..
يعيد موقع ثقافات نشر مقالاته، ويتيح نسخة من كتاب “في نقد الإسلام الوضعي” بصيغة pdf.