*هشام بنشاوي
تبدو هذه الــ«حكايات برية» ((Wild tales موغلة في وحشيتها حد الانتشاء بالانتقام، بعد انفجار مشاعر الشر الكامنة في أعماق شخوص هذا الفيلم البسطاء والطيبين، ومع ذلك قد تتعاطف مع هؤلاء «المتوحشين الجدد»، فالعنف في هذه المتتاليات السينمائية لمخرجها وكاتبها الأرجنتيني داميان زيفرون وليد الضغوط السيكوسوسيولوجية في عالم يفتقد العدالة الاجتماعية، وليس عنفا مجانيا مثلما يحدث في بعض أفلام الإثارة المجانية.
على مدار ساعتين، نجد أنفسنا أمام ستة أفلام قصيرة، ذات قصص منفصلة متصلة، قاسمها المشترك الانتقام الوحشي، وحتما كمشاهد، سنتعاطف أكثر، لا شعوريا، مع مهندس التفجيرات في الحكاية الرابعة والذي اضطر إلى أن يفجر مرآب مصلحة تحصيل المخالفات المرورية، بعد أن بلغ السيل الزبى، فبسبب سحب سيارته للمرة الأولى، وإلزامه بدفع المخالفة أولا، قبل تقديم الشكاية، فضلا عن عنجهية الجابي، الذي لم يبال بمحاولة المهندس أن يوضح له أن الرصيف لم تكن عليه أية شارة لمنع الوقوف، وأنه كان يتعين على البلدية وضع شارة مرورية، وهذا ما تسبب في تأخره عن حفل عيد ميلاد ابنته، وبالتالي عتاب الزوجة التي اتهمته بعدم الالتزام بالمواعيد، وفي المصلحة، أدى شجاره مع الموظف البيروقراطي في إدارة المرور، بعد احتجاجه على سياستهم التعسفية، إلى طرده من العمل، ثم الطلاق، وحرمانه من حضانة ابنته بسبب بطالته. والمخرج هنا يوجه سهام نقده إلى النظام الحكومي الذي اعتبره فاسدا، يشغل موظفين حكوميين بؤساء، وينتقد، أيضا، الشركات الخاصة، وذلك حين نراه فشل في العثور على وظيفة في إحدى الشركات بسبب غياب السكرتيرة، التي غادرت مكتبها على الساعة الرابعة بعد الظهر، وأمام مقر الشركة، فوجئ باختفاء سيارته، ودفع الغرامة بأعصاب باردة، ثم حشا حقيبتها الخلفية بالمتفجرات ليلا، وفي المقهى،راقب بهدوء سيارته، والشاحنة الحكومية تجرها، ثم نستمع إلى مواطنة تتشاجر مع نفس الموظف العنجهي، تتهمه بالوقاحة، وبأنه يمثل نظاما فاشلا، ولن يصمت إلا عند حدوث المأساة، ثم دوى انفجار في مرآب المصلحة الحكومية.
اعتبرت الصحافة ما حدث هجوما إرهابيا، بينما أكد المتهم أنه مجرد حادث، وأشاروا إلى مهنته السابقة كمهندس تفجيرات، ودافع عنه المدعي العام، لعدم كفاية الأدلة، ولعدم وجود أية خسائر بشرية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي لقبوه بالمفجر، هناك من طلب منه المساعدة، لأنهم سحبوا منه سيارته للمرة الرابعة، وهناك من طلب منه أن يفجر مبنى الضرائب، وطالبوا بالحرية للمفجر، وفي مشهد الختام، نرى ابنته وطليقته يزورانه في السجن، لتحتفلان مع بقية السجناء بعيد ميلاد ابنته، والجميع يفتخرون به، كما يجدر ببطل قومي في دول عالم ثلاثية تصنع الإرهاب، في غياب العدالة الاجتماعية.
أما الحكاية الأولى، والتي تتعلق بالشاب المضطهد من الجميع، غابرييل باسترناك، والذي ينتقم من صديقته التي خانته مع صديقه، وأساتذته، طبيبه النفسي والناقد الموسيقي، الذي رفض أطروحته الجامعية، وكل من أساؤوا إليه، وذلك بإرسال تذاكر رحلة جوية إليهم جميعا.
تبدأ الحكاية بمشهد حديث عارضة الأزياء مع ناقد موسيقي، في مقصورة طائرة، ثم يكتشفان أنهما يعرفان جابرييل، وكانت تستمع إلى حديثهما معلمته في المدرسة، بعد ذلك اكتشف الناقد أن هناك مصادفة غريبة، جمعتهم كلهم على متن هذه الطائرة، وأخبرتهم المضيفة أن ربان الطائرة هو غابرييل، وقد أغلق قمرة القيادة، ولا يرد، فهوى بهم جميعا، واضعا حدا لحياته ولحياة الجميع، واختار حتى الانتقام من أبويه، اللذين اعتبرهما الطبيب النفسي المسؤولان عن معاناته، ونرى الطائرة تتحطم فوقهما..
بدورها، لا تخلو الحكاية الثانية من نقد سياسي للنخبة السياسية، حيث تفكر نادلة المطعم البائس في الانتقام من السياسي الفاسد، الذي كان وراء تشريد أسرتها، وانتحار أبيها، ثم مضايقته لأمها بعد ذلك، مما جعلها تنتقل إلى مدينة أخرى، ونراه في البداية يسخر منها حين تسأله إن كان يريد طاولة لشخص واحد، وعاملها في عجرفة فيما بعد، وقررت الانتقام منه، لكنها تراجعت، بيد أن الطاهية، ذات السوابق، وذات الملامح الباردة، والتي ترى بأن الحياة في السجن أفضل، دست سم الفئران في الطعام، ولم يتأذ سوى ابن الرجل الفاسد، وحين أشفقت على الشاب، حاولت سحب الصحن من أمام أبيه، اعتبر ذلك إهانة له، فرمت الطعام في وجهه، وتدخلت الطاهية وطعنته بالسكين انتقاما منه، بعد اعتدائه بالضرب على زميلتها.
أما الحكاية الثالثة، فهي تبدو موغلة في العنف، كما أن سببها يبدو تافها، وهو قيام صاحب السيارة الفارهة بإهانة صاحب السيارة المتهالكة، الذي لم يسمح له بتجاوزه، وحين انفجر إطار السيارة الفاخرة، تدفقت مشاهد العنف والشجار الضاري بين الرجلين، والتي انتهت بهلاكهما معا احتراقا.. في نهاية تراجيكوميدية.
الحكاية الخامسة، تتمحور حول الشاب المراهق سانتياجو، الذي صدم امرأة بسيارته وهو مخمور، وفر هاربا، ولجأ الأب إلى مساعدة صديقه المحامي، وتوفيت المرأة وهي في طريقها إلى المشفى، وفكر الأب في أن يدفع البستاني الكهل التهمة عن ابنه مقابل مبلغ كبير، وتفاوض المحامي مع المدعي العام حين اكتشف بأن من كان يقود السيارة شخصا أطول قامة غير البستاني، لكنه طلب مليون دولار ونصف، كما أبلغه المحامي، فضلا عن نصيب المحامي، مدبر القصة، الذي طلب نصيبه أيضا، لكي ينتشل ابنه من الورطة، فابتزه المحامي وطلب خمسمائة ألف دولار، وحين سمع البستاني حديثهما، ابتز السيد بدوره، وطلب شقة على الشاطئ، في الوقت تجمهر فيه متظاهرون أمام الفيلا، مطالبين بالعدالة، واتفق المدعي العام معهم على أن يخرج المتهم مكبلا مغطى الرأس، وألا يدلي بأي تصريح أمام القنوات الفضائية، ولا يرد على أحد لكي تمضي القضية بدون أية تناقضات، وحتى تتوقف الشائعات.
دخل عليهما الابن، وأمه تحاول شده للخارج، وهي تقول بأنه يريد أن يخرج ويعترف، وحين تحدث المدعي العام عن مصاريف إضافية، هون المحامي الأمر، فعاتبهما الرجل بأن لا مجال لمثل هذه النقاشات، وطلب منه الأب أن يدفعها من نصيبه مادام سيأخذ مليون دولار وحده، فتفاجأ المحقق والأب.. عندما اكتشف أن المحامي لعب لعبة أخرى، فقرر الأب إنهاء الصفقة بإعلانه فسخ العقد، ونادى على ابنه لكي يذهب ويعترف، وأشار الأب للزوجة والمحامي أن المدعي العام الحقير يتقاضى راتبه من الضرائب التي يدفعها، والأجدر أن يأخذ تلك الأموال أسرة الضحية، وذهبت الزوجة للتفاوض معهم، وأبلغه المحامي أن ثمة اتفاقا آخر، بعد تنازل البستاني عن الشقة، وأنه قبل، هو والمدعي العام، المليون دولار. رفض ابتزازهم معلنا أنه لن يدفع سوى مليون دولار يتقاسمونه ثلاثتهم، وبإمكانهم الرفض أو القبول، وغادر المدعي العام مع البستاني أدلى بتصريح للصحفيين، وبين المتجمهرين، كان يتواجد زوج الضحية الغاضب، الذي سبق أن توعد الجاني في تصريح تلفزيوني، ونراه ينهال بمطرقة على البستاني، تحت عدسات الصحافة..
نهاية مؤثرة، أنقذت هذه الحكاية من السقوط في فخ الميلودراما التلفزيونية، بعد تواطؤ السلطة الفاسدة مع رأس المال للتضحية بالفقراء، لكن البستاني الفقير قتله جشعه قبل ذلك، والأغرب أن عائلته لن تنال نصيبه، لأنها لا تعرف أي شيء عن هذا الاتفاق الانتهازي القذر.
لسوء الحظ، أن هذا الفيلم الاستثنائي لم ينل الاحتفاء الذي كان يستحقه، فخسر الرهان أمام الفيلم البولندي «إيدا»، الذي سرق منه أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
________
*جريدة عُمان