الولع بالتصنيف


*يوسف ضمرة

عندما يتناول ناقد عربي ما، نصاً أدبياً ما، فإنه «غالباً» يلجأ ـ أول ما يلجأ ـ إلى تصنيفه. وهي خطوة تشكل أول تصادم بين الناقد والقارئ. فالقارئ عادة يقرأ بعفوية، وبلا بحث عن مدارس أو نظريات أو مناهج، وهو غالباً ما يخرج بشيء ما، وهو الشيء الذي يكبر كلما تمرس القارئ أكثر، وراكم خبرات قرائية، تجعله يتوقف أمام النص ملياً، ويذهب في التأمل.
الناقد الذي يلجأ إلى التصنيف، يتجاهل التداخل المذهل بين المدارس والمناهج. وهو يفعل ذلك، لأنه يسلك أقصر الطرق لقراءة النص نقدياً؛ فطالما كانت الخانة جاهزة ومعدة مسبقاً، فمن السهل على الناقد الحديث عن القصص أو الرواية أو أي نص آخر، بناءً على ملامح التصنيف وسماته كمدرسة أدبية أو فلسفة إبداعية.
كثير من النقاد العرب الذين بهرتهم البنيوية مثلاً، التقطوا جزئية الثنائيات في النص. ولجأوا إلى قراءاتهم النقدية متسلحين بهذه الجزئية. الغريب هو أنهم تناسوا أن الثنائيات المتضادة في الحياة، تشكل حجر الزاوية في البنية الإنسانية كلها منذ نشأة الكون. فحين تكتب عن الغياب يكون الحضور حاضراً ـ شئت أم أبيت ـ وحين تكتب عن الحزن، يكون الفرح حاضراً، بشكل أو بآخر. هذا ما انتبه إليه فلاديمير بروب في كتابه الشهير«مورفولوجيا الحكاية الشعبية»، وهو الكتاب الذي اتكأ عليه النقد البنيوي إلى حد كبير، ومنه ربما انبثقت مقولة «موت المؤلف» أيضاً، حيث الحضور الكلي للحكاية بوظائفها وآفاقها وسحرها، والغياب الكلي للمؤلف، الذي تجمع البحوث على مشاركة أكثر من مؤلف للحكاية الواحدة.
معضلة النقد القائم على التصنيف، تكمن في التعامي عن كل ما لا يمت إلى هذا التصنيف بصلة. فحين يضع ناقد نصاً في خانة ما، فإنه يفتش في النص عن كل ما يخدم الخانة التي انتقاها بناءً على ولعه بالخانة، لا بالنص. وفي هذه الحال، يقوم الناقد باصطفاء تلك الملامح التي يراها جديرة بتقوية التصنيف، الأمر الذي يغدو معه تثبيت هذا التصنيف أكثر أهمية من النص وجوهره ومفاهيمه وآفاقه وأسئلته.
لا يوجد كاتب يكتب وهو يفكر في تصنيف نصه. ولا يوجد كاتب يكتب وهو يفكر في تحقيق مقولة «موت المؤلف» مثلاً. ولا نلوم الناقد الذي يشتغل على هذه الأمور كلها بالطبع، لكننا نلوم بعضهم على ولعهم المفرط بالتصنيف ليس إلا، وهو ولع يسد الطرق أمام القارئ أو المتلقي.
يحق للناقد أن يتسلح بخبراته كلها، ولكن، لا يحق له القطع أو الجزم. فهل ستقول لي إن رواية مثل «دروب الجوع» لجورج أمادو مجرد تسجيل فوتوغرافي لهجرة الفقراء أو المعدمين في مقاطعة «باهيا» البرازيلية؟ وهل ستخبرني أن «المتشائل» مجرد سخرية لاذعة من الاحتلال الصهيوني؟ وهل تختصر لي رواية «أم سعد» بجملتها الشهيرة «خيمة عن خيمة تفرق»؟ ورواية «عائد إلى حيفا» بالمقولة الشهيرة الأخرى «الإنسان قضية»؟
إذا كانت الروايات أو النصوص بشكل عام، تُختصر بمقولات جاهزة، سواء من داخل النص أم من خارجه، فإن قراءة النص كاملاً تصبح مضيعة للوقت. يقول ماريو بارغاس يوسا في مقدمة روايته الساحرة «شيطنات الطفلة الخبيثة»: مهما بدت الأرض التي يقف عليها المرء صلبة أو ثابتة، فإن هنالك شياطين كامنة في المدينة، قد تخرج في أي لحظة وتدمر كل شيء. وهنا تحديداً أحب أن يلعب النقد لعبته الفذة. أن يكشف عن هذه الشياطين وما تقوم به وكيف تقوم به.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *