*ابراهيم العريس
«فوق دفاتري المدرسية/ فوق طاولتي في الصف وفوق الأشجار/ فوق الرمل والثلوج/ أكتب اسمك. فوق الصفحات المقروءة كلها/ فوق الصفحات البيض/ الحجر الدم أو الرماد/ أكتب اسمك. فوق الصور المذهّبة/ فوق أسلحة المحاربين/ فوق تاج الملوك/ أكتب اسمك (…). فوق عجائب الليل/ فوق أرغفة النهار البيض/ فوق المواسم المخطوبة/ أكتب اسمك (…). فوق الحقول فوق الأفق/ فوق أجنحة الطيور/ وفوق مطحنة الظلال/ أكتب اسمك (…). فوق الأشكال المشرقطة/ فوق الأجراس ذات الألوان/ فوق الحقيقة الملموسة/ أكتب اسمك. فوق الدروب التي استيقظت، فوق الطرقات التي انتشرت، فوق الساحات التي فاضت/ أكتب اسمك. فوق المصباح المضاء/ فوق المصباح المنطفئ/ فوق بيوتي المتآلفة/ أكتب اسمك. فوق الثمرة المقسومة قطعتين/ في مرآتي وفي غرفتي/ فوق سريري المتكوّم الخاوي/ أكتب اسمك. فوق كلبي الشره الحنون/ فوق أذنيه المنتصبتين/ فوق قائمته الخرقاء/ أكتب اسمك. فوق مقفز بابي/ فوق أشيائي الأليفة/ فوق دفق النار المباركة/ أكتب اسمك(…).
فوق واجهة المفاجآت الزجاجية/ فوق الشفاه النبيهة/ فيما هو أعلى من الصمت/ أكتب اسمك. فوق ملاذاتي المحطّمة/ فوق مناراتي المنهارة/ فوق جدران ضجري/ أكتب اسمك. فوق غياب لذتي/ فوق عزلتي العارية/ فوق مارشات الموت الموسيقية/ أكتب اسمك. فوق العافية المستعادة/ فوق المجازفة المختفية/ فوق الأمل البلا ذاكرة/ أكتب اسمك. وبقوة كلمة واحدة، أستأنف حياتي من جديد/ أنا الذي ولدت كي أتعرف إليك/ كي أسميك: حرية…
من منا لا يعرف، أو لم يقرأ أو يسمع ولو مرة في حياته هذه القصيدة، وربما بلغات لا تنتهي؟ هي القصيدة التي كتبها الشاعر الفرنسي بول إيلوار ذات يوم من العام 1942، فيما كان وطنه قد بدأ يقبع تحت الاحتلال الألماني وقد انقسم شعبه بين مقاومين للمحتل النازي، ومتعاونين معه. قصيدة الحرية هذه هي، بالتأكيد، القصيدة الأشهر أواسط القرن العشرين، وبتأكيد أكبر، قصيدة المقاومة الأقوى في آداب الشعوب. ولئن كانت حكاية هذه القصيدة كامنة في سطورها ومقاطعها التي اجتزأنا هنا -لضيق المساحة – بعض سطورها الأقوى دلالة، فإن لصاحبها حكاية أخرى، هو الذي استقبلت الصحافة الفرنسية رحيله عام 1952 بقولها: «إن رحيل بول إيلوار عن سبعة وخمسين عاماً يحرم فرنسا من شاعر كبير جداً، كان نتاجه في الوقت نفسه تجربة في الشعر وتجربة في الحياة». وفي تلك المناسبة لم يكن من قبيل الصدفة أن يُربط اسم إيلوار باسمَين كبيرين آخرين في الشعر وفي الحياة الأدبية الفرنسية: لوي اراغون واندريه بريتون. فالحال أن تلك الأسماء الثلاثة ارتبطت ببعضها البعض طوال عقود من السنوات، حيث من المعروف أن بداية تعرّف القراء ثم الجمهور العريض على إيلوار إنما تم إثر لقاء هذا الأخير ببريتون وآراغون غداة الحرب العالمية الأولى، حيث انضم إليهما لاعباً دوراً أساسياً في قيام الحركة «الدادائية»، ثم في تأسيس وازدهار الحركة السوريالية التي كانت أبرز حركة أدبية – شعرية في فرنسا كما في العالم أجمع، خلال الفترة الفاصلة بين الحربين. ومن ثم لم يكن غريباً أن يعتبر إيلوار واحداً من أكبر الشعراء باللغة الفرنسية في ذلك الحين.
وهو، على أي حال، مصير لم يكن ليخطر على بال ذلك الفتى الأنيق والمرهف الحس الذي كانه بول إيلوار عند بداية هذا القرن، هو المولود في الضاحية الباريسية (سان – دنيس) عام 1895، والذي اضطر للتوقف عن الدراسة وهو بعد في السادسة عشرة من عمره. غير أن بول الذي كان اسمه في الأصل بول – اوجين غريندل، لم يتردد طويلاً دون خوض معترك الشعر والقراءة والانصراف إلى التعرف إلى كل ما هو جديد وطريف في عالم الفنون والأدب عند تلك المرحلة الفاصلة في تاريخ الحداثة الإبداعية، بديلاً عن الدراسة. وعلى ذلك النحو ظهرت عام 1913، وكان بعد في الثامنة عشرة، أشعاره الأولى، وكان ذلك في المرحلة نفسها التي التقى خلالها بـ «غالا» حبيبته الشهيرة التي سينتزعها منه، لاحقاً، الرسام الإسباني سلفادور دالي، ما سيثير حفيظة أصدقاء إيلوار ومنهم على وجه الخصوص أندريه بريتون الذي ما لبث أن حوّر حروف اسم سلفادور دالي SALVADOR DALI إلى AVIDA DOLLARI التي تعني النهم إلى الدولارات!
ونعود هنا إلى بدايات بول إيلوار الذي فاجأته في تلك الآونة، الحرب العالمية الأولى التي عرف خلالها كل الأحوال، لكنه عرف كيف يخرج منها، منضماً إلى بعض الجماعات الفوضوية، قبل أن يكون لقاؤه الحاسم مع الدادائيين. مهما يكن من أمر فإن شاعرنا الشاب حين عرف الفوضويين ثم الدادائيين وانضم إليهم، لم يكن مجهولاً، إذ كانت قد صدرت له كتاباته ذات العنوان الموحي «واجب القلق» (1917). ومنذ ذلك الحين لم يكف إيلوار عن الكتابة وعن التطور والتبدل السياسيين، وصولاً إلى الانخراط الكلي في الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1942، حيث بات منذ ذلك الحين يعتبر أحد شعراء الحزب الرسميين، بل صار كذلك ولو لحين من الزمن، يعتبر من غلاة المبدعين الستالينيين داخل الحزب حتى، حيث إننا إذا ما تفحصنا جيداً المنحى الذي راح يتخذه شعره وكتاباته خلال تلك السنوات، ولا سيما منها ما يرد في نصه الأشهر «الشعر والحقيقة» (1942) ثم في «الموعد الألماني» (1944)، سنعثر على عشرات المقاطع التي تدل دون أدنى ريب على منحاه الأورثوذكسي الحزبي الموالي للأطروحات الستالينية. غير أن إيلوار الذي قال لاحقاً أن ظروف الحرب والمقاومة هي التي دفعت كتاباته وأشعاره إلى ذلك النوع الجاد من الالتزام السياسي، سيظل يؤمن دائماً أن للشعر لغته الخاصة المختلفة عن لغة السياسة. ترى، أفلم يكن هو الذي كتب، وهو في عز نضاليته الشيوعية/ الواقعية، العبارة القائلة «الأرض زرقاء مثل برتقالة» معطياً نفسه حرية مطلقة في التعبير الأدبي؟ نعم، فإيلوار رغم النجاح الهائل لقصيدته «أكتب اسمك أيتها الحرية» التي سوف تعتبر منذ بدايات الحرب العالمية الثانية نشيد المقاومين والمناضلين في فرنسا وخارجها، ظل مرتبط الجذور بنوع من السوريالية وبنوع من الكتابة التلقائية، جعلاه يستحق اللوم الحزبي بين الحين والآخر. لكنه لم يكن يعبأ بمثل ذلك اللوم، بعد أن حصّن نفسه جيداً خلف مواقف مدروسة بعناية مستنداً إلى تجربة صديقه وزميله الرسام بيكاسو المشابهة لتجربته، معتبراً نفسه وكتاباته درب العبور من «أفق رجل واحد إلى أفق كل البشر مجتمعين»، قائلاً في «البديهة الشعرية»: «عزلة الشعراء اليوم تمحي، وها هم الآن بشر بين البشر، ها هم إخوة للبشر». وبخاصة أن قصيدة «الحرية» سرعان ما تجاوز احتضانها والاهتمام بها وترجمتها إلى لغات أخرى، الحلقات الضيقة للشيوعيين، وحتى الحلقات الأكثر اتساعاً لمناصريهم ومؤيديهم الذين كانوا كثراً في ذلك الزمان.
ومن أبرز كتابات بول إيلوار، إضافة إلى التي ذكرناها، يمكن التوقف عند «الحيوانات والبشر» (1920) و «الموت من قلة الموت» (1924) و «عاصمة الألم» (1926 وهو واحد من أجمل كتبه) و «الحياة المباشرة» (1932) و «العيون الخصبة» (1936)… وهي كلها تعكس، ليس فقط تطوره الشعري والسياسي خلال المرحلة الوسيطة من حياته، بل تعكس كذلك وإلى حد كبير، تطور المزاج الجمالي – النضالي للحياة الثقافية الفرنسية في مرحلة ما بين الحربين، تلك المرحلة التي كان إيلوار إلى جانب اراغون وبيكاسو وبريتون وأندريه جيد وسارتر، بعض أبرز أقطابها، ليشكلوا جيلاً أو أجيالاً ذات تطلعات وأعماق من الواضح أن الحياة الثقافية الفرنسية في زمننا الراهن لم تعد تعرف ما هو مشابه لها.
_____
*الحياة