قصتان.. . تاهت وجاري البحث


*رباب كسَّاب
خاص- ( ثقافات )

تاهت .. وجاري البحث

مرت من هنا.
قالوها في نفس الوقت، المرأة التي سألت كانت تتشح بالسواد، تسير متعثرة في خطواتها، في عباءتها، تقترب من واجهة أحد المحال، تغوص في عيني العارضة الخشبية التي تلبس فستاناً من الحرير والدانتيل، أفرغت دمعها وهي تحملق في الفستان، كان يشبه الفستان الذي ارتدته في آخر ليلة.
آخر ليلة! آخر مرة رأتها فيها، اشترتا الفستان من نفس المحل، كانت معها، انتقتاه معا، المتشحة بالسواد كانت تحلم حينها بينما الأخرى تشرد بعيداً، كلما جرتها لعالمها تشرد، لم يكن باستطاعتها أن تقطع شرودها للأبد، أن تعرف بماذا تفكر، أن تغرق جبينها بسائل أحمر أو بأي لون يكشف لها عما كُتب على الجبين بحبر سري لا تعرفه.
مرت من هنا.
مرة أخرى تسمع نفس الجملة، إنها تدور خلفها ولا تجدها، الصمت الذي بدأته الأخرى كان يُهلكها، تستحثها لتتحدث ولا تنطق، السماء ترسل فيضها والجو حار، الشمس تلاعبها، كانت كما الشمس لا تعرف لها حال، كل ما تعرفه أنها تشرق في الصباح وتغيب في غروب ينذر بمجيء جديد، هل ستعود وتشرق؟!
مرت من هنا.
الرحلة طالت بها، الشوارع ملتها، الأسود بات رمادياً، الجوع يقرصها، الفستان الحريري لم يعد موجوداً، اشترته امرأة ثانية، أتختفي هي أيضاً؟!
في الليلة الأخيرة استسلمت لأيديهن، منهن من جلت عنها الشعر، منهن من دهنت جسدها بكريمات، منهن من مشطت الشعر الطويل، منهن من ألبستها مشد الصدر الضيق، منهن من أحكمت غلق ( الكورسيه ) ثم ألبسنها الفستان، كانت صامتة، لم تسمع الزغاريد التي انطلقت من أفواههن، لم ترد تهنئة، آثارت ضحكهن، ظننها خائفة، كل واحدة منهن استرسلت تروي عن ليلتها الأولى، الكل يحكي، هي لا تسمع، والمتشحة بالأسود تراقبها وتغرق في أسئلة لا تجرؤ على سؤالها.
في الصباح جاء يسأل عنها، زف خبر الرحيل ولا زال طعام الصباحية على منضدة أمها لم تحمله بعد إليها، جاء يحمل لهم بشارتها دونها، أين ذهبت؟!
مرت من هنا.
الوجوه التي عرفتها دُهنت بالأسود، القار على ملابسهم هم وأرصفة الشوارع جزء لا يتجزأ، النداءات لم تختلف، منذ العام الأول، ثلاثة أعوام لم يعرفوا عنها شيئاً، ثلاثة أعوام وذات العباءة السوداء تدور في الشوارع بحثاً عنها، تتوقف عند واجهة المحل الذي اشترتا منه الفستان الحريري، لم يضعوا آخر يشبهه.
تزوج عريسها بأخرى، حملوا له طعام الصباحية ففتحت لهم العروس الجديدة الباب برداء شفاف أبيض، أخفت عنهم بشارتها، ضحكت بميوعة واختفت في مطبخها الجديد، جاءت بصينية الشربات.
تزوج وكف عن البحث عنها في كل الشهور، اختفت في يناير، بل اختفت في مارس، بل في أكتوبر، المرأة التي ترتدي الأسود تؤكد أنها اختفت في نوفمبر، لكنه كف عن البحث، جاء بأخرى لا تتركه في الصباح وبشارتها على منديله الأبيض وملاءة السرير البيضاء.
مرت من هنا.
قالها البائعون الذين سكنوا الشارع فمنعوا المارة والسيارات، قالتها الأرصفة التي جلست عليها تأكل علبة كشري صغيرة وضحكاتها كانت تشق السماء طائرة على بساط الأمل، قالها الجالسون على المقاهي يحتسون القهوة وينفثون دخان نراجيلهم وسجائرهم الرخيصة، قالها ركاب المترو، البائعون الجالسون عند مدخل المحطة لمغلقة، برامج التليفزيون التي تبارك العرس الجديد، قالتها ذات العباءة السوداء بغير يأس وهي تتأمل حذاءها البالي من كثرة البحث.
وضعوا في يد صاحبة العباءة جنيهاً، بقايا ساندويتش، ألقت ما وضعوه في وجوههم وهي تسب وتلعن، تتركهم والدهشة تمتطي وجوههم وتمرح، أمام واجهة المحل نظرت إلى فستان جديد ولم تفرح، دمعة عانقت المطر، تركت الطرحة تنحسر عن شعرها الطويل، شقت العباءة فانفتحت، أعطتهم دبلة ذهبية وقالت أريده، طردوها، أغرق المطر جسدها المكشوف، سمعت الألسنة التي دعت، التي سبت، التي تحسرت، هو يقول إنها رحلت في يناير هي تقول إنها رحلت قبل العمر بعمر.

______________________
اللعبة
ذات صباح أخرجت كل مستلزمات خطتها الصغيرة من دولاب ملابسها، خزانة مكتبها، من تحت سريرها.
كومت كل شيء في الليل داخل حجرتها قبل أن تخرجهم في الصباح لبهو شقتها وقد رفعت السجاجيد تاركة الأرض خالية تماماً.
لمست برودة السيراميك قدميها الحافيتين.
(البسي شبشب في رجلك ما تمشيش حافية).
لم يكن في شقتهم حينئذٍ سيراميك البورسلين أو غيره، مجرد بلاط عادي تبذل جهداً وأمها في تنظيفه، تقسم دائماً أنه أدفأ من ذلك السيراميك الذي يحوي كل ثلوج العالم.
جلست على الأرض، انحسر قميصها القصير عن فخذيها اللذين تسربت إليهما البرودة فاقشعر بدنها لبرهة لم تهتم لها.
نثرت كل شيء أمامها، قسمت الأرض قبالتها لنصفين متساويين كما لو كانت ورقة تقسمها بمسطرة، وضعت في كل قسم ما قررت أن يكون له.
ترفع عينيها نحو الشباك، تطالعها النخلة العتيقة التي لم تأتِ يوماً بثمر.
– (هي ليه يا ماما النخلة دي مش بتجيب بلح؟
– دي نخلة دكر يا حبيبتي.
– يعني إيه يا ماما نخلة دكر؟
– هو في راجل بيجيب عيال؟)
ابتسمت وهي تعود مرة ثانية لحاجاتها الملقاة أمامها ولسان حالها يردد: بس بيبقى سبب في إن الستات تجيب عيال يا ماما وساعات بيبقى زي البيت الوقف.
يرن الهاتف صرخت: نسيت أقفل الموبايل مش عايزة أسمع صوت حد.
تتطلع لاسم المتصل، تتمالك أعصابها وهي ترد: ألو.
كلمات قليلة أغلقت بعدها الخط وهي تقول: مش وقت حفلات ولا ندوات.
كل الهواتف تتفق عليها يرن الهاتف الأرضي لم تعرف رقم المتصل، تمسك بأعصابها التالفة مرة أخرى وهي ترد: ألو.
أغلقت الخط هذه المرة وهي تسب وتلعن وتقول بصوت عالٍ: بعد دا كله بيقول لي حب، حبه برص البعيد، هو نسي عمل إيه ولا إيه؟!!
نزعت سلك الهاتف قبل أن تعود لأشيائها، فردت جسدها واستلقت على بطنها وهي تقوم بتقسيم كل شيء وتصنيفه.
لاحظت أن بلاط الأرضية يصلح للعبة السيجا.
(كانت تختفي وصديقاتها في المدرسة أسفل منضدة المعمل الكبيرة يلعبن السيجا في حصص المجال الصناعي والزراعي).
تركت ما كانت تفعل وانتقت من أشيائها أوراقاً ومشابك بدلاً من الأحجار والعملات المعدنية التي كانت تلعب بها، رصتها على البلاط ولا عبت نفسها السيجا.
غريمتها فازت عليها، غضبت، سبت ولعنت، ألقت بكل شيء أمامها في عصبية، وبضربة قدم واحدة أطاحت بما رتبته أمامها ناسية أنها من غلبها!!
امتدت يدها لحقيبة يدها الكبيرة، غاصت داخلها بكفها الصغير، أخرجت مسدساً يماثل كفها صغراً، فكرت كثيراً أن تشتريه لكنها لم تكن تعرف كيف، بات من السهل الآن اقتناء أية أسلحة، أخبرت الجميع أن سكنها وحدها ورجوعها ليلاً بمفردها بحاجة إلى حماية في ظل ظروف انعدام الأمن، البعض أشار عليها باستخدام (self defense) وآخرون اقترحوا الصاعق الكهربي، لكنها أصرت على مسدس جاءها بلا مشقة.
من اشتراه لها أعطاها بعضاً من طلقات الرصاص وعلمها كيف تستخدمه، لم تكن تريد غير طلقة واحدة، تعرف وجهتها تماماً.. بين عينيه.
لم تفكر من قبل في قتله لكنها لا بد أن تتخلص منه الآن حتى يكفوا عن استنساخه، جميعهم يحملون وجهه، جميعهم يحملون جيناته.
شحذت روحها بكل الماضي، استخرجته من كل ورقة كتبتها، من كل هدية كانت منه، من قسيمة زواج وأخرى طلاق، من قميص النوم الأسود الذي يعشقه، وصوت أم كلثوم شادياً بـ”انت عمري”، من كتبهما، من كل ما كان لهما.
عند الظهر توجهت إلى مقر عمله، وقفت تنتظر خروجه، كل ركاب السيارات المارة يتطلعون بها، لم تلتفت لأحد من المتعجبين وقوفها في مثل هذا المكان المقفر.
لمحته قادماً، وقفت أمامه مباشرة، لم يقل لها شيئاً، لم يقل لها إنها أغلقت الهاتف في وجهه قبل ساعات قليلة، لم يتمكن من قول شيء وقد عقدت الدهشة لسانه وهي تصوب مسدسها في وجهه.
أطلقت النار.
في المساء كانت تهدهد غضبه لأنها غلبته في لعبة السيجا.

___________

كاتبة مصرية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *