تسنيم فهيد
(تقول أمي: إنني ولدت في ليلة عاصفة يتلاحق فيها البرق والرعد والمطر الغزير، بحثوا عن رجل من الجيران ليأتي بالداية. كان أبي مدرسًا بالمرحلة الإلزامية، خجل من الذهاب إليها. مكانته تمنعه من القيام بهذه الأعمال، في ذلك الوقت كان عدد المتعلمين بالبلدة لا يتجاوز أصابع اليدين).
“محمد البساطي” واحد من أهم كُتّاب الرواية والقصة المعاصرة وأبرزهم في الستينيات. ذلك الجيل الذي يضُم بهاء طاهر، وخيري شلبي، وصنع الله إبراهيم، وإبراهيم أصلان، ويوسف القعيد، وجمال الغيطاني. لكن “البساطي” انشغل في كتاباته بالسرد فقط، دون أن يشغل نفسه بتوجيه رسائل ما أو طرح لمشكلة معينة أو الخوض في جدل فلسفي، تلك الثيمة الغالبة على أعمال كُتّاب الستينيات.
بل يمكننا القول إنه الأديب الذي ينطبق عليه قول “بيرسي لوبوك” في كتابه الشهير “صنعة الرواية“: (هناك أدباء يبرعون في كتابة رواية محبوكة أو قصة متقنة، بدأوها من لا شيء). فـ “البساطي” أبدع في وصف التفاصيل الدقيقة لحيوات المهمشين في الأرض، وبخاصة في القرى البعيدة الغائبة عن وهج المدينة وسطوة السلطة.
الأمر الذي أكدت عليه لجنة التحكيم في الجائزة العالمية “سلطان العويس” عام 2001، عندما فاز بها “البساطي” عن فرع “القصة/الرواية/المسرحية”، عندما قالت في بيانها:
(تتسم أعمال محمد البساطي بالاقتضاب البليغ الدال سردًا وأسلوبًا ومعنى، وتتوق إلى استحداث أفق شعري رائق، يعمد إلى التجربة الاجتماعية والنفسية والسياسية فيلقي النور على الجوهري فيها، محتفظًا بما هو إنساني عام، لعرضه ضمن بنية تخيلية تمتاز بالشاعرية.
فالبساطي هو كاتب الإيماء والرمز والألوان الخفية، واللمحات السريعة.. بحيث تقتضي أعماله حضور القارئ وإسهامه في القص).
إله السرد..
(لا يستمر الوله طويلًا. سرعان ما انتهت أيام العرس القليلة ولم تعد العروس تظهر على السطح، كانت تمضي النهار مع زوجها في الغيط. أراها بعد العصر قادمة إلى بيت الأستاذ، تسأل زوجته قليلًا من الملح أو نقطتي زيت، فالرز على النار. ولم تجد الوقت لتشطف وجهها وقدميها من الطين والغبار، أو حتى تغير جلباب الشغل المرقع، تقف هامدة مستندة بذراعها لحلق الباب وقد اختفى التورد من خديها، وحل بهما شحوب وبقع صغيرة بيضاء. ينتبه الأستاذ من استغراقه في قراءة الجريدة، يُحييها بكلمتين ويسأل عن زوجها. تقول: بخير. تناولها زوجة الأستاذ ما طلبته وتمضي).
ينتمي عالم “البساطي” إلى الأدب الإنساني المحض، القائم على تعرية الروح الإنسانية ورصد حياة الإنسان في مدارات معينة، يستشهد فيها الكاتب بالواقع الذي عايشه وما عرفه من جوانب وممارسات. فكان أدب القرية هو الفضاء الرحب الشاسع الذي شد “البساطي” إلى براثنه، فعلق به وصار ثيمته الأساسية.
أما فضاء المدينة فكان مدارًا استثنائيًا، دار فيه الكاتب قليلًا، كما دار أقل في فضاءات الاغتراب. فكتب في نزعات فنية خاصة، احتوت على شيء من التجريب والتأريخ والغموض والأسطورة الشعبية الدارجة، والاحتفاء باللغة الشعرية الحكائية الخالصة وما برع فيه من أساليب وتقنيات سردية مميزة.
حتى إن القارئ المُطالع لعمل “البساطي” والمتتبع له، قد يرى أن لقب “إله السرد” في الرواية والقصة -ذلك اللقب الذي أطلقه الروائي الكبير “إبراهيم عبد المجيد” على الروائي “أشرف الخمايسي” في أثناء إحدى المناقشات لروايته الأخيرة “انحراف حاد”- يليق أكثر بذلك الأديب الذي انشغل فقط بالسرد وبتكثيف المشهد السردي في أعماله الأدبية. فلقد كان “البساطي” يمتلك أدوات ومفردات بلاغية ثقيلة. فتميّز كـراوٍ متمكن من قدرته على الحكي المتدفّق المتولد من لا شيء، كشهرزاد في “ألف ليلة وليلة”.
واتفق النقاد على أنه كان “يمتلك ماكينة سردية متجددة على الدوام، مقاومة للصدأ وعوامل التعرية“. ورأوا أنه ينتمي أو يسير على خط الروائي الأمريكي “إرنست همنغواي”؛ ذلك الخط الكتابي المعروف بـ “نسق جبل الثلج العائم”، الكاشف عن رؤية الكاتب المختزلة في جزء صغير ظاهر على السطح، بينما بقية المعادل الموضوعي الرئيس يختبئ تحت ركام الماء المجازي.
(كان “سيد” الحلاق يفتح دكانه بعد صلاة الفجر، يكنسه ويرش الماء أمامه، ويجهز أدواته، ويلمع المرايا، ثم يتناول فطوره ويجلس في انتظار الزبائن الذين يُبكرون بالذهاب إليه لحلاقة ذقونهم قبل أن يتجهوا لأعمالهم. كان قد حكى من قبل أنه تنقل في عمله بمدن القنال، وحلق ما يقرب من خمسة آلاف رأس إنجليزية، وحين تجمع معه ما يكفي لفتح الدكان عاد للبلد.
ويومها سأله واحد من الجالسين ضاحكًا: إن كان وجد فرقًا بين الرأس الإنجليزية والأخرى المصرية؟
ورد “سيد” جادًا: “لا فرق”.
وصار رده مثلًا على لسان أهل البلد، يرددونه بنفس الجدية).
ويأتي القطار، المكان أولًا..
“ويأتي القطار” واحدة من الأعمال الأدبية التي يصعب تصنيفها، فبالرغم من أنها مصنفة كرواية، إلا أنها أيضًا، تصلح بامتياز أن تكون متوالية قصصية مكونة من 29 قصة قصيرة.
على لسان الراوي، ينسج “البساطي” روايته التي تدور أحداثها في مسقط رأسه، في قرية الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة في محافظة الدقهلية. تلك القرية التي أثّرت فيه أيّما أثر، وقال عنها في حوار صحفي لجريدة القدس العربي:
“الجمالية دقهلية.. هذه القرية يحتفظ بها المرء في ذهنه، احتفاظه بقسمات الروح، التي تدفعه إلى الحياة والتمسك بها والاستمرار فيها، هي البيئة الأولى، والأماكن الأولى، والناس والعلاقات وأحن إليها دائمًا، وأشعر بأنها عالم انقضى، أسعى للتمسك به، قبل فراره، وأستدعيه كلما حاولت مشاغل الحياة إطفاءه“.
الرواي، يحكي قصته أو سيرته الذاتية، منذ ليلة ولادته وحتى مغادرته للقرية متجهًا إلى القاهرة للالتحاق بكلية التجارة. فنراه وهو يتطرق بخفة وسلاسة منقطعة النظير إلى الحديث عن كل أهالي القرية. حتى إنه ودون أي مبالغات، أدخل القارئ إلى كل البيوت المقفولة بالأسرار على أهلها. فتحها لنا وتركنا نتجول فيها ونفتش تحت الأسرّة وبين أكوام الملابس وفي حظائر الدجاج والحمام وفوق الجرن الذي تحول بقدرة قادر إلى “سينما”، وأخذنا معه إلى المولد وشهدنا اختلاف الإخوة على توزيع الذهب والأرض بعد وفاة كبير الأسرة.
سمعنا مع البساطي القيل والقال وحضرنا جلسات النميمة التي تقول فيها النسوة كل تفاصيل الزواج وليلة الدخلة في القرى ذات الأعراف والتقاليد التي لم تبل. كما خبّرنا عمّا لحق بالصيادين الآتين من بورسعيد، وقت أن أحرق الإنجليز أعشاشهم ومراكبهم.
حكى القصة وكأنها حكاية عرضية، أو تفصيلة لا تهم أحد. لكن، هذه التفصيلة التي ضفّرها في متواليته القصصية، أصابت وترًا من نفسي وأجبرت روايات مشابهة أخرى أن تتجلّى أمامي، يوم أن هُجّر أهالي مدينتي الباسلة قسرًا، إلى البلاد المجاورة بعد نكسة الـ 67، وكيف اعترى الخوف أهالي هذه البلاد والقرى وظنّوا أن “اليهود جايين ورانا”، وكأن الحرب مع “اليهود” تخص أهل خط القناة وحدهم، وثأر اليهود مع أهل القناة فقط.
(نظر إليهم العمدة ثم سألهم عن مكانها. – تحت بورسعيد. – تحتها فين؟. مسح واحد منهم الأرض الرطبة بكفه وحفر بظفره خطوطًا. هنا بورسعيد. وهنا الديبة. وده البحر، ودي بحيرة المنزلة..
– لم أسمع بها. – خير؟!. قال واحد منهم: إن الإنجليز أحرقوا عششهم وشباكهم وطردوهم.
– الإنجليز؟ وما جاء بالإنجليز إليكم؟ ربما فعلتم شيئًا؟. – وماذا سنفعل؟ طول عمرنا في حالنا أبًا عن جد، نعيش في حالنا. ثم سألهم العمدة: ولماذا بلدتنا؟ جئتم رأسًا إلينا؟. قال أبو الذقن الصهباء، مررنا بشطوط أخرى. وما منعكم عنها؟. – قالوا: قلنا لو وجدنا شطًا خاليًا، نهبط.
ي هذه الرواية أو المتوالية التي ارتأى النقاد أنها سيرة ذاتية للكاتب، عثر “البساطي” -وهو كاتب قصة قصيرة كما سبق واعترف: «القصة بيتي، مهما تعدّدت زياراتي للرواية»- على جوهرته السردية المنشودة في هذه الصفحات القليلة المتتالية والمشاهد السردية المكثفة، التي تقوم عليها الروايات القصيرة، إلى درجة تسمح لبعض النقاد بإعادة درس رواياته عبر هذا المنظور الجمالي والأسلوب السردي المتقن.
التقرير