*محمود منير
لم يأت اغتيال فرج فودة (1945 – 1992) مصادفة قبل ثلاث وعشرين سنة في مثل هذا اليوم، إذ جاءت حادثة مقتله إشارة على أفول حلم الدولة المدنية في وطننا العربي – الذي مات دفاعاً عنه – على إثر صعود التيارات الدينية في ثماننيات القرن الماضي؛ لذلك يمكن النظر إلى تجربته باعتبارها عنواناً لرفض الاستبداد بأشكاله كافةً. وقع صاحب كتاب “الإرهاب” في مغالطة كبرى حين ظنّ أن رفضه يجب أن يوجّه لحركات الإسلام السياسي عامة، والمتشددة منها خاصةً، بينما كانت السلطة السياسية نفسها هي الأولى بالاحتجاج عليها بسبب أخطائها المتراكمة؛ غياب العدالة الاجتماعية والقانون والمواطنة، عوامل أساسية أدت إلى تقاسم النفوذ؛ نظام محتكر للثروة والقرار، ومجتمع تقبض عليه القوى الدينية، وربّما هذا ما ظهر جليّاً في السنوات الخمس الأخيرة. يستحق الرجل الذي قال “لا” التنويه لشجاعته، وهو ابن الريف المصري الذي اختار أن يدرس العلوم الزراعية، وينال دكتوراه في الاقتصاد الزراعي إلى جانب تخصصه في الفلسفة، وهو الذي حارب الخرافة وتوظيفاتها الاجتماعية في بيئة مفقرة ومجهلّة، وهو الذي تشكّل وعيه على أثر هزيمة حزيران 1967، فانطلق وراء مغامرته أملاً بتحرير العقل لا استعادة الأرض فحسب.
مغامرة جعلته يعتقد أنها ستقف عند حدود السجال المعرفي والاختلاف في الرأي، ولم يخطر بباله أن تتحالف ضده المؤسسة الدينية الرسمية ممثلةً بالأزهر ومعها جماعة الإخوان المسلمين، ويمارسوا ضده أخطر صنوف التحريض لدى انعقاد مناظرة “الدولة العلمانية والدولة المدنية”، التي نظمتها “الهيئة العامة للكتاب”، وشارك فيها كل من محمد الغزالي عن الأزهر، ومأمون الهضيبي عن الإخوان، مقابل فرج فودة ومحمد خلف الله عن حزب التجمع، وأدارها سمير سرحان، ليغتال فودة عقبها بشهور فقط! تشبث الغزالي حينها بأفكار المؤامرة ضد أمتنا وتراثنا بقيادة الاستعمار الذي أنتج “شخصيات مشبوهة تبتعد عن تراثنا”، وبشّر بـ”عودة الإسلام إلى أهله”، وغيرها من المقولات التي كانت تهدف حينها إلى إلغاء أطروحات صاحب “نكون أو لا نكون”، وقد فُهم ذلك في سياق التشهير بفودة كما أشار الكثير من المتابعين والصحافيين آنذاك. ملاحظة تمثلت باصطفاف “جماعة الإخوان”، رغم حظْرها سياسياً في عهد مبارك، إلى جانب “إسلام السلطة” ضد الدولة المدنية، في تلك المناظرة، مع ملاحظة أن الجماعة عادت عن أفكارها السابقة، لدوافع سياسية، في منتصف العقد الماضي، وأيّدت خيار الدولة المدنية! دافع فودة طوال أكثر من عقدين عن خياراته، لكن لدى مراجعة أفكاره، نجد أنه مشروعه كان سياسياً لا فكرياً في جغرافيا ومرحلة تاريخية لا تقبلان هذا النموذج في السياسة. إذ أراد تحييد التيارات الدينية لتأسيس دولة المواطنة، محاوِلاً أن يعرض حلولاً عملية تشبه البرامج التي تتنافس الأحزاب في أوروبا بناءً عليها، في إطار ردّه على الشعارات الفضفاضة التي تنادي بها حركات الإسلام السياسي. خارج اجتهادات رجل العلم، التقط صاحب “الحقيقة الغائبة” المفارقات اللامنتهية التي وقعت بها مؤسسة الحكْم منذ انتهاء الخلافة الراشدة وحتى عصرنا الحالي، لكنه نظرته بقيت محصورة بنقد الاستبداد من دون البحث معمّقاً في خطاب السلطة والصراع بين مكونات المجتمع وتحوّلاته الظاهرة والمستترة. اغتيل فرج فودة أمام “الجمعية المصرية للتنوير”، التي أسسها، عن حلم بدولة تقدّر كرامة مواطنيها وعقولهم ولا تبقيهم أسرى للغيْب والإقصاء.
______
*العربي الجديد