*محمد ولد محمد سالم
كانت ملكة أبيض عائدة من بروكسل إلى حلب في إجازة الصيف من السنة الثالثة الجامعية، عندما فوجئت بذلك الشاب المدرس المثقف الذي دخل بيت أهلها ليقدم دروساً إلى أخواتها، وتعرف إلى أفراد أسرتها وأصبح كأنه واحد منهم، كان اسمه سليمان العيسى ، وقد بدأ صيته يلمع في حلب كمدرس جيد وشاعر مقتدر
وجدتْه مفعماً بالثقافة والوطنية، له ماض قوي في النضال ضد الانتداب الفرنسي، حيث كان قد دخل السجن لمناهضته للاستعمار، ووجدها فتاة ذكية طموحة تخوض تجربة الدراسة في دولة غربية، تحلم بخدمة وطنها وأمتها والمساهمة في نهضتهما، فكان التعارف بينهما على بساط الثقافة والوطنية والقومية، وبدأ بينهما حوار ثقافي متصل أفضى إلى خروجهما معا إلى الندوات الثقافية والمحاضرات والمكتبات والأنشطة الثقافية التي كانت تقام في المدينة، أعجبت بحماسته الوطنية، وسعة ثقافته، ولم تلبث تلك العلاقة أن تطورت إلى علاقة حب، واتفاق على الزواج الذي تم عام 1950.
اقتنعت بموهبته وقدراته الأدبية الرفيعة، فأرادت أن تكون إلى جانبه تساعده في تأدية رسالته الأدبية، وزرع هو في داخلها التفاؤل والأمل في المستقبل، وبعد أن كادت تتخلى عن مواصلة الدراسة الجامعية، فإنه شجعها على ذلك، وتولى عنها مهام تربية الأولاد في الفترات التي كانت تغيب فيها للدراسة أو البحث، ما أعطاها دفعاً قوياً للبحث والتأليف والتدريس، فاستطاعت أن تحصل على الماجستير في التربية من الجامعة الأمريكية في بيروت، ودكتوراه الدولة في التربية من أمريكا، وأنجزت عشرات الكتب العلمية في علوم التربية والاجتماع والنقد الأدبي، وعدداً لا يحصى من الدراسات والبحوث التي نشرت في مجلات محكمة.
في الخمسينات، كان أوج المد القومي وكانت قصائد العيسى القومية النضالية تسير في آفاق الوطن العربي ويتجاوب معها الشبان العرب في جميع أنحاء الوطن العربي، خاصة في فلسطين والجزائر، وأثناء ذلك زار الشاعر المناضل الجزائري مالك حداد سوريا لجمع الدعم للثورة الجزائرية، وكان حداد يكتب بالفرنسية وحدها، فأرادت ملكة أبيض أن تعرّف الساحة السورية والعربية إلى أشعار ذلك المناضل الصلب والشاعر المبدع، فشجعها العيسى على ذلك وراجع لها نص الترجمة وشذبه، فخرج أول كتاب مترجم بالتعاون بينهما، ديوان «الشقاء في خطر» لمالك حداد، وأعادا الكرة مع رواية «نجمة» للجزائري كاتب ياسين، وكذلك عدد من المسرحيات الفرنسية، وفي تلك الفترة أصدر العيسى ديوانه الشهير «صلاة لأرض الثورة»، وظل العمل المشترك في الترجمة متصلاً بينهما لفترة طويلة.
أما على مستوى كتابة الشعر، فقد ظلت ملكة أبيض إلى جانب زوجها توفر له الظروف الملائمة للإنتاج الشعري، وتشجعه، وتقدم له الرأي النقدي الحصيف، وتدفعه إلى مواصلة طريقه، وقد خصصت جزءاً كبيراً من وقتها لتنظيم إنتاجه الأدبي وتصنيفه، وتوزيعه إلى موضوعات، فأخرجت له: ديوان فلسطين، وديوان اليمن، وديوان الجزائر، وديوان المرأة، وكتبت مقدمات تلك الدواوين، وقد أثرت الدراسات المتعددة التي أنجزتها حول شعره، سواء ما كان منه شعراً عاماً أو شعراً موجهاً للأطفال، في مسيرته الشعرية، وأسهمت في التعريف به، وإقبال الناس على قراءته، وشجعته بشكل خاص على مواصلة طريق الكتابة للأطفال التي اكتشفت براعته فيها، من حيث قدرته على الصياغة الجمالية المتميزة، مع الإيقاع الجذاب، والهدف الواضح، وهي شروط كافية للكتابة الجيدة للطفل، وأسهم تشجيعها، في تخصصه في أدب الأطفال، حتى أصبح واحداً من أكثر الشعراء العرب الذين تخصصوا في شعر الأطفال، وأثروا في صناعة قيم أجيال كثيرة عن طريق القصص والمسرح الشعري، ومن أغزرهم إنتاجاً، ومن أشهر مؤلفاته للأطفال: «أعاصير في السلاسل» 1954، و«رمال عطشى» 1957، و«الدم والنجوم الخضر» 1960، و«أمواج بلا شاطئ» 1961، و«أغانٍ صغيرة» 1967، و«أغان بريشة البرق» 1971، ومسرحية «المستقبل» 1969، ومجموعة «نشيد الحجارة» 1988، واللائحة تطول.
_______
*الخليج الثقافي