الفتاة المختفية.. الرواية المناقضة لمجرى الأحداث




* مهند النابلسي

خاص- ( ثقافات )

خلطة جديدة إبداعية لأنماط “هيتشكوك وكوبريك وسودربيرغ”
فيلم “جريمة” تشويقي غامض من إخراج ديفيد فينشر وسيناريو الكاتبة جيليان فلين، مقتبس عن “البست سيلر” الأكثر مبيعا بنفس الاسم في العام 2012، من بطولة كل من بن أفليك وروساموند بايك، ونايل باتريك هاريس، وتايلر بيري وكاري كون.
في الذكرى الخامسة لزواجهما، يعود نيك دون (أفليك) لمنزله ليجد زوجته آمي (بايك)، وقد اختفت دون أثر…وتنطلق الإشاعات الصارخة بأن نايك قد أقدم على قتل زوجته “المحبوبة” وإخفاء جثتها، وتحيط الشبهات بسلوكه وشخصيته “غير الاجتماعية”!، وبالفعل كان زواجهما قد تعرض مؤخرا لصدمات حادة، حيث فقد كلاهما عمله بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 2008، واضطرا للتنقل من ولاية نيويورك لولاية ميسوري، على أثر معرفة نيك باستفحال سرطان الثدي الذي أصاب والدته، ومنذ ذلك الحين أصبح نيك “كسولا ومنعزلا وغير مخلص”!.
تشك المحققة المثابرة روندا بوني (ديكنس) بنيك، وتكتشف تدريجيا أدلة على تورطه بمشاكل مالية كبيرة، كما تكتشف خوف آمي منه ورغبتها باقتناء مسدس صغير، كما تلتقط أدلة مثبتة على وقوع شجار كبير بينهما ووجود دماء في المطبخ (تفتعل آمي نزيفا “كبيرا” وتضرب عظم وجنتها بمطرقة)…على خط مواز نلاحظ بعد مضي ثلث الفيلم أن آمي تمكنت ببراعة من “فبركة” موتها، بهدف تعريض نيك للشعور بالذنب والانتقام من خيانته وجحوده، ومضت قدما “كالنملة المثابرة” بخطتها المحكمة، فنجحت بتغيير معالم شكلها، واختفت بـ “مخيم مخصص للمشردين” بعيدا، لتتابع الأخبار بواسطة الصحافة والتلفزة، واثقة من سلامة خطتها، وبأن نيك سيدان بتهمة القتل ويعدم.
ولكن الخطة لا تسير كما يجب، فيقدم جيرانها “المشبوهين” على سرقة مدخراتها من الدولارات، فتلجأ لتغيير الخطة وتستدعي صديقها السابق “ديسي كولنغ” (هاريس)، الذي سبق ورفعت ضده أمرا قضائيا “تقييديا” بحجة محاولاته للتحرش بها، فتستغل بخبث ولعه وإعجابه بها، لتقنعه بسهولة أنها هربت ناجية بحياتها خوفا من نيك، فوافق بسرور على إخفائها وحمايتها بمنزله الفخم الآمن على أطراف البحيرة.
بالمقابل يقوم نيك باقناع شقيقته التوأم مارغو (كون) ببراءته، كما يستخدم محاميا “متخصصا بالدفاع عن الأزواج المتهمين بقتل زوجاتهم” ويدعى تانر بولت (بيري)، ثم تتطور الامور بشكل غير متوقع فتقوم تلميذة وعشيقة نيك المراهقة بشكل مفاجىء وبمؤتمر صحفي بكشف خفايا وأسرار علاقتها الآثمة مع نيك، طالبة الصفح والغفران (لا نفهم كيف تقوم هذه المراهقة بزيارته لمنزل شقيقته وممارسة الجنس معه بلا محاذير)…ولكن هذا لم يمنع نيك من الظهور بثقة طالبا الصفح لخيانته، ولكنه يقسم ببراءته من قتل زوجته، وينجح بإقناع الميديا والمشاهدين، فيلعب ظهوره هذا وطريقة كلامه التلقائية دورا مؤثرا على آمي التي تشاهده بدورها، وتتأثر كثيرا فتحن له وترغب بأن تصفح عنه.
وتستمر، آمي، “بدورها” بتطبيق خيار جديد في خطتها “الشيطانية” الماكرة، فتجهز نفسها لإغراء ديسي “المسكين” ثم تقطع عنقه بسكين حاد أثناء ممارسة الجنس معها، وتهرع للمنزل مغطاة بالدماء، مدعية بأن ديسي قد خطفها وأقدم على اغتصابها، وبذلك فهي تعطي لنيك صك البراءة علنا، ولكنها تفصح لنيك بحقيقة ما جرى دونما خوف…وبأنها ترغب بأن تفتح صفحة جديدة مع زوجها لتعود الأمور لمجاريها!.
ولكن نيك يجد صعوبة بإثبات هذه التهم على آمي بالرغم من اطلاع كل من بوني، بولت ومارغو على حقيقة ما جرى، ويصر نيك على ترك آمي وكشف أكاذيبها وغجرامها للجميع، ويفاجأ بأنها قد أصبحت حاملا، بعد أن استخدمت سائله المنوي المخزن بعيادة الإخصاب، فيتفاعل نيك رافضا ومصدوما ويعنفها، ثم يرضخ للأمر الواقع شاعرا بمسؤوليته تجاه الطفل المتوقع بالرغم من اعتراض شقيقته التوأم مارغو، هكذا يظهر هو وآمي معا على الملأ ليعلنا استمرار زواجهما وانتظارهما لطفل!.
نال هذا الشريط استحسان النقاد وثناءهم، وتم وصفه “بالذكاء والسوداوية”، وقد كرس عبقرية دافيد فينشر الإخراجية، ومهارات التمثيل لبين أفليك وروسا موند بايك، روعة الفيلم تكمن بكثرة التفاصيل وبالحوار اللافت المجازي، فهو يظهر وكأنه يتحدث عن الحب والثقة والخداع والخيانة والقتل، ولكنه يقدم عملا دراميا مشوقا يتحدث بعمق عن سيكلوجية “العلاقات الزوجية” وملابساتها وأبعادها الاجتماعية-العصرية.
لجأت آمي لخطة مضنية وخططت لمتاهة غامضة يصعب لأول وهلة تقصي غموضها، وتركتنا جميعا ونيك والمحققة بحيرة، حتى بادرت بالنصف الثاني من الفيلم بتحديد مسار خطتها وتفاصيل أفعالها، وبدا تمثيلها “روبوتيا” باردا، كما فاجأتنا ببعض الممارسات الصادمة الغريبة “كالبصاق في كأس عصير صديقتها”، وطريقة تخطيطها وفبركتها لعملية “الاغتصاب” المخطط لها بذكاء، ومن ثم إقدامها بوحشية “غير متوقعة منها” على قتل صديقها القديم، الذي وثق بها ووفر لها ملاذا آمنا…كما بدت بطريقة تفكيرها لئيمة وخبيثة وانتهازية، فهي تحتقر جارتها الساذجة الحامل، وتسخرها لتنفيذ مآربها الخبيثة، بالمقابل ظهر بن أفليك كشخص لا مبالٍ عابث وتلقائي، ولم يقنعنا بموهبته وعمله كمحاضر بالكتابة الإبداعية، كما بدت علاقته الحميمة مع شقيقته “التوأم” مثيرة للشكوك ومبالغ بها!.
أرهقنا المخرج بكثرة انغماسه بالتفاصيل اللاهثة، ولم “يجمل” شريطه بمناظر بانورامية “جمالية” لمواقع الأحداث، بل أدخلنا قسرا لمتاهة “بوليسية-سيكلوجية” معمقة، دون أن يعطينا الفرصة لالتقاط الأنفاس والاستمتاع بالمشاهد السردية، وبرع بالحق بتصوير مشاهد العنف والقتل بالفيلم، فظهرت خاطفة ومعبرة وانطباعية، بعيدا عن الاستعراض والفذلكة، ويبدو وكأنه يتماثل هنا إبداعيا مع أسلوب هيتشكوك اللافت (كما أن فكرة إلصاق التهمة بشخص بريء هي فكرة “هيتشكوكية” بامتياز)! وأعتقد (وربما كنت مخطئا) أنه استفاد من أسلوبي كوبريك وسودربيرغ (بفيلمي عيون محدقة باتساع والأعراض الجانبية، بهذا الفيلم الأخير تدعي البطلة “المدمنة والجشعة المتآمرة” أنها قتلت زوجها بالخطأ وهي تحت تأثير حالة “المشي أثناء النوم”!)، وربما تفوق عليهما بإدخاله لدور الميديا والتلفزة بتزييف الوعي الشعبي والمبالغة والتضخيم الإعلامي ونشر الشائعات، فخرج بملحمة “سيكو- اجتماعية” بوليسية فريدة من نوعها.
__________
*ناقد سينمائي من الأردن. 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *