المصعد


جميلة عمايرة*

حينما خرجت المرأة، ذلك الصباح الماطر، لم تكن لتدرك، حتى وفي أسوأ كوابيسها السوداء الليلية، أو في خيالاتها الجانحة والمنفلتة من أية قيود، أن هذا هو ما سيحدث لها، وأمام عينيها، اللتين لابد وأن أغمضتهما باستسلام، ومن دون مقدرة منها على تغيير مساره أو تعديل انحرافه، لتنجو! 

حدث الأمر بثوان قليلة. يد عمياء، يد سوداء امتدت من داخل البئر ضمن أياد أخرى، أطبقت على فمها لتحبس صرختها في جوفها، وتقودها في الظلام الذي أطبق فجاة لمرة واحدة وأخيرة. *** تناولت إفطارها الخفيف: قطعة خبز صغيرة، مربى المشمش مع مكعبات زبدة. ودلقت سريعا في جوفها فنجان من القهوة «بلاك» بلا سكر أو مسحقوق الحليب وخرجت. في الطريق ركنت سيارتها في موقف للسيارات، وتابعت سيرها متجه نحو قلب المدينة، حيث يقع مكتبها الذي يتبع إحدى الجهات الحكومية. 

كانت ترغب بالوصول مبكرة لعملها لتعود مبكرة أيضا، وتكون في مسيرة لاعتصام يقيمة «مجمع النقابات المهنية» نصرة لشعب شقيق مجاور يسفح دمه ويسيل أمام الجميع، من دون أن يأبه أحد به وبما سيؤول إليه في النهاية التي تراها دامية لا محالة. أخذت تسير بهمة بين المارة المهرولين مثلها واللاهثين للوصول لأعمالهم قبل الثامنة صباحا. فجأة انقبض قلبها وأحست أن ثمة ما سيحدث: شعرت بثقل في خطواتها، ثقل يشبه الوهن. 

كأنما الخطوات تريد أن تتوقف رغما عن صاحبتها. أخذت تتذكر: هذه الليلة لم يكن ثمة كوابيس رأيتها في منامي. ربما في الليلة التي سبقتها، وربما أطغاث أحلام. فلما الخوف إذن أو التوجس أو القلق؟ بدأت تبطىء في سيرها فتراخت خطواتها، لا تزال تحس بالتعب. لست بسباق. سأسير بتمهل.. قالت لنفسها. ولا يزال الوقت مبكرا. أخذ التعب ينال منها ومن خطواتها التي عادت لبتطىء أكثر. إلا أنها واصلت سيرها بأصرار. 
***
ما الذي يحدث؟ أحست بالريبة، وبما يشبه الخوف. أرادت أن تغير من مسارها نحو طريق آخر فرعي، لكن ضجيج المارة وازدحامهم دفعها لتواكب وقع خطاها مع خطوات السائرين والمارة من حولها، بين موظفون لا يخفى مظهرهم أمام عيونها المتفحصة في مؤسسات حكومية هرمة يعبث بأقسامها روتين ممل، يقتل أية مباردة لموظف نشيط يطمح للتطور والتقدم، وعمال من جنسيات لا تعرفها بدأو بالتقاط رغيف خبزهم في طرقات مدينة «الحب الأخوي»، نحو مؤسسات انطلقت بمشاريع مبشرة إلا أنها سرعان ما توقفت لتتكشف عن فساد أضاع أية فرصة للنهوض بها نحو الحلم. فساد نخر الرأس وامتد للجسد منها فلم يبقى وراءه شيئا! لا تزال تواصل سيرها مع الجموع، فيما العربات الصغيرة والكبيرة تسير بسرعة عالية وهي تطلق أبواقها بسبب وبلا سبب، وبغياب واضح لشرطي المرور الذي رأت كوخه فارغا.

 امتدت خيوط الخيفة حولها أكثر: خيوط عميقة متداخلة، أحست أن أيد خفية تعود لقوى غامضة نسجتها حولها فتقيد روحها قبل خطواتها في صباح بارد وموحش. بدأت تتداخل خيوط الريبة والشك وتتزايد، فتثقل قدميها لتغدو خطواتها بطيئة ومتراخية وضعيفة، حتى الهواء البارد المنعش الذي تحب السير خلاله في طرقات المدينة الهابطة نحو القلب منها، قلب المدينة التي تحب، في صباح ماطر ودافىء لم يبدد خيوط الشك التي بدأت تحكم خيوطها بقوة حولها. كأنما هي في كمين نصب لها، في شرك لا تملك له ردا أو دفعا أو تأجيلا بل وتسير إليه بقدميها. وصلت المكتب. كان عرقها يتصبب من جبينها ومن كل جزء من أجزاء جسدها، تلك المتوارية عن الأعين تحت ثيابها القطنية الثقيلة. خلعت معطفها الصوفي وعلقتة وهي تعلن لزملائها بفرح: خرجت مبكرة ووصلت هنا سيرا على الأقدام. تناست كل شي رأته أو أحست به في طريقها، تجاهلته تماما وأبعدته عن تفكيرها، واستغرقت بشوؤن العمل وحكايات الزملاء والزميلات التي لا تنتهي. قبيل انتهاء دوامها بقليل، وكما يحدث كل يوم، سارع زملاؤها وزميلاتها إلى الخروج للحاق بالحافلة التي ستقلهم لبيوتهم قبل اشتداد زحمة السير التي تبلغ ذروتها بحلول وقت انتهاء الدوام. كانت تتأخر قليلا برفقة العامل، تتفقد الإضاءة، وتغلق النوافذ وتطمئن على كل ما يتعلق بالعمل وتخرج. 

هذا اليوم كان العامل في إجازة. «هل ثمة تواطؤ ما ضدها»؟ اعتادت أن تفعل هذا وغيرة من دون دوافع أو رغبات دفينة. حرص يستهزئ منه الكثير من زملائها، وحتى اصدقائها حينما تسرد على أسماعهم ما تفعلة. جملة واحدة تبقى ترن في رأسها من بين الجمل والتعليقات المازحة وغير المازحة التي تسمعها دائما «ع بال مين يلي ترقص بالعتمة»! لكنها لم تأبه لها، بل كانت تضحك. أغلقت الباب وراءها. الحاسوب يتدلى من كتفها ليصل إلى منتصف خصرها، والحقيبة في يدها الأخرى، والهاتف في داخلها. تهم بإغلاق الباب بالمفتاح، عيناها مصوبتان نحو المصعد الذي يبعد عنها خطوات قصيرة، فيما رن الهاتف رنة واحدة وتوقف. تعرف أن المصعد لا ينتظر أحدا، او يأبة لطلب تأجيل، فيتريث. يصل بثوان معدودة ليغادر بثوان قصيرة تشبه ثواني المجيء. تجاهلت الهاتف. سارعت نحو جرس المصعد وطلبته. لاحظت ارتجاف أصابع يديها الاثنتين. تفاجأت وهي تشعر بارتجاف المصحوب بالخوف يشل من قدرتها على انتظار الثواني القصيرة لوصول المصعد.

وصل المصعد وتوقف. دخلته وضغطت بأصابع واهنة زر الطابق الأول الذي ينتفتح على الشارع الرئيسي للخروج. اتبهت لخلوه من الإضاءة. دارت بخطواتها المرتبكة وهي تنظر نحو الدرج على مبعدة خطوات قصيرة منها، لكن باب المصعد سرعان ما أغلق. سادت العتمة على إثره، عتمة كيفة وحالكة. فيما تبينت ثلاثة رجال وسط العتمة يطوقونها من الجهات الثلاث للمصعد المعتم بأيدهم القوية الضخمة، أرادت أن تصرخ، لكن يد أحدهم، وكانت مغطاة بقفازات سوداء خشنة، سارعت لتغطية فمها لتكتم صرختها بداخلها. تهاوى المصعد المطفأ بهم جميها نحو قاع مظلم وسحيق. تتذكر المرأة أن آخر ما رأته بأم عينيها، وسط العتمة الحالكة، خيطا رفيعا أحمر يتدلى من أعلى المصعد تماما، مكان إضاءته المطفأة، ويلتف بخيوطه النازفة ليطوق جسدها كله.

______
*الدستور

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *