منير عتيبة*
خاص- ( ثقافات )
اسمي عوض عزت عبد المولى
وجدناه أمامنا دون أن نشعر بباب المكتب يفتح ويغلق. تنحنح. نظرنا إليه في وقت واحد. حاولنا أن نتذكره. لم ينجح أحدنا. نظر إلينا ببطء ورجاء. نظر بخجل في عيوننا واحداً بعد الآخر. كان يشد قامته بشكل غير ملحوظ. وكان جسده النحيل للغاية يوحي بأن القميص الأزرق ليس تحته شيء. تجاعيد وجهه تمنحه تأشيرة سن الستين. لكن ألق عينيه الموشك على الانطفاء محير.
أخيراً تذكره أحدنا:
عوض..؟
ابتسم بفرحة غامرة..
عوض عوف؟
انطفأت الابتسامة. نطق بصوت حاد متحشرج خافت. كان ينطق وكأنه خَجِل مما سيقول:
أنا عوض.. عوض عزت عبد المولى!
تذكرناه بصعوبة. لكننا طلبنا منه أن يجلس. كان الإرهاق بادياً على وجهه المتعرق رغم التكييف الذي يلطف جو المكتب. سألته:
هل تريد مراجعة أي أوراق تخص عملك أو مرتبك؟ نحن تحت أمرك.
شكراً. أنا. أنا تركت الشركة منذ ثلاث سنوات.
لماذا؟
تحجر رئوي.
تذكرته تماماً الآن. عوض عزت. الشاب الهادئ الطويل الممتلئ المفعم بالنشاط. لم أره واقفاً أو جالساً أبداً. دائماً في حالة حركة. دائماً يمد الخطو. دائماً وحده.
بعد مغادرته الشركة بعام طرأت ببال موظفي المكتب فكرة تجميع كل الصور القديمة التي تخص العاملين. كانت محاولة للقبض على الذكريات الحلوة. كانت صور الأبيض والأسود تمنحني شعوراً بمسرَّة لا نهائية. لا أعرف كيف تذكرته بعد أن تفحصت كل الصور التي تجمعت لدينا.
كل الموظفين والعمال الأحياء والأموات في هذه الصور.. واحد فقط ليس فيها.. عوض عزت عبد المولى.
طبعاً! إنه لم يكن يقف حتى ولو لالتقاط صورة.
قالها الشيخ بكر. فأطلق داود عليه اسم (الذي مر). وترك كلاً منا يفسرها على هواه.
معى كاميرا. اشتريتها الأسبوع الماضى. إنها سهلة الاستعمال. كاميرا ديجيتال محترمة.
قال عوض بفرح طفولي، ثم استعاده الخجل وهو يقول:
هل تسمحون لي بأخذ صورة جماعية معكم؟
قمنا في وقت واحد كأنه أمر من مدير كبير يجب تنفيذه فوراً. كنت أشعر بالشفقة تجاه عوض. علمت أن حالته ميئوس منها. علمت أنه لم يتزوج بعد وفاة أمه وهجرة أخيه الأصغر. لم أحاول تخيل كيف يعيش الآن. فكرت أن أسأله.
نادوا حسن الساعي.
طلب داود. فاتصل الشيخ بكر بالساعي ليلتقط لنا الصورة. بعد دقيقة كنا صفاً واحداً. كنت أقف بين عوض وداود. وضع عوض يديه فوق كتفي أنا والشيخ بكر. التقط حسن الصورة. قبل أن يعود كل منا إلى كرسيه قال عوض بسرعة:
هل تسمحون لي بصورة منفردة مع كل منكم؟
تم التقاط أربع صور لعوض معي أنا وداود والشيخ بكر وحسن. شكرنا عوض وانصرف. تذكرت أنني لم أسأله كيف يعيش الآن.
***
الإنترنت. رفيق الليل الطويل. غرف الدردشة والمنتديات والفيس بوك. عالم آخر من الحرية والصداقة الحلوة بلا مسؤولية حقيقية. لم أعد أحب الجلوس بالقهوة. كل وقت فراغي بعد العمل أقضيه ما بين النوم والإنترنت. أذاكر لأحمد وسهام. تسألني ليلى إذا كنت أريد شيئاً. أطلب منها كوب شاي بالقرنفل. تضعه أمامي على المكتب. وتذهب لتنام.
أرتشف الشاي بتمهل وتلذذ وأنا أتجول في عالم الإنترنت. أفاجأ بعوض عزت عبد المولى في كل مكان. في غرف الدردشة الأدبية والسياسية والفنية وغرف النميمة والجنس. في المنتديات بكافة توجهاتها. على الفيس بوك هو عضو في كل المجموعات التي أعرفها. له مدونة باسمه. وله مجموعة على الفيس بوك اسمها (اسمي عوض عزت عبد المولى). دخلت على مدونته. وأصبحت عضواً في مجموعته. لم يكن هناك كلام. كانت فقط صور. صور كثيرة جداً. هو في كل الصور وتحت كل صورة تعليق. عوض عزت عبد المولى أمام مكتبة الإسكندرية. عوض عزت عبد المولى مع القردة لبيبة في حديقة الحيوان بالنزهة. عوض عزت عبد المولى يأكل سندوتش فول من محمد أحمد أمام تمثال سعد زغلول بمحطة الرمل. عوض عزت عبد المولى بيده ترسة حية في حلقة السمك ببحري. عوض عزت عبد المولى مع الشيخ بكر. عوض عزت عبد المولى مع موظفي الشركة…. وكانت صورتي معه موجودة أيضاً ضمن مئات الصور الأخرى.
***
طلبت ناظرة مدرسة سهام مقابلتي لأن ابنتي ارتدت زياً مخالفاً. ذهبت للاعتذار إليها. تأخرت الناظرة. طلبوا مني الانتظار في حجرة المدرسين. فوجئت بصورة كبيرة له. تحت الصورة تعليق: عوض عزت عبد المولى مع مدرسي المدرسة.
فسر لي أحد المدرسين:
لقد تبرع بتجديد كل أثاث الحجرة مقابل وضع هذه الصورة!
هل هذه مدرسته القديمة؟
لا.
***
كان الاستعداد لمباراة مصر والجزائر على أشده. جنون حماسي يجتاح البلدين. برامج واتهامات وتشنجات ومحاولات عاقلة للتهدئة. فوجئت بصفحة كاملة في جريدة محلية. صورة للفريق القومي المصري وأخرى للجزائري وبينهما بنفس الحجم صورة له. وتعليق بخط أحمر كبير (عوض عزت عبد المولى يتمنى الفوز لفريق مصر والحظ السعيد لفريق الجزائر!)
***
طرق الباب. دخل. سلم علينا بحرارة. لاحظت أنه ازداد نحافة حتى كاد يتلاشى. وأنه يتنفس بصعوبة شديدة. طلبت منه الجلوس. شكرني وجلس قريباً من مكتبي. أخرج من كيس بيده عدة براويز ووزعها علينا. كان في كل برواز صورته مع واحد منا. ترك برواز حسن الساعي معي. شكرني لانضمامي لمجموعته على الفيس بوك.
قبل أن يغادرنا أخرج من الكيس بروازاً كبيراً به صورتنا الجماعية معه:
أستحلفكم بالله أن تعلقوا هذا البرواز في المكتب هنا. أما البراويز الأخرى ففي بيوتكم!
قصة أخرى
[إلى محمد حافظ رجب صاحب “البطل”]
1-قصة
الثالثة إلا عشر دقائق، لملم أوراقه بسرعة ورتبها في مكانها على المكتب، أسرع ليلحق بالأوتوبيس الذي يغادر في تمام الثالثة، أنزله الأوتوبيس على أول الشارع، ألقى السلام على المعلم فرج صاحب المقهى وهو يمد خطواته، حاول المعلم فرج إيقافه ليسأله عن شيء ما، لم يتوقف، أخبر المعلم فرج أنه سيعود إليه بعد المغرب ويجلسان ويتحدثان براحتهما، لاحظ تجمعاً كبيراً من أهالي الشارع أمام دكان سعيد الحاوي للبراويز، يحاولون تخليص طفل صغير؛ هشَّم بكرته بعض البراويز، من يد سعيد. واصل طريقه دون أن يتابع ما يجري، بائع العرقسوس العجوز وقف في طريقه وهمَّ بصب كوب له، لكنه لم يعطه الفرصة وأسرع مبتعداً. صعد درجات السلم قفزاً وهو يتعجب من نفسه، لماذا يشعر بكل هذا الشوق إليها اليوم؟ إنه الأربعاء، منذ أكثر من عشر سنوات استقر برنامجهما على ليلة الجمعة، يشاهدان سهرة القناة الأولى، ترتدي قميص نوم لا يلاحظ لونه عادة، يدخلان الفراش برزانة، تحرك يدها على صدره وفخذيه، تقبل شحمة أذنه، يغمض عينيه ويجوس بيديه خلال جسدها دون أن يشعر بحركة يديه، يحاول استجماع همته داعياً الله أن تمر الدقائق المقبلة على خير، تنتهي رغبته بعد أقل من نصف دقيقة من التحامه بها، يضغط على نفسه نصف دقيقة أخرى وأحياناً دقيقة كاملة حتى لا تغضب منه، لكنه في النهاية يخرج منها وقد بدأت رائحة عرقها تغزو أنفه، رائحة العرق التي لم تكن موجودة خلال الدقيقة المنصرمة، يدير كل منهما ظهره للآخر، لا ينظر في عينيها أبداً، لا يتحدث معها أبداً، يتوقع انفجاراً ما قد يطيح بحياتهما، يسرقه النوم وهي ما زالت تتقلب محتضنة مخدة صغيرة، لكنه اليوم يشعر بشوق لم يعرفه منذ دهر، ويشعر برغبة لم تناوشه منذ عقود، ويشعر بقوة لم يعرفها أبداً، إن خياله المجنون لا يزين له فقط أن يعاشرها في غير ليلة الجمعة، بل في النهار أيضاً، سيأخذها كما لم يأخذها من قبل، بمجرد أن يدخل من باب البيت وتستقبله سيحتضنها ويواقعها على الأرض، مجرد التفكير في ذلك، مجرد التفكير في أنه سيفعل ما يجعلها تتأوه، يؤجج في جسده ناراً يزداد سعيرها لحظة بعد أخرى، أخرج المفتاح من جيبه، سمع صرخة مكتومة، زوجته تصرخ: ما هذا الذي تريد أن تفعله؟
فتح الباب بسرعة، بينما صينية الشاي والكوب الساخن الملآن يقعان على الأرض بضجة مزعجة، زوجته تقف محتدة في مواجهة السباك الشاب الضخم، فهم الموقف بسرعة، وقف أمام السباك ينتفض غضباً، صرخ فيه شاتما، حمد الله أن السباك لم يغضب ولم يلقه أرضا، جمع للسباك عدته بنفسه؛ بسرعة محمومة، وألقاها إليه، وأشار ناحية الباب بغضب، نظر السباك إليهما نظرة ساخرة، وغادر بخطوات بطيئة، لف ذراعه حول كتف زوجته، نظر إليها فخوراً ببطولته التي أنقذتها، نظرة الكراهية التي رآها في عينيها أخمدت سعيره!!
2-القصة مرة أخرى
أنزله الأوتوبيس على أول الشارع، ألقى السلام على المعلم فرج صاحب المقهى ووقف يستمع إليه وهو يشكو من سوء الحال، وتفكيره الجدي في إغلاق المقهى لأنها لم تعد تغطي تكاليفها، وصبيه الذي يسرقه لكنه لا يستطيع الاستغناء عنه، والضرائب التي تأخذ الجلد والسقط، والزوجتين السمينتين وأولادهما ومطالبهم التي لا تنتهي، كان ذهنه في عالم آخر، يحاول استبطان مشاعره الجديدة، عشرون سنة مرت على زواجه، هل تذكر زوجته أن اليوم يوافق ذكرى زواجهما، إنهما لم يذكراه أبداً، كان في الثلاثين عندما تزوجا، وكانت تصغره بعشر سنوات على الأقل، أسابيع الزواج الأولى كانت شيئاً خيالياً، إنه لا يتذكر تفاصيلها، يعتقد أحياناً أنها لم تحدث أبداً، لا يتذكر سوى أنها كانت أسابيع استثنائية في حياته، يبدو أن مشاعره خلالها أكبر من طاقته على تخزينها كذكريات، وبقدرته التنظيمية الهائلة التي اكتسبها من وظيفته في الشهر العقاري استطاع أن يرتب حياته معها، لكل شيء وقت ومكان محددين، الزيارات من الأهل وإليهم، الخروج إلى السينما، اللقاء الحميمي ليلة الجمعة، جدول الوجبات الغذائية الأسبوعي، وعندما رتب حياتهما ووضع لها نظامها المحكم، استطاع أن ينساها ويتركها تسير بذاتها وفق القواعد المقررة، لكنه اليوم يريد أن يخرق كل القواعد، يريد أن يضاجعها بشبق غير روتيني وفي أي مكان في الشقة غير حجرة النوم، يريد أن يأكل ملوخية بعد المضاجعة مع أن موعد الملوخية يأتي بعد ثلاثة أيام، لفت نظره سعيد الحاوي يضرب طفلاً ولا أحد يستطيع تخليصه من يده، اخترق الجمع وشد الصبي من يد سعيد الحاوي، واضطر بعد مشادة كلامية قصيرة لدفع ثمن البراويز التي حطمتها كرة الطفل، تمنى لو كان هذا الطفل الشقي ابنه، الأطباء قالوا إنه لا عيب فيه، وزوجته أيضاً لا عيب فيها، فلماذا لا يكون لهما ابن؟ هل هو رعبه الدفين من أن يموت ويترك ابنه طفلاً وحيداً كما فعل فيه أبوه؟ هل ترفض أعماق زوجته أن يكون لها ابن منه؟ عندما يصل إلى هذا السؤال يتعمد أن يشغل نفسه بأي شيء لأنه لن يتحمل الأسئلة التي ستترتب عليه، استوقفه بائع العرقسوس العجوز، صب له كوباً كبيراً، شربه ببطء وتلذذ، ضحك من أعماقه عندما حدثه العجوز عن الفوائد الجنسية للعرقسوس، اتجه إلى بيته وضحكه ما زال يرن في أعماقه، وقف أمام الباب، سمع صوت زوجته؛ كأنه قادم من بئر، يتذلل: واحد آخر من فضلك! أخرج مفتاح الباب من جيبه، صوت عدنان السباك الضخم يرن في أذنيه: إنها ثالث مرة، ألا تشبعين؟ وضع المفتاح في الطبلة، قبل أن يحركه تذكر أنه نسي أن يدفع لبائع العرقسوس، أسرع نازلاً السلالم، نادى بائع العرقسوس، ناوله ربع جنيه، طلب منه أن يحدثه بالتفصيل عن الفوائد الأخرى للعرقسوس، ضحك وطلب كوباً آخر شربه على دفعتين، ذهب إلى المعلم فرج وأخبره أن له صديقاً في الضرائب يمكن أن يحل له كثيراً من مشاكله، شكره المعلم فرج، وصمم أن يقدم له كوب زنجبيل وشيشة تفاحة، غامزاً بعينيه، متحدثاً بلهجة مفخمة عن الفوائد المجربة لهما بصفته صاحب سابقتين سمينتين، وقهقه المعلم فرج مطلقاً رذاذاً في وجهه، رأى عدنان يقف أمامه حاملاً شنطة العدة: “الحساب عشرين جنيه يا أستاذ مسعود، كله تمام، لقد قمت بالواجب وأكثر!”. ناوله عشرين جنيهاً، تابعه ببصره حتى اختفى في منزل آخر، ثم قام عائداً إلى بيته، تناول غداءه، نام كحجر، وفي الليل أعطته نفسها بحيوية ذكرته بالأسابيع الأولى المنسية!!
كاتب وروائي مصري