*محمد الحمامصي
تطرح رواية “الموريسكي الأخير” للشاعر والروائي صبحي موسى الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية، تساؤلات كثيرة ترتبط ببنيتها السردية والتقنية ورؤاها وأفكارها وعلاقاتها بالمشهد العربي خلال السنوات الأربع الأخيرة انطلاقا من ثورات ما اصطلح على تسميته بـ”الربيع العربي”، حيث تحضر السنوات الأربع وما جرى ويجري الآن، في مقابل ما جرى بالأندلس من ثورات حاولت استرداد بعض مما سلب، لكنها جميعا باءت بالفشل، لينتهي أمر المسلمين إلى الذل والهوان والقتل والحرق والتنصّر الإجباري، وأخيرا التشريد القسري ليطلق عليهم لقب “الموريسكيين”. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتب وقد حاولنا خلاله إضاءة القضايا التي حملتها الرواية والوقوف على بعض من جوانب رسالته.
البداية كانت حول ما جرى في الأندلس وعلاقة ذلك بما جرى في السنوات الأربع الأخيرة، إذ يؤكد الكاتب صبحي موسى أنه ليس معنيا بإجراء مقاربة أو مقارنة بالمعنى الدقيق بين ما حدث في الماضي وما يجري الآن، لكنه معني بمحاولة فهم منطق التاريخ، وتقديمه من خلال رؤيته الشخصية للتاريخ، وفكرته عن منطق الصراع وكيفية وقوع الأحداث، يقول “ما ذكرته من تاريخ لم يكن مكتوبا بهذا الشكل، فكل ما كان لديّ هو إشارات، وكان عليّ أن أبث هذه الإشارات في جسد من لحم ودم، كنت أرغب في رؤية التاريخ كعمل إنساني، وكيف يتشكل بناء على محبة أو كراهية، بناء على ضغائن أو طموحات أو أحلام أو حتى صدف، كان الحاضر يحكمني بدرجة ما في إعادة تشكيل الماضي، وأحيانا كان الماضي يحكمني في تخوفاتي من الواقع الراهن.
تاريخ الانقسامات
يلفت موسى إلى أن التاريخ كان يقول إن الحكم على أساس ديني سيصنع مأساة يضيع فيها الجميع، لذا لا بدّ من تصحيح الوضع، والرواية في رأيه ترصد تلك اللحظات التي حدث فيها تصحيح الوضع، وتتوقف بمجرد الانتهاء من إسقاط النظام، الرواية تبدأ بثورة يناير وتنتهي بثورة 30 يونو، وتسرد ما جرى بين الثورتين من تحولات وصراعات وانهيارات، كان الخيط الشفيف الذي انتظمت من خلاله أحداث ما يزيد عن ألف عام، بدءا من سقوط الخلافة في قرطبة وصولا إلى سقوط حكم الإخوان.
ويضيف الكاتب “أكاد أزعم أني فوجئت بكمّ الثورات التي تعرضت لها، فهناك ما يقرب من 20 عاما من الفوضى عاشتها قرطبة حتى كره الناس حكم البربر ولفظَ الخلافة، لنا أن نلاحظ فكرة البربر والخلافة في ظل سياق يتحدّث عن وصول الإخوان إلى الحكم، لنا أن نتصور ما دفعه الناس من ضرائب في قرطبة من أجل الثورة تلو الثورة، لنا أن نتصوّر كمّ المظاهرات والمسيرات التي خرجت في عام حكم الإخوان، وكم كسدت الأسواق وبارت التجارة وازدادت البطالة واستشرى الجوع والمرض، وهذا ما حدث تحت ظل الحكم في قرطبة باسم الخليفة، حتى صار لفظ الخليفة أو الخلافة بمثابة اللعنة على قرطبة، كان ذلك سببا جعلني أضع هذه الفترة من التاريخ كما هي على لسان عبدالله بن جهور أو ابنه محمد، ولم أتعرض لها بنسج اللحم والدم، على نقيض “ثورة البشرات” وما تعرض له الموريسكيون، وما عانوه بسبب حماقة وجشع وغباء رجال الدين”.
المواطن العربي في لحظتنا الحالية موريسكي يتمنى أن يعود إلى وطنه الذي فقده منذ سنين، وطنه الذي كان منتميا إليه
أيضا اشتغال الرواية على زمنين، وطرح فكرة التقسيم والدويلات المتناحرة، وهنا يعود بنا الكاتب إلى التاريخ. يؤكد موسى “كان هذا هدفي من رصد التاريخ بالمقارنة مع ما يجري، وما رصدته مازال متحققا حتى الآن في الواقع، فلننظر لما يجري في سوريا وليبيا واليمن والعراق ولبنان، وهذه مناطق واضحة الصراع، وهو صراع ديني بالأساس، صراع ديني تتمّ فيه الاستعانة بالخارج، ولو استمرّ الأمر على هذا النحو فإن تعداد العالم العربي سيتراجع إلى النصف، وقد نخسر بلدانا عربية إلى الأبد مثلما خسرنا جنوب السودان، وقد يزداد الفيروس انتشارا لينتقل إلى بلدان كالسعودية والبحرين وعمان والجزائر والمغرب وغيرها، كانت مصر هي الاختبار الأول، وربما لتاريخها الطويل وميراثها الثقافي ووعيها الفكري استطاعت أن ترفع قدمها بسرعة من المستنقع الذي وقعت فيه، كانت هذه اللحظة هي محور عمل الرواية، فالعالم العربي مصاب الآن بفيروس الإسلام السياسي، وهذا له تبعات تبدأ بالإخوان والسلفيين مرورا بالقاعدة والتكفير والهجرة والجهاد وغيرها، وصولا إلى داعش وجبهة النصرة، هذا الفيروس لو لم يتم التعامل معه على النحو الذي تعاملت مصر معه لضاعت البقية الباقية من البلدان العربية، لكن لو قدّر للبلدان العربية التغلب عليه فإنها ستكون اللاعب الأكبر على الصعيد العالمي”.
التفتيش في الماضي
الرواية صرخة الكاتب في مواجهة الاضطهاد الديني والسياسي ويرى الكاتب أن روايته صرخة في مواجهة الاضطهاد سواء الديني أو غير الديني، معتبرا أن حكوماتنا في العقود الأخيرة امتازت بأنها اضطهدت الجميع، مسلمين ومسيحيين، فقراء أو معدمين، ليبراليين أو رجعيين، ولم ينج من بطشها سوى مجموعات اللصوص التي ارتبطت بدائرتها، وتحلقت من حولها، ومن ثمّ يكاد المواطن العربي في لحظتنا الحالية يكون موريسكيا يتمنى أن يعود إلى وطنه الذي فقده منذ سنين، وطنه الذي كان منتميا إليه وليس غريبا فيه، لذا فـ”الموريسكي الأخير”، في رأيه، لا تتحدث فقط عن الذين فقدوا وطنهم في الأندلس ولكن عن الذين يعيشون في أوطانهم لكنهم لا يشعرون بانتمائهم إليه، يشعرون أنهم صاروا عبيدا فيه، أو أنهم غرباء على نواصي طرقه وموانيه.
وردا على تساؤل حول ما إذا كانت “الموريسكي الأخير” استكمالا لـ”رجل الثلاثاء” باعتبار أن الأخيرة أسست للانهيار بظهور القاعدة وحلفائها، وهنا تنشب في “الموريسكي الأخير” الثورات وتبدأ إستراتيجية التقسيم “ملوك الطوائف بالأندلس” لتبدأ الأمة في الاضمحلال والانتهاء، يقول صبحي: لا أعرف إن كانت استكمالا لها أم لا، لكني لم أقصد ذلك، أنا لا أحب أن أرقص الرقصة ذاتها مرتين، وعن نفسي كنت أخشى من شبح عدم القدرة على الكتابة بنفس مستوى “رجل الثلاثاء”، وحين بدأت في كتابة “الموريسكي الأخير” كان أخشى ما أخشاه ألا أستطيع الخروج عن لغة وسرد وأساطير الرواية التي قبلها، وقد أعدت الكتابة مرات ومرات كي أتجاوزها، وربما أوحى لي حرصي على مخالفتها أن أغير منطق الكتابة التاريخية في النص.
ويؤكد موسى أن “الموريسكي الأخير” جاءت في إطار مشروع بدأ بروايته الأولى “صمت الكهنة”، حيث استقراء التاريخ لمعرفة حقيقة الأرض التي نقف عليها، استقراؤه من أجل الوصول إلى هويتنا، والأسباب التي تدفعنا للتصرف في مواقف معينة بطريقة معينة، قراءته لمعرفة ما ينبغي علينا عمله حيال الكثير من المخاطر التي تتهددنا الآن، فبداية من انهيار البرجين مع مطلع الألفية ونحن في إطار صراع مع الذات والعالم، وهذا ما رصده في روايته “حمامة بيضاء” كذلك.
يقول ضيفنا: أعتقد أنني صرت معنيا بالتفتيش في الماضي، ليس لإقامة تواصل أو قطيعة معه، ولكن بهدف الوقوف على حقيقة المكونات التي دخلت تركيبتنا الثقافية على مدار كل هذا التاريخ، ومعرفة كيف نتعامل معها.
عن صحيفة العرب