الحكايات تشرب معي القهوة


*جوخة الحارثي

لا أعرف متى اكتشفت أن الكلمات سحر. وربما سحر أسود.

كنت صغيرة. كنت أقول «شوق» فأشتاق، أكتب «حب» فأحب، أصرخ «الله» فأؤمن.
كنت صغيرة وكان سحرُ الكلمات أعظمَ من أي سحر آخر.
حلمت في النوم واليقظة إني أطير. مرة بوسادتي، ومرة بأجنحة، ومرة بذراعيّ المجردتين. ظللتُ حبيسةَ حلمي وخالتي قالت «إن من يحلم نفسَه يطير فهو يطير فعلا». واكتشفت بعد سنوات كثيرة أن الكلمات، الكلمات فقط، تجعلني أطير. اللغة. هذا السحر الأسود يغيرني ويُطيِّرني. 
حين أكتب أطير، أخرج من العالم الذي يفعل بي ما يشاء إلى عالم أفعل به ما أشاء.
في بيت طفولتي كتبتُ لأُبقي روحَ أخي قريبةً مني بالرسائل. كانت روحه قد ذهبت خضراء وكانت الكلمات وحدها تجعل اخضرارها يظللني. لم يكن من جسر بيني وبين السماء فصنعتُ من ورق الرسائل جسرا وكتبت لأخي كل ليلة رسالة.
في الجامعة كتبتُ ليراني أستاذي. كان يكبرني بأربعين عاما وكان لا يرى، كان يسير بقلبٍ أعمى، ورغبتُ بحرقة أن تعطيه الكلماتُ عينين.
في منتصف عشريناتي كتبتُ لأن غابة غامضة في مدينة صغيرة نادتني، مدت لي جذوع الأشجار يديها فمددت يدي، ظللتُ لأشهر أمشي في الغابة وأكتب، تمشي في الغابة وأكتب، كتبتُ روايتي الأولى، منامات.
في اسكتلندا كتبتُ لأني كنت أتوجع من فرطِ العجز عن حبِّ اللغة الأخرى.
أسير في الشوارع الأثرية لأدنبرة، ولساني لا تعتدل لكنته، وطفلتي لا تخفت وحدتها، تاريخي بعيد، ولوني قاتم، وحين أصعد لمكتبي في الطابق الخامس من بناية بلا مصعد عاش فيها والتر سكوت، أخبط رأسي في الجدار حين تتدفق كل الكلمات في رأسي وتعجز عن الدخول في اللغة الأخرى.
قلت لأمي في الهاتف: «هذه المدينة فاتنة، قد حفظت مسارحها ومتاحفها وحدائقها»، وقلت في نفسي: «إن لم أستحم في الفلج مرة أخرى سأموت اختناقا، إن لم أرَ خواتم أمي وأقبل حناء كفيها سأموت حسرة»، قلت لأمي:«دراستي تتقدم واللغة جميلة»، وقلت في نفسي:« إنني أشبه شيء بالمتجول على كرسي المقعدين، أنا بلا لسان، أنا بكماء».
أمشي غريبةَ الوجه واليد واللسان، أرى آلافَ الحكايا تمشي معي وأدعوها لنجلس معا ونشرب كوب قهوة في صقيع أدنبرة، شربَتْ الحكاياتُ عشرات الأكواب ونادمتُها، آلاف الحكايا، لا تبدأ الحكاية حتى تنتهي، ولا تنتهي حتى تدخل في حكاية جديدة، أجداد غابرون وجيران حاضرون، أولياء تنفتح لهم طاقة ليلة القدر، وشهداء تسيل دماؤهم حتى البحر لتصبغه أربعين ليلة، كهول لاهون بالمتع العزيزة، وشيوخ مؤاخون للشياطين والجن، نساء يطرن على أجنحة بالليل ويجدن أنفسهن في فراشهن في الصباح، ورجال يهيمون في الصحراء فرارا من رعب الحياة فتؤويهم الذئاب، أطفال يولدون ويموهون لتضليل الموت، فلا يضل طريقهم، وبنات تزهر من أجسادهن المدفونة ظلما شجرات النبق، فتاة تبكي أخاها أربعين سنة فتُمسخ بومة، وبومة تزور القبور لتتحول فتاة، عشاق تأكل النسور لحومهم وتشرب الطيور دماءهم في الطريق إلى المعشوق، ومعشوق لاهٍ بخليله عن عاشقه.
قالت لي الحكايا قد هِمنا طويلا كأشباح في هذه المدينة، وقد تنادمنا طويلا، اكتبيني.
فكتبتُ روايتي الثانية، سيدات القمر.
أضواء الكريسمس تلوح من النافذة والثلج يغطي إفريزها وأنا أستحضر الصحراء وأرواح أجدادي الشهداء، الناس يهرولون بالمعاطف وأنا أُلبِس الطفل أحمد الراكب على كرب نخلة الدشداشة الخفيفة والحروز الحارسة من سطوة الموت، جارتي تدعوني لشاي العصر في بيتها الفاتح اللون وأنا أغوص في غرفة خالتي بصبغها القاتم وروازنها المليئة بالأواني الأثرية، الراديو يبث الموسيقى الاسكتلندية الشعبية وأنا أترنم بالأمثال مع ظريفة، وأردد الأهازيج مع عبدالله ومنين. تصالحتُ مع غربتي، أحببتُ أدنبرة حين أعطيتها لغتها في الدكتوراه ومنحتني لغتي في الرواية، وأحببتُ شخوصي، بكيتُ لآلامهم وضحكتُ لمزاحهم.
كتبتُ فحررتني لغتي من كرسي المقعدين الذي أجلسني عليه البُكم، لغتي أعطتني ساقين فركضتُ.
في مدينتي أردتُ أن أكتب، لكن ثمة ما يقص جناحيّ.
أنت تعيش في هذه المدينة، تفتح عينيك صباحا، فلا تجد الشجرةَ التي كانت تعيش قربَ بيتك، وفرحُك بأصوات عصافير تنقرُ نافذتك تلاشى إلى الأبد، فهناك جرافةٌ تأكلُ الشجرة، وتروِّع العصافير، ولا يمضي شهر حتى تنهضَ بنايةٌ تسدُّ كلَّ فسحة للسماء، ويكون الوقتُ قد فات للتفكير ببيض الحمام في عش الشجرة التي كانت.
تذهبُ إلى البحر، قبل خمس سنين فقط كان البحرُ لك، والآن أصبح للنوادي الخاصةِ المحرم عليك اختراقها. تنادي البحرَ هدرا، فكل حبيبةِ رمل قد بيعت سلفا للشركات العملاقة. تسأل البحرَ عن أرواح أسلافك الذين غاصوا من أجل اللؤلؤ، فتجد البحرَ بلا ذاكرة، فهو لا يأبه بالسفنِ الشراعية وأغاني اليامال بل بناقلات النفط.
أين مهدُ الحكايات التي اصطدتَ أرواحها الهائمة فنادمتكَ؟ ترحل إلى جذرها ونسغها، تذهب إلى القرية، الفلج الذي طالما استحممت ولعبت فيه؟ جفَّ أو في سبيله إلى الجفاف، النخلات على جانبي الطريق الترابي؟ اقتلعت لبناء دكاكين والتراب صُب بالقار، الهضبة التي كنت تتزحلقُ عليها مع أقرانك؟ جرفت وسويت بالأرض لبناء هايبر ماركت، الدروازة التي يفوق عمرُها المائتي عام التي مات تحت ثقل خشبِها المجلوبِ من الهند عشرات الرجال؟ كسرت ورميت مقابضُها النحاسيةُ الضخمة وأخشابُها المتينة في القمامة، القلعة القديمة التي اعتصمت فيها النساء لتمنع حربا يوقدها الرجال؟ تساقطت حجرا حجرا، بيت جيرانك المبني بالجص من ثلاثة طوابق منذ أواخر القرن التاسع عشر؟ تسرح فيه الكلابُ الضالة، مزرعة العائلة الظليلة؟ اشتراها باكستاني وجلب إليها عائلته من قرية منسية على حواف لاهور، بيت طفولتك حيث خزانتك الأولى بمجلات ماجد وباسم وسوبر مان الذي يقبل رندة فتتسع عيونُ مراهقتك؟ نسج عليه العنكبوت. جارات أمك الطيبات اللواتي كبرت في حجورهن؟ أحضر لهن أولادُهن تلفزيون بشاشة مسطحة ولم يعد لديهن وقتٌ للزيارة فليلى في المسلسل التركي ما زالت تبحث عن عشيقِها الذي تركها حبلى. تسبيح جدتك في ظل شجرة الليمون مع التمر وفنجانِ قهوة بالهال؟ جدتك ماتت وشجرةُ الليمون يبست وحلت شوكولا باتشي والكابيتشينو محل التمرِ وقهوة الهال.
«هل كان عوليس في الإلياذة يستطيعُ أن يستمعَ بنشوة إلى موسيقى العودةِ العظيمة لو أن شجرة الزيتون القديمةَ اقتلعت ولو أنه لم يستطع أن يتعرفَ على أي شيء حوله؟.»
متى سيمسُّنا السحر ويمنحنا طيرُ الحياةِ ريشَ الكلمات فنطير من جديد؟

عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *