هيفاء بيطار
لستُ بصدد التحدث عن الفيلم الإشكالي “آلهة وملوك”، الذي حضرته منبهرة بإخراجه الرائع خاصة أن مشاهدته بالعدسة ثلاثية المرايا، فقد كتب عنه الكثيرون، واستنكر البعض قرار منعه، ووافق آخرون على قرار المنع. بداية عليّ -ومن الضروري- أن أشير إلى أن الفيلم يتشابه في ما يطرحه من خلال مضمونه وأفكاره ورؤيته مع رواية “قايين” لصاحب جائزة نوبل للآداب الكاتب والروائي البرتغالي الراحل جوزيه ساراماغو.
فيلم “آلهة وملوك” يتحدث عن علاقة النبي موسى مع الله، وعن سفر الخروج من مصر، وكيف أن موسى لم يكن متفقا “دوما” مع الله الذي جسده المخرج في شخص طفل لا يتجاوز عمره السنوات العشر، كما أن قايين في رواية ساراماغو لم يكن “متفقا” مع الله وكانت تدور بينهما حوارات حادة وإشكالية، إذ كان قايين يحمّل الله مسؤولية جريمته على قتل أخيه هابيل، وعن أحداث تاريخية أخرى مثل سادوم وعمورة وغيرها.
ويجب أن أنوه، حين قرأت رواية “قايين”، بأن ساراماغو أبهرني ليس بأسلوبه الرائع وروايته الشيقة والتي تطرح أفكارا رائعة ووجودية حول علاقة الإنسان بالله فحسب، بل كذلك على تلك المساحة الشاسعة والواسعة من الحرية المطلقة في تفكيره التي أحسده عليها، بحيث أنه يتجرأ ويكتب عن الله، ويفصل الذات الإلهية ويرسمها كما يرسم أية شخصية يكتب عنها، وحين كتبتُ مقالا عن رواية “قايين”، وهو مجرد مقال عن رواية، رفضت كل الجرائد العربية طبعا أن تنشره لي، وتلقيت اتصالا من رئيس تحرير إحدى الجرائد المشهورة التي أرسلت إليها المقال، وقال لي: المقال ممتاز وقد دفعني لتوّي إلى شراء الرواية وقراءتها، لكنني لا أستطيع نشر مقالك لأنه ممنوع تناول الذات الإلهية.
يحضرني هنا تذكر الضجة والاستنكار الذي أثارته رواية نجيب محفوظ “أولاد حارتنا” وقرار منعها، لأنه تجرأ أيضا “وتحدث عن الله مجسدا” إياه بشخصية الجبلاوي، وقد تعرض لطعنة خنجر في عنقه كادت تودي بحياته بسبب هذه الرواية تحديدا، كما أعتقد ويعتقد الكثيرون.
جرأة واستنكار
رواية ساراماغو “قايين” وفيلم “آلهة وملوك” يتجرّآن ويجسدان الله في كيان أو شخصيه، الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله، والأهم أنه خلقه حُرا، “لا قيمة لحياة الإنسان وكيانه إن لم يكن حرا”، إن لم يكن باستطاعته أن يحاور حتى الله خالقه، لأن الله جعل من الإنسان وحده شريكا له في الخلق.
بعد حضوري لفيلم آلهة وملوك، عاد إليّ الأسى نفسه الذي أحسست به حين رفضت الجرائد والمجلات العربية نشر مقالي عن رواية قايين لساراماغو، لأنها تتناول الذات الإلهية.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما معنى الإبداع إذن؟ هل يستطيع كاتب عربي أن يكتب رواية مثل رواية “قايين” لساراماغو، يجعل فيها قايين يغضب ويحاور الله ويحمّله مسؤولية ما جرى، بل يحمّله جريمته، لأن الله تقبل الأضحية التي قدّمها هابيل، ولم يتقبل الأضحية التي قدّمها قايين (حسب الرواية). هل يجرؤ مخرج عربي أن ينتج فيلما يتحدث فيه عن حياة أحد الأنبياء وعن صراع هذا النبي مع الله؟ ألا تهبّ في هذه الحالة آلاف الأصوات المطالبة بهدر الدماء للكاتب والمخرج والممثل وربما للحضور أو المعجبين بالعمل؟ كم من كاتب ومفكر عربي قُتل بسبب أفكاره؟
كم من فتاوى تكفير وتخوين ومنع ومصادرة لاحقت أصحاب الفكر الحر والإبداع الذي يأمل ويطمح أن يكون حرا؟ أيّ إبداع عالي السقف إن كان محفوفا بالخطوط الحمر والمحظورات؟ وللأسف ليس فقط التعرض للذات الإلهية هو ما يعرّض صاحب الفكرة للتخوين والكفر -حتى كاد مفهوم الفكر يتطابق مع الكفر في عالمنا العربي- بل كل طرح حرّ وصادق لأية مشكلة. ولا أحد ينسى الاستنكار والضجة التي أثارتها رواية محمد شكري “الخبز الحافي” لمجرّد أنه تجرّأ وحكى عن حياه قاع المدينة، وكيف قتل والده أخاه الأصغر بسبب الفقر، وكيف كان وبعض رفاقه يضاجعون الحيوانات.
رفض الحرية
هذه هي حياة البؤساء الذين يعيشون في القاع والعشوائيات، لكن ممنوع أن تظهر هذه القصص إلى العلن، لأن أكثر ما يهمّنا في هذا العالم العربي الرافض للحرية هو الأمان زائف المظاهر. وبكل صدق أحسست بسعادة حين ذكّرني صاحب السيادة في الكنيسة أثناء إحدى مواعظه يوم الأحد وقال بصراحة للمُصلين: لا تقرؤوا روايتي هيفاء بيطار “يوميات مطلقة” و”امرأة من طابقين”، بأن هذا الموقف يؤكد منع الحريات في الكتابة وخاصة من رجال الدين.
وأخيرا لا تهمني تلك العبارة البراقة وهي وصول الأدب العربي إلى العالمية، ولا أهتمّ بعدد الروايات العربية المحظوظة بالترجمة إلى لغات أخرى؟ إن الأهمّ من كل ذلك هو أن يتمكن المبدع العربي من رفع سقف الحرية إلى ما لا نهاية له، إلى أن يصل إلى الله خالقه، يحاوره ويتحدّث إليه كأب وخالق كما في الصلاة الربانية المسيحية “أبانا الذي في السموات”.
يجب أن يُعاد النظر في مفهوم الأب، وفي علاقة الإنسان بالله، فلا إبداع حقيقيا وكاملا مع حرية منقوصة أو معاقة.
كم أتمنى أن نشهد روايات عربية من مستوى جرأة رواية “قايين” لساراماغو، وأفلاما عربية في مستوى جرأة “آلهة وملوك”، وأن ننسى طعم الأسى والخيبة والخوف بسبب من يترصّد لكل فكر حرّ، حتى يحوّله إلى كفر يستحق عليه هدر الدم والقتل
عن العرب