1
قصيدة «رمية نرد» للشاعر ستيفان ملارمي هي بدون شك إحدى القمم عبر تاريخ الآداب العالمية. شغلتني وأنا شاب، لكنني لم أترجمها إلا بعد مرور عشرين سنة على قراءتها أول مرة في الثمانينيات. ولم يقف عملي عند حد الترجمة، بل خاطرت بالنزول إلى سراديب القصيدة، فوجدتني في عالم تزداد دهشته كلما اقتحمت الطبقات المستورة أو المجهولة. ومن الأبعاد الثقافية التي عثرت عليها في القصيدة بعدُ الثقافة العربية ـ الإسلامية، التي كانت أكبر مفاجأة لي، وأجمل هدية أعود بها من هذا السفر الطويل في قصيدة ملارمي وعالمها.
وساعدتني المناقشات، التي استدعاها تقديم الترجمة لاحقاً في مناسبات بفرنسا، على تعميق ما كنت قدمته في «مذكرات الترجمة»، التي نشرت في الكتاب الثاني من الطبعة المزدوجة اللغة، الصادرة في باريس سنة 2007. لن أتعرض، ثانية، للصعوبات التي واجهتها في ترجمة هذه القصيدة الفريدة. على أن رهبة تنتابني كلما أقدمت على إثارة الموضوع. والسبب هو أنني عاجز عن فهم كيف أن المختصين في الدراسات الملارمية، في فرنسا أولاً، ثم لاحقاً في جهات أخرى من العالم، لا يثيرون أبداً هذا الموضوع. شيء غريب، أكاد أقول. مرحلة بكاملها من حياة ملارمي مطبوعة بتعلقه بالثقافة العربية ـ الإسلامية، فيما لا يولي كتاب سيرته أو الباحثون في شعره، من مختلف التوجهات، أي عناية بهذا المنحى الذي يصبح ماثلاً للعيان، بمجرد ما نقـترب منه.
عندما وجهت السؤال إلى إيف بيريي عن غياب الاهتمام بهذه الثقافة لدى ملارمي، أجابني بأنه لم يكن ثمة عارفون باللغة العربية بين الباحثين الفرنسيين الذين اشتغلوا على الموضوع. إيف بيريي اختصاصي في ملارمي، وهو المسؤول عن كتالوغ «ملارمي 1842 ـ 1898. مصير من الكتابة»، الذي تم نشره سنة 1989 لدى منشورات غاليمار.
2
تعلق ملارمي بالثقافة العربية ـ الإسلامية جانب من استكشافه لوضعية الأدب في أوروبا، والولايات المتحدة وآسيا. تعلق يدل على التخوم القصوى لمغامرته الميتافيزيقية، متفقداً آثار المستحيل.
3
لابد من الاعتراف بأن حديثي عن الثقافة العربية ـ الإسلامية لا يفيد أنني سأكشف عن نصوص مجهولة لملارمي تتناول هذه الثقافة. ما عملت عليه هو الانكباب على جمع عناصر متناثرة، من كتابات ورسائل وذكريات، لا تشكل بالضرورة مجموعة منسجمة. من هنا يبدو تعقد (وخطورة) حديث كهذا الذي أنا أقترحه. فالعمل، انطلاقاً من عناصر متناثرة، يعني أن الموضوع قابل للبناء، بقليل من العناصر التي بحوزتنا.
على أنه من الموضوعية القول أيضاً إن بعض مظاهر الثقافة العربية ـ الإسلامية، التي تعلق بها ملارمي، شكلت موضوع قراءات وتحاليل. أخص بالذكر، هنا، تعلقه برواية «الواثق» لمؤلفها الإنجليزي بيكفورد. إن جان ستاينميتز، وهو أكبر كاتب معاصر لسيرة ملارمي، يتحدث عن نية الشاعر، خلال زيارته لندن عام 1875 «العمل في المتحف البريطاني، الذي يتمنى أن يطلعَ فيه على النسخة الشهيرة من كتاب «الواثق» لبيكفورد، الصادرة سنة 1787، (وتحمل على ظهر الغلاف ملاحظة «طبعة نادرة»)». ولأن ملارمي كان واقعاً تحت تأثير الكتاب، فقد أمضى، منذ 1871، عقداً لنشره في طبعة جديدة قدم لها بنفسه، وصدرت في 1876.
كما أن ملارمي أفضى، من جهة أخرى، إلى الشاعر فرلين، بسرّ هذا الكتاب. لقد كان عثر عليه في مكتبة جده، الذي كان «ممثلاً للمكتبيّين في عهد لويس السادس عشر». وعناية ملارمي برواية «الواثق» هي التي دفعت الناقدة جوليا كريستيفا، إلى البحث عن تفسير سر إعجاب ملارمي بالكتاب، فكتبت: «يُعجَب ملارمي بالواثق لبيكفورد الذي يتابع فيه إصراره على أن يجد حالة عتيقة من اللغة الفرنسية». وبحث كهذا نفهمه في سياق التحرر من «معيارية التركيب النحوي للجملة»، التي لم تعد تتحمل سوى تنويعات داخلية.
ينحصر تحليل جوليا كريستيفا في مسألة تقعيد (معيارية) التركيب النحوي. هذا مهم بالنسبة للبحث عن كتابة جديدة، لكن التبرير ليس كافياً. فمن أجل أن نفهم بطريقة أفضل قصد ملارمي، تدلنا قراءة المقدمة التي كتبها سنة 1876 لهذا العمل بشيء خاص. لقد وجد ملارمي نفسه «مسحوراً» بالرواية، فكتب على إثر ذلك: «إذن: هذه القصة، التي تختلف عن ألف ليلة وليلة ما هي؛ أو بالتالي لمن هي عندما تلمع؟» ثم يضيف أن معمار الخرافة عظيم وتصوُّرُها لا يقل جمالاً. ويعثر فيها على شيء من القدرية «كأنه متلازم مع قانون متعجّل للسلطة مآله هو هبوط أمير إلى الجحيم، مصحوباً بمملكته».
يروي بيكفورد، وهو يستلهم الأدب الاستشراقي، حياة ومصير الخليفة العباسي الواثق، حفيد هارون الرشيد. تبدأ قصة الخليفة الواثق حسب ملارمي: «من بُرج تظهر أمامه قبة السماء الزرقاء، لتنتهي في سرداب مسحور». لكن القصة الواقعية للواثق بعيدة عن الصورة التي يرسمها بيكفورد. فالكتاب يصدر عن النجمة التي شاهدها الخليفة وتأثيرها على مسار حياته. إضافة إلى أن ثمة عناصر أخرى يعطيها الكتاب أولوية، بتأثير من «ألف ليلة وليلة»، وهي تجعل من مقدمة ملارمي لرواية «الواثق» وثيقة ذات دلالة قصوى. أي أنها وثيقة تقنعنا بأن تعلق ملارمي برواية «الواثق» لا تنفصل فيها الحالة العتيقة للغة عن المتخيل، الذي يكسوها باللحم. وفي الأخير نلاحظ أن القصة تشترك مع «رمية نرد» في استعمال كلمات هي: الأمير، المعلم، الشيخ، النجوم، المجرة، كوكبة النجوم، السر، الهاوية والمأساة.
4
إن أغلب كتّاب سيرة ملارمي والباحثين في «رمية نرد»، لا يشيرون إلى «ألف ليلة وليلة». والاستثناء الوحيد هو ستاينمز، كما أشرت من قبل. فهو يتكلم عنها مرة واحدة في كتابه، عندما يتعرض للترجمة الإنجليزية التي كان نشرها جون بّين، من 1882 إلى 1889. لكن الاستثناء ذو أهمية محدودة، لأن الكاتب يصمت عن الرسالة التي وجهها ملارمي إلى صديقه جون بّين.
ورغبة في القيام ببحث لا يجد إلا عناصر متناثرة، من أجل تغيير النظرة إلى الموضوع، اعتمدت طريقة تنطلق من الرأي الذي يقول إن مصادر كل بحث توجد في أدبية نصوص ملارمي وفي تفاصيل حياته. بذلك تناولت مقدمة رواية «الواثق» بما هي سابقة على سواها. وثمة وثيقة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى. إنها رسالة ملارمي إلى جون بّين في 9 أكتوبر 1882، على إثر استلامه الجزء الأول من ترجمة «ألف ليلة وليلة» إلى الإنجليزية. كتب ملارمي: «ألف ليلة وليلة فتنة؛ ترجمتك، روعة. أقصد روعة حقيقية، ضرباً من المعجز». ويضيف: «لا أعرف إن كنت لا أعانقك أيضاً لكونك كتبتَ هذا الكتاب بالإنجليزية على نحو رائق بقدر ما أعانقك لأجل عملك الضخم الذي سمح لك بمعرفة العربية».
إنني أقرأ هذه الرسالة كأغنية يكتبها ملارمي على شرف جون بّين وترجمته. فهي تبين لنا أن هذه الترجمة مكنته من الحصول على الصيغة التي كان يبحث عنها. لكنها تقول، بطريقة غير مباشرة، إن ملارمي كان يعرف من قبل «ألف ليلة وليلة»، وهو الآن يحصل على الصيغة المبحوث عنا.
5
ويكتب ملارمي في مقالة بعنوان «عروض» عن مكانة «ألف ليلة وليلة» في مستقبل الشعر، بل في كتابة قصيدة شعبية. لكنه يكتفي باستدعاء اسمها ليظل مرتبطاً بالأساسي لديه، أي بالشعر. إن هذا التناول يبرز طموح ملارمي إلى أن يقرأ «ألف ليلة وليلة» في ترجمة فرنسية. ومن أجل بلوغ هذه الغاية، تشير مارغريت سينوفال، إلى أن ملارمي لم يتوقف عن البحث عن مترجم يستطيع أن ينجز ترجمة فرنسية من العربية. وينتهي الأمر بظهور الدكتور مارْدرُوسْ. إنه طبيب وشاعر فرنسي، ولد في 11 نوفمبر 1868 في القاهرة، حيث كانت تقيم عائلته. توجه في 1878 إلى بيروت لمتابعة دراسته الثانوية والجامعية. وفي الخامسة والعشرين من العمر، توجه إلى باريس للتصديق على شهادته. ثم فجأة وصل إلى بيت ملارمي وأخذ مكانه بين مريدي المعلم ولازمه مدة سنتين. وبعدها رحل سنة 1895، كطبيب للإرساليات البحرية، إلى الشرق الأقصى.
لم يحتفل ملارمي بصدور الجزء الأول من «ألف ليلة وليلة»، بعد أن ترجمت في النهاية إلى الفرنسية، كما كان يريد. فهو توفي يوم 9 سبتمبر 1998. أما مارْدرُوسْ فلم يعد من السفر إلى باريس إلا في 1899. وكان إهداء الترجمة بكاملها إلى ملارمي، ثم الجزء الأول إلى بول فاليري، يعبر عن شعور الشاب المترجم تجاه انتظار ملارمي. لم يقرأ ملارمي، إذن، هذه الترجمة، لكن: لماذا كان ملارمي، وهو متحرر من النزعة الاستشراقية، مهتماً إلى هذا الحد بـ«ألف ليلة وليلة»؟ إنني أسمعه يقرأ «السندباد البحري»، في ترجمة جون بّين. عالم هذه الحكاية هو البحر وغرق السفن، وهما مفهومان لا ينفصلان عن كل من القصيدة والحكاية.
هناك أيضاً ما يثيرنا في كتابات ملارمي. ثمة لائحة من كلمات ومفاهيم تتصل بالمجال العربي ـ الإسلامي، يستعملها أو تتقاطع مع كتاباته، بين الحين والآخر. ففي تقديم «الواثق»، يستعمل ملارمي كلمات عربية مثل: الله، الشيطان، الحريم، الوزير، طائر الرخ، والزفير. وفي شبابه كتب قصيدة بعنوان «غضب الله». كما أنه ترجم قصيدة إدغار آلن بو «إسرافيل»، وكان يعرف آية «الأعراف». ولا ننسى أن اسم كلبه الذي لم يكن يفارقه هو صلاح الدين، وأن صديقه الشاعر هنري غزاليس أهداه ديوانه «رباعيات الغزالي». وإلى جانب كل هذا، يثبت بول فاليري أن آخر جملة نطق بها ملارمي في صبيحة وفاته، وهو مختنق بين يدي طبيبه هي: «يا دكتور، ألا تجدوا أن لي مظهر ديك، مظهر عيساوة، وأنني مجذوب». كلمة «عيساوة» اسم طائفة صوفية شعبية في المغرب، تعرّف عليها ملارمي من خلال كتاب صديقه أندري جيد «ملاحظات على رحلة: تونس والصحراء» الصادر في 1897. أما كلمة «المجذوب» فلا شك أنه اطلع عليها بحكم خبرته في الفنون التشكيلية. فهي عنوان لوحة دولاكروا، «مجاذيب في طنجة»، التي رسمها في صيغتين، هما صيغة 1837 و1857.
6
كل ما حاولت البرهنة عليه يبعد عن ملارمي أو عن ثقافته صفة الاستشراق. لهذا لن نعثر في عنايته بالثقافة العربية ـ الإسلامية ما يتجاوز الشعر والشعري. هذا رأيي. واختياري «رمية نرد» دال بحد ذاته. فهي القصيدة الثانية الأساسية لملارمي، إلى جانب قصيدة «هيرودياد». كما أن الملاحظة، التي نشرها في مجلة «كوسموبوليس»، لا تترك شكاً في أن ما كان يشغل ملارمي بالدرجة الأولى في القصيدة هو مغامرتها.
عندما نشرع في قراءة القصيدة نعثر على ما فيها من عناصر كثيرة دالة على الثقافة العربية ـ الإسلامية، يوظفها الشاعر من أجل غايته الشعرية، أي بناء القصيدة. لا أكثر من ذلك. نبدأ بعنوان القصيدة. إنه في صيغته التامة: «رمية نرد أبداً لن تبطل الزهر». كلمة «الزهر» عربية ـ أندلسية، مأخوذة من كلمة «الزهر». وهي لا تزال متداولة بمعنى الحظ في بلاد عامية المغرب العربي.
ولنا، بعد العنوان، أن ندخل إلى القصيدة. يجمع الدارسون على أن شعر ملارمي غني بتعدد المعنى. ومن الطبيعي أن تظفر «رمية نرد» بقراءات متعددة. من بينها (وأهمها) قراءات موريس بلانشو وبرتران مارشال، أو أكثر من ذلك قراءة ميشيل مورا. فهم يقترحون علينا تأويلات غنية ومختلفة. مع ذلك فإن كل قارئ يمكن أن يعثر على آثار أعمال أخرى في «رمية نرد»، رغم أن القصيدة لا تصرح ضرورة بذلك. يعنينا القول، هنا، أن الممحو أو المنسي في قراءات «رمية نرد» هو السندباد البحري. إن إشارات ملارمي المتكررة لـ«ألف ليلة وليلة» لا تعين قصة بذاتها. مع ذلك نلاحظ، ونحن نولي الاعتبار للاختلافات بين القصيدة والحكاية، أن بين العملين نقاطاً مشتركة. فعالمهما هو البحر وغرق السفن. وهو ما يسمح لنا أن نرى تداخلاً نصياً بينهما، يترك الباب مفتوحاً لنتخيل ما حدث قبل كتابة القصيدة. «رمية نرد» قصيدة بحرية، تروي قصة سندباد حديث، يرمي بالنرد من عمق سفينة غارقة. لقد كان ملارمي يعرف بالتأكيد حكاية «السندباد البحري» في ترجمتها لدى أنطوان غالان، منذ فترة «إيجيتور». لكنه لم يكن يرتاح لما كان ينقص الترجمة، أقصد عربية «ألف ليلة وليلة» وبناءها الأصلي. ولا شك أن قراءة الحكاية في الترجمة الإنجليزية لجون بّـين كانت ذات تأثير عليه.
7
كتب ملارمي، في ملاحظته، المنشورة في مجلة «كوسموبوليس»، كلمة «قصيدة» بحروف كبرى ليعين «رمية نرد». لكن القصيدة تفاجئنا بتصور جديد لهذا الجنس الأدبي، الموغل في التاريخ. ذلك أن طبيعتها تجعلنا نلمس فيها بداية عهد جديد للشعر. إنها قصيدة طويلة، تتألف من «جملة رئيسة»، حسبما يمليه قانون محو الحكاية، التي هي خصيصة قصيدة النثر. جملة واحدة، أي فعل واحد، سيعطي جسداً للقصيدة. وأعني بالقانون، ذاك الذي اخترعته القصيدة نفسها، وبه تصبح فريدة حقاً، لا سابق لها.
هي محاولة كبرى، لأن «رمية نرد» مؤلفة من 216 بيتاً. ولا مفاجأة إن قلنا إن قسطاً من سر هذه القصيدة محفوظ في كتابة المعلم، إدغار ألن بّو، الذي ظل ملارمي وفياً له طيلة حياته. ورغم أن القصيدة طويلة فهي تمحو الطول بقانونها الخاص، الذي يجمع بين النشيد والحكاية ويؤلف بينهما. بهذا القانون، يصبح النشيد مكتوباً بالخط المائل، ويتقاطع مع الحكاية المكتوبة بخط عمودي. تلك هي الحركة التي ترج الحدود بين الشعر الحر وقصيدة النثر، من جهة، وتمزج الجنسين معاً، من جهة ثانية في نص واحد، هو الذي أتى به ملارمي، جواباً على ما كان يشغل شعراء زمنه، بخصوص كل من الشعر الحر وقصيدة النثر.
وعندما ننتبه إلى هذا القانون، بتركيز أكبر، نلاحظ أن «رمية نرد» مركبة بفعل المزج ذاته بين الأجناس. فالحكاية توجد على الدوام داخل القصيدة متقاطعة مع النشيد، الذي لا يتعارض مع الغنائية. ولابد من التذكير، في هذا المستوى من القراءة، بأن «ألف ليلة وليلة» تمثل نموذج نمط من المؤلفات العربية، التي تمزج بين الأجناس في العمل الأدبي الواحد. إن «رمية نرد» ليست فقط مؤلفة من عدة قصائد، بل هي، قبل ذلك، رحم كلمة شعرية بعدة مستويات.
8
لننظر الآن إلى القصيدة في كليتها. تفتتح القصيدة بالهاوية، في عمق غرق سفينة، وتنتهي بكوكبة من النجوم. عندما نتأمل الحضور المتلألئ لسماء الشمال، نرى أن كوكبة النجوم ترتبط بعلم التنجيم ودوره في ممارسة لعبة السلطة كما تصفها رواية «الواثق». وحضور علم التنجيم ذو صلة بالثقافة العربية ـ الإسلامية، بل وقد أشار أبو تمام إليه في مفتتح قصيدته الشهيرة «السيفُ أصدقُ أنباءً منَ الكتبِ/ في حدّه الحدُّ بين الجدّ واللعبِ». فالمقصود من «الكتب» هنا هو كتب التنجيم، التي كانت سائدة في عهد الخليفة الواثق، بعد أن أخذ العرب هذا العلم عن اليونان وأتقنوه حتى أصبح علماً عربياً.
بفضل معرفة ملارمي علم التنجيم وإتقانه عن طريق كتاب بيكفورد، أصبحت السماء تسمح للقصيدة، في صفحتها الأخيرة، ببناء رؤية كونية تفتن بكثافتها ورمزيتها. وهو الإحساس الذي عبر عنه أندري جيد في رسالته التي بعث بها إلى ملارمي في 5 ماي 1897 من فلورنسا، بعد أن قرأ القصيدة منشورة في مجلة «كوسموبوليس» حيث كتب: «لا أستطيع أن أمنع نفسي من الكتابة إليك (كما نصفق بدون مقاومة) وأنا بتأنٍّ أقرأ حالياً بفلورنسا، في كُوسْمُوبّوليس، الواصلة على التوّ، قصيدتَك التي انتظرتها طويلا.
إنها ذات جرأة أدبية بالغة الإدهاش ومتناولة ببساطة؛ لكأنها وصلت إلى هنا مثل جبل شاهق متقدم بغرابة في البحر، لا يوجد بعده سوى الليل، أو البحر والسماء المليئة بالفجر.
لقد جمّدتْني الصفحة الأخيرة بانفعال يشبه ذلك الذي تمنحه سيمفونية مماثلة لبيتهوفن (لا أخبرك بشيء جديد تأكيداً).
9
تلك هي ملامح الثقافة العربية ـ الإسلامية التي وقفت عليها، حتى الآن، في «رمية نرد»، وفي كتابات وحياة ملارمي. لا أعرف شيئاً عن المستقبل، لكني أرى أن الطريق، الذي سلكه ملارمي وحاولت السير عليه، إشارة إلى ما يسكن الثقافتين العربية ـ الإسلامية والغربية من حوار هو ما نحتاج اليوم إليه.
______
*ملحق الاتحاد الثقافي