نائل الطوخي
مشروع غنائي فَكر فيه الموسيقي الإسرائيلي يوفال بن عامي، وكتبه على مدار 15 حلقة في موقع “سيحاه مكوميت”، أخذتْ عنوان “يوميات لورد في إسرائيل – فلسطين”، حملتنا في رحلة كبيرة في الوعي الإسرائيلي، يخرج فيها اليهودي الإشكنازي من تل أبيب ليتجوّل في أنحاء فلسطين للبحث عن شريكة فلسطينية له.
كانت الفكرة هي ترجمة أغاني مغنية الهيب هوب النيوزلندية “لورد” للعبرية والعربية معاً، وتطويعها لتوجَّه ضد الاحتلال والتعصب في إسرائيل. يوفال بن عامي يساري إشكنازي إسرائيلي. يرى العنصرية ضد الفلسطينيين شبيهة بالعنصرية التي تعرض لها أبواه في أوروبا الثلاثينيات. يفكر في 1967 أكثر من 1948، ولا يسائِل الصهيونية في نصه، فقط يفكر في احتمالات الشراكة بين الشعبين، القامع والمقموع. ومن هنا فالنص الذي يحكي عن مشروع موسيقي مُهدى لمغنية نيوزلندية، هو نص عن فكرة التطبيع بالأساس، ولكنه أيضاً عن صراع الهويات، عن الأرض والجندر.
تبدأ الرحلة في مقهى بتل أبيب، وهي المدينة المعروفة بـ “الفقاعة” بسبب عزلتها عما يجري حولها، وفي جلسة ضمت أربعة إشكنازيين آتين من قلب الهوية الإسرائيلية المركزية، يقترحون مشروعاً مشتركاً لغناء أغاني “لورد” بالعربية والعبرية. في البداية يترجم يوفال أغنية “تيم” للورد، ولكن مطوّعاً كلماتها لتصبح عن الوضع الحالي في فلسطين اليوم: “كالأطفال مسبقاً يحبسوننا / في أفنية معزولة يفصلوننا / سنقيم قصراً من خرائب الأكاذيب / وسنعرف أننا أصدقاء / لا سبب لأن أصدق أن جاري شيطان / إذن كفاية”.
لكن يوفال يسأل نفسه: “هل نحن أصدقاء فعلاً؟ هل سنتمكن من أن نكون أصدقاء؟ أمر واحد لا يمكن الجدال فيه، أننا معزولون جيداً. كبرت في حي يهودي بالقدس الشرقية، مستوطنة بالأحرى، أقيمت بعد 1967 على أرض محتلة. من حولي سكن آلاف الفلسطينيين، ومن بينهم سكان مخيم لاجئون، ومع هذا فلم ألتق أبداً بأي عربي من هذا البلد حتى خرجتُ للتجول بأوروبا وأنا في العشرينيات”.
هدهد عربي
من أجل ترجمة الأغاني الى العربية يلتقي يوفال بحنين مجدلي، مدرِّسة يافاوية يصفها بأنها “نشطة من أجل دولة ثنائية القومية، شابة جريئة، تستمتع بعرض رؤيتها على أوساط الفيسبوك العبرية المعادية.. هذه الشجاعة لا يمكن تفويتها”. يحدّثها عن لورد، المغنية القادمة من نيوزلندا، يكرر كلمة “نيوزلندا” فتطلب منه التوقف عن هذا. يحتار في سبب اعتراضها، ربما لأنها لم تشعر قط بحالة الزهو القومي، هي الممزقة بين الفلسطينية الحاملة للمواطنة الإسرائيلية، أو شيء آخر: “ربما يكون جرس الكلمتين (نيو زيلندا)، على شفتيّ يشابه في أذنها الشكل الذي قد أقول به “شخيم” (نابلس). لهذان المكانان أهداف بعيدة ومؤثرة بالنسبة للإسرائيلي المغامر. لورد هي هدهد نادر، حنين عربية يجدها أصدقاؤها اليهود إكزوتيكية بشكل كبير. قَرِفتْ من أن تكون موضوعاً رومانسياً”. في النهاية ترسل له ترجمة للأغاني يجدها غير ملائمة إيقاعياً لموسيقى لورد. عموماً فهي، مثلها مثل غيرها ممن ناقش معهن الفكرة، لم تبدِ حماساً كبيراً للمشاركة في المشروع.
إسرائيل كمرض مُعدٍ
يبدأ موضوع التطبيع في فرض نفسه على النص وعليه مع اقتراح صديقته عَنات عليه بأن يُشرك “ذلك الوسيم في مشروع ليلى”، فيكلّمها عن حركة “ضد التطبيع” التي كانت “تحتج في الأصل على أي نشاط يخلق انطباعاً زائفاً بالحياة الطبيعية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. أي مظهر كاذب للمساواة. يقول النشطاء إن ما يحدث ليس متجانساً، شعب يحتلّ شعباً آخر”. يواصل “مع الوقت، تطرفت الحركة (…) اليوم يعارضون أي نشاط مشترك بين الشعبين، بغض النظر عن الرسالة التي يمثلها. وأحياناً تدعو حملة ضد التطبيع حتى إلى عدم المشاركة مع هؤلاء الذين شاركوا في نشاطات من هذا القبيل. قبل سنتين، دعوا لمقاطعة “مشروع ليلى” لأن الفرقة كانت ستغني في بيروت مع فرقة “رد هات تشيلي بيبرز”، وكان هؤلاء قد عرضوا هنا (في إسرائيل) في جولة غنائية”.
تردّ عليه صديقته: “أي شعب! إسرائيل كمرض معدٍ”.
على مدار رحلته، يعرض يوفال فكرته على فلسطينيات كثيرات، منهن المغنيتان ميرا عوض ولونا أبو نصار، ولا يبدين حماساً. يحكي لصديقته دنيالا عن هذا، فتقول إن هذا يعني أن ليس هناك شريكاً للسلام، فيردّ: “أنا لا أتهمهم.. لم أكن ألعب مع الأطفال الأغنياء الذين يسرقون حقيبتي، لاسيما لو كان هذا سيشعرهم أنهم أفضل”.
هنا يبدأ يوفال في تغيير فكرته. كان يريد دويتو في البداية، وتنازل الآن، لأن “هذا المشروع قد يظهر بسهولة كنوع من تجميل المواضيع، وهي غير جميلة”. يقرّر أن تكون الأغاني العربية وحدها والأغاني العبرية وحدها. في موضع آخر يقول: “يكفينا كل الأميركيين والألمان رقيقو الأنفس يحاولون تحويل الصراع لمسرحية غنائية! ثمة جدار بيننا، وهذا الألبوم سيعكسه”.
صحيح أن يوفال إشكنازي يهودي، وصحيح أن هذا يوفر له مزايا عديدة، المزايا الأكبر داخل مجتمع من المستوطنين، ولكنه أيضاً يبدو واعياً بهذا، ويَلوح على طول النص توتر بين ما هو عليه وما يريد أن يكونه. عندما ترسل له حنين كلمات الأغاني بالعربية يتأمل في الخط العربي: “تطلعت للكلمات العربية على الشاشة، وتذكّرت كم كانت هذه الأبجدية تشعرني بالتهديد في طفولتي. كانت هذه لغة العدو، وحروفها المسنونة بدت لي مصنوعة من الخناجر والرماح.. على مدار السنوات علَّمت نفسي أن أقرأ هذه الحروف، ولكن شيئاً من الخوف التصق بي. وحتى الآن، كان عليّ أن أقنع نفسي أنني أنظر إلى كلمات لورد، وليس إلى فتوى ستبيح دمي”.
وضعك السياسي كمقموع
أثناء رحلة “البحث عن شريك” يسافر يوفال إلى مدينة “بيت لحم” بالضفة الغربية. هناك يقترح عليه صديقه حسام أن يكلّم تامر ليساعده في مشروعه الموسيقي. تامر فلسطيني من الداخل، ولكن يوفال لا يريد تامر، وإنما يريد فلسطينياً من بيت لحم، من الأراضي المحتلة العام 67. لم يقل هذا، “كيف يمكن أن تقول لشخص: اسمع، وضعك السياسي كمقموع هو التوابل المثيرة التي أريدها لألبومي!”.
يثير هذا سؤالاً: لماذا بحث يوفال عن النساء ولم يبحث عن الرجال لمشاركته المشروع . لهذا تفسير جندري وثقافي: “ما أزعجني أكثر من أي شيء هو فكرة أنني أقوم بتحويل فلسطين لموضوع جنسي. بُنَى القوة في البلد تذكرني أحياناً بالزوجين المتشاجرين. الزوجان عنيفان، ولكن إسرائيل لديها فائض من القوة البدنية وبيديها مفاتيح القبو. وهذه الوظيفة محفوظة عموماً للرجل. لم أتماهَ مع سلوك هذا (الرجل)، حاربت ضده، أردت بكل قوتي أن أنقذ الفتاة المأزومة، بكلمات أخرى، استبطنت الشفرة الجندرية”. ويضيف: “أردتُ أن أصنع ألبوماً مع النساء، أن أنسج قصص حب أكون فيها أنا الرجل”. “كان هذا خطراً. قرأت ما يكفي من التنظير ما بعد الاستعماري لمعرفة كم أن توجّهاً كهذا كئيب وجذوره مريضة. خلال مئات السنوات شفّر الغرب العالم العربي ونسب له صفات نسائية لمصلحة فانتازيا عن السيطرة. سأكون ملتزماً بشكل ما بالتخلص من هذا النموذج. سأكون ملتزماً بإجراء عملية جراحية لتغيير الجنس السياسي”.
سكارليت جوهانسون عندها غازات
يبدأ التفكير في مغني راب حيفاوي، رجل هذه المرة، تامر نافر، الذي سمع له أغنية بعنوان “سكارليت جوهانسون عندها غازات”. ويشرح العنوان: “عملت جوهانسون كعارضة لشركة “سودا ستريم” التي تنتج منتجاتها في الأراضي المحتلة. وركّز عليها نشطاء حركة (BDS)، الذين ينادون بالمقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات كوسيلة ضد الاحتلال، بهدف جعلها تعتزل الحملة. ظلت جوهانسون مخلصة لسودا ستريم، وحظت بهدية نافر الموسيقية”.
“أنا أميل لدعم BDS.. أرى العقوبات كأداة سلمية ومؤثرة في إمكانية خلق تغيير. أعجبت في ما مضى بإنجازات نشطائها الذين تسببوا في منع فنانين دوليين من الظهور في إسرائيل. الغضب بين المعجبين في هذه اللحظات يمدنا بلحظات نادرة، يشعر فيها أبناء شعبي المرفَّهون للحظة بعدم ارتياح للواقع المحلي”.
تاريخ الموسيقى الإسرائيلية
في النهاية، ينفتح الموسيقي الإسرائيلي على احتمال آخر لهويته. يبدأ في استرجاع التاريخ الموسيقي لإسرائيل: “ولدت الصهيونية في روسيا، وكانت الأغاني الصهيونية الأولى أغاني شعبية روسية. قبل بداية القرن العشرين بقليل، جلب المهاجرون الأوائل أنغام الكالينكا للبلد التي كانت روحها الموسيقية غير روسية في الواقع، بلد الدبكة والميجانا”. مع الوقت تحوّلت إسرائيل لسفيرة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، وحلت الثقافة الأميركية محل الروسية، “فنانو المينستريم الإسرائيليون الشباب وجدوا الإلهام في حركة (نوافا كانسيون) في أميركا الجنوبية، في (الشنسون) الفرنسي وفي النهاية في (الروك). فقط القلائل منهم اهتموا بالحيز المحيط كمصدر للإبداع. العرب هم الأعداء، سلالمهم الغريبة واستخدامهم للربع تون شكلت تهديداً”.
كل هذا كان على السطح. في الوقت نفسه ظهر اليهود الشرقيون في المشهد وصنعوا موسيقاهم التي تأثرت بأنواع لا نهائية من الموسيقى العربية والمتوسطية، من اليمن والمغرب إلى تركيا واليونان: “شكّل اليهود الشرقيون على الأقل نصف تعداد اليهود في إسرائيل، ورغم هذا أزيحت موسيقاهم بواسطة السلطة وافرة القوة. على مدار طفولتي، غابت الموسيقى الشرقية سواء عن الراديو أو محلات الشرائط.. كبرتُ وأنا أفهم أن هذه الشرائط لا تحوي إلا الزبالة. الموسيقى الحقيقية كانت غربية، بالضبط مثلما أن الثقافة الحقيقية هي فقط ثقافة الغرب”.
ينجذب يوفال شيئاً فشيئاً إلى فكرة أن تكون هناك في ألبومه معالجات لأغاني “لورد” وفق الأسلوب الموسيقي لليهود الشرقيين، مع معالجات بالعربية والعبرية لها، حيث سيغني تامر نافر بالعربية وهو يغني بالعبرية، بالإضافة لمعالجات بالييدشية وبالفرنسية، وبسائر اللغات التي تحدثها اليهود سابقاً. يقول: “ارتبطنا بالصفة الأكثر وضوحاً لبلدنا: أزمة هويتها”، ويمضي في مشروعه كما قرر فكرته في صيغتها الأخيرة.
هذه الرحلة تجري كلها من خلال عينيْ إسرائيلي يساري إشكنازي، يسعى للخروج من فقاعته والتعرّف على جماعات أخرى، ولكنه يعي أيضاً أن خروجه سيكون محدوداً، لكونه صاحب الامتيازات الأكبر في مجتمع قام أصلاً على الاستيطان والتهجير بإحلال جماعات محل جماعات.
عن السفير