محمد مخلوف
الروائي الفرنسي باتريك موديانو، الفائز بجائزة نوبل للآداب 2014، في بيانها، قالت لجنة الأكاديمية السويدية عن قرار منحه الجائزة إنه «استلهم من فن الذاكرة مصائر البشر الأكثر إبهاماً»، كما أن «العالم الذي يصوغه رائع وأعماله تتناغم في ما بينها». كما لم يتردد في وصفه بمقابلة مع التلفزيون السويدي بأنه «مارسيل بروست عصرنا»، بالإشارة إلى الروائي صاحب الرائعة الأدبية التي تحمل عنوان «البحث عن الزمن الضائع».
أكاديمية ستوكهولم أثارت مفاجأة حقيقية بمنحها جائزة نوبل للأدب هذا العام للروائي الفرنسي باتريك موديانو، الذي يبتعد بطبيعته عن الأضواء، ولا يظهر سوى قليلا على الشاشات. الروائي «المتحفّظ» بطبيعته والبالغ اليوم 69 عاماً والذي كان قد كتب كثيرا في أعماله عن العاصمة الفرنسية باريس عندما كانت في ظل الاحتلال النازي.
غمرة الفوز
ولم يتردد باتريك موديانو في القول في أحد تصريحاته في مؤتمر صحفي بمقر دار نشر «غاليمار»، التي تنشر أعماله عادة، وذلك عقب منحه الجائزة ما مفاده: «بدا الأمر لي بعيداً عن الواقع قليلا إذ عادت لي بعض ذكريات الطفولة. لقد تذكّرت البير كامو، مؤلف رواية «الغريب» وآخرين. ووجد من الغرابة أن يكون قد واجه كمرشح «كتاباً يثيرون إعجابه»، ثم أضاف: «علمت أنني كنت في عداد قائمة المرشحين، لكنني لم أكن انتظر الفوز أبداً».
وأبدى موديانو تساؤله، المشوب بشيء من الاستغراب، عن الأسباب التي دعت لجنة التحكيم إلى منحه الجائزة. ومما قاله: «أريد معرفة كيفية شرحهم لخيارهم وللأسباب التي دعتهم لاختياري». تجدر الإشارة أن موديانو أهدى الجائزة التي حصل عليها لحفيده السويدي، وصرّح بقوله : «لي رابطة مع السويد. إن حفيدي سويدي وقد أهديته هذه الجائزة فالسويد هي بلاده».
ذاكرة الطفولة
موديانو من مواليد عام 1945 في احدى ضواحي العاصمة باريس. عاش والده البير موديانو حياة اليتم وهو في الرابعة من عمره. كان مغامراً من أصول يهودية عاش في الإسكندرية وحمل الجنسية الإسبانية واستقرّ في باريس عم 1942، حيث عمل بائعا للأثاث والأشياء القديمة والتقى بلويزا كولبين ذات الأصول الفلاماندية التي كانت تعمل كممثلة وغدت فيما بعد والدة الروائي باتريك موديانو.
عاش الطفل باتريك موديانو لسنوات برعاية جدّيه من ناحية أمّه الذين كانا قد قدما إلى باريس لرعايته. وعاش مع أخيه الأصغر «رودي»، الذي وُلد عام 1947 حياة بائسة في طفولتهما، حيث عهدت بهما أمهما عند قيامها بجولة فنية لصديقة لها وجدت نفسها ذات يوم في السجن بسبب ارتكاب جرم السرقة ليجدا أنفسهما في أحد ملاجئ رعاية الأطفال.
تلك الطفولة بدون أب عمليا حيث لم يكن يراه على مدى سنوات سوى في فترات متباعدة جداً، وكانت أمه غائبة باستمرار تقريباً، كما كانت طفولته إذن في غاية البؤس وفقدان حنان الأهل. وزاد من مأساة المراهق باتريك موديانو رحيل أخيه الأصغر، ورفيق رحلة البؤس المشترك رودي بسبب إصابته بمرض سرطان الدم عندما كان في العاشرة من عمره.
كان ذلك الحدث المأساوي بمثابة الإعلان عن نهاية حياة الطفولة وبداية مغامرة مواجهة الحياة ومتطلبات العيش. لكن تلك الطفولة بقيت ماثلة في ذهن ذلك الذي غدا أحد كبار الروائيين الفرنسيين خلال العقود الأخيرة.
بل بقيت أحد مصادر الإلهام الكبرى في مجمل أعماله. وإذا كان ذلك الأمر ظاهراً في أعماله الروائية الأولى ابتداء من روايته التي تحمل عنوان «ساحة النجمة»، الصادرة عام 1967 فإن آثاره لم تبارح أعماله حتى الأخيرة منها.
ذاكرة المراهقة
الكثير من أعماله أهداها لأخيه الراحل او لشريكة حياته أو لبناته. ذلك باستثناء كتابه الأخير الذي يحمل عنوان «كي لا تضيع في الحي»، الذي ليس فيه أي إهداء.
وخلال سنوات المراهقة عرف أوّلا باتريك موديانو تجربة العيش في مدرسة داخلية للمراهقين، لكنه لم يستطع التأقلم مع النظام «شبه العسكري»، مما دفعه للهروب باستمرار. فكانت العقوبة هي تحويله إلى مؤسسة مدرسية أشبه بالسجن فعلا في منطقة سافوا العليا البعيدة جداً عن باريس. وهناك عرف رأسه القمل وعرف مع رفاقه الجوع.
وعندما غدا في سن الخامسة عشرة من عمره وجد عوناً كبيراً له لدى الشاعر والروائي ريمون كينو صاحب رواية «زازي في المترو»، وصديق والدته الذي ساعده في دراسته فحصل على الشهادة الثانوية عام 1962. وأبدى عندها طموحه في اكتساب ثروة كبيرة عبر ممارسة مهنة الكاتب، على غرار هونوريه دو بلزاك.
يبقى التوقف طويلاً عند فترة الطفولة في حياة باتريك موديانو الروائي بمثابة محطة أساسية تلقي الكثير من الضوء على مجمل نتاجه، كما على المواضيع التي ترددت في مختلف أعماله. ذلك إلى جانب اهتـــمامه بفترة الاحتلال النازي لبلاده أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية. هذا دون نسيان موضوع «الأب» والأبوّة الذي يبقى ذا أهمية مركزية في أعماله.
شاطئ الكتابة
تردد باتريك موديانو على العديد من المؤسسات التعليمية قبل وصوله إلى قسم الآداب في جامعة السوربون العريقة. لكنه كان يبغي من ذلك تأخير دعوته للخدمة العسكرية. وكان يداوم على مقاهي الحي اللاتيني وسان جيرمان أكثر من دوامه على الجامعة. هذا مع استقبال الشاعر والروائي ريمون كينو له مساء كل سبت. وعندما بلغ الثامنة عشرة من العمر، أي سن البلوغ، لم ير باتريك موديانو أبيه بعد ذلك أبداً.
كان اللقاء الذي جمع بين باتريك موديانو وريمون كينو بمثابة المنعطف الحقيقي في حياة الشاب. ذلك أن الروائي الشهير آنذاك أفسح المجال أمام باتريك موديانو لولوج المحافل الأدبية وعالم الأدب وحضور حفلات الاستقبال مثل تلك التي كانت تقيمها دار نشر «غاليمار»، ناشرة أعماله لاحقاً.
في مثل ذلك السياق صدرت عام 1976 الرواية الأولى لباتريك موديانو، التي تحمل عنوان «ساحة النجمة». ذلك بعد أن كان ريمون كينو قد قرأ المخطوطة قبل نشرها. كانت تلك هي روايته الأولى ولكنها كانت في الوقت نفسه بداية تكريس حياته للكتابة.
ومن النشاطات الأولى التي مارسها موديانو في الكتابة بعد روايته الأولى كانت كتابته لبعض الأغاني، وفي عام 1968 وتحديدا خلال «ثورة الطلبة» كان باتريك موديانو على حواجز المتظاهرين من طلبة وغيرهم في الحي اللاتيني، ولكن من موقع الصحفي في مجلّة «فوغ».
احتل باتريك موديانو مكانه بين الروائيين الفرنسيين المعاصرين، اعتبارا من صدور روايته الثالثة التي تحمل عنوان «شوارع الحزام» عام 1972 والتي نالت الجائزة الكبرى التي تمنحها الأكاديمية الفرنسية.
وتعاظمت شهرته مــــع صدور روايته الســادسة عام 1978 التي تحمل عنوان «شارع الحوانيت المظلمة»، وحيث نال عن أعماله نالت «الغونكور»، أكبر جائزة أدبية فرنسية. وأصبح صــــدور كل رواية من رواياته بعد ذلك بمثابة حدث أدبي كبير. كما عرف العديد منها الترجمة إلى اللغات الأجنبية الحيّة.
“كي لاتضيع في الحي” ثقب من الماضي في جدار الزمن
كل رواية من روايات باتريك مونديانو، حدث أدبي، وروايته الأخيرة «كي لا تضيع في الحي»، لا تشذّ عن هذه القاعدة، حيث انها صدرت في مطلع شهر أكتوبر، أي قبل أيام معدودة من قرار لجنة الجائزة منحها له.
في الرواية يفتح موديانو ثقباً من الماضي في جدار الزمن؛ الماضي الذي غرف منه دائما ما تجود به ذاكرته من مواضيع. وهكذا يجد القارئ نفسه مرّة جديدة في شوارع باريس حيث يقابل أصنافاً متنوعة من البشر الذين يرسمهم المؤلف في أجواء تشير إلى أن الأحداث ستجري في عالم ينبئ باستمرار أن جريمة يمكن أن تقع في كل لحظة.
تيه وصعلكة
الرواية لا تمتّ بصلة إلى عالم التحقيقات البوليسية وأجواء الجريمة، كما يريد المؤلف أن يوحي في الصفحات الأولى من العمل، ولكنها بالأحرى تحكي عن تيه وصعلكة كاتب عاد له ماضيه الذي دفعه بعيدا عن الحاضر. لقد غزا الماضي حياته واحتلّها لينتشر فيها شيئاً فشيئاً مثل «بقعة الزيت».
ولا يحتاج القارئ لعناء كبير كي يدرك مدى التشابه بين شخصية الكاتب في الرواية “جان داراغان” وشخصية المؤلف في الحياة. هذا خاصّة أن باتريك موديانو استلهم معظم أعماله الأدبية من الماضي الذي عاشه. وكان قد تجوّل طويلاً، بدون هدف، في شوارع باريس خلال سنوات شبابه. ويبدو بوضوح أن بطل الرواية لا خشية عليه من الضياع في المحيط الذي يعيش فيه، ولكن بالأحرى في تلافيف الذاكرة.
تبدأ الأحداث بتلقي الشخصية الرئيسية اتصالاً هاتفياً من أحدهم لا يعرفه يقوم بإخباره أنه عثر على مفكرته الشخصية التي تحتوي على أرقام هواتف معارفه وأصدقائه. من هنا بالتحديد تبدأ عملية الولوج في الموضوع المركزي في هذا العمل وهو وزن الماضي عندما يعود وكيف يعمل في الحاضر. إن جان داراغان عاش، كما يقدمه موديانو، طفولة فيها «الكثير من الخصوصية».
ومثل جميع ذكريات الطفولة هناك «ألغاز» تكمن في الكيفية التي ينظر فيها الطفل للعالم المحيط به ولأولئك المحيطين به. وهنا يذهب موديانو ، من خلال التحقيق، الذي يقوم به بطله جان داراغان في البحث عن عالم ذكريات الطفولة. ومن خلال هذا البحث والتقصّي يصل إلى اكتشاف ظاهرة أخرى هي أنه في أغلب الأحيان لا تتناظر ذكرياتك عن فترة محددة من حياتك مع الذكريات التي يحفظها الشهود عنك ..
وعن تلك الفترة بالتحديد. ومن خلال شخصية الكاتب في هذه الرواية يشرح باتريك موديانو أن الأدب هو في النهاية «متعة ذاتية»، ولكنها قد تنتهي في احتفالات فرح عام. ويدعو القارئ إلى اصطحاب الكاتب الذي يسكنه الماضي في رحلة بحافلة نقل عام «لكن دون معرفة الوجهة التي تقصدها»، وهكذا هي الحياة.
زمان ومكان
على مدى صفحات هذا العمل الروائي لا يجد القارئ أية دلالة محددة ودقيقة عن الفترة التي يعيش فيها الكاتب، بطل الرواية. هذا باستثناء إشارة سريعة في الصفحات الأخيرة.
حيث يتم تحديد القول إننا في عام 2012 من خلال الإشارة مروراً أن شخوصه تكتفي باستخدام قلم الحبر البسيط والشائع «بيك». كما أنه ليست هناك خارطة جغرافية واضحة تفصل بين الأمكنة ومسارح الأحداث. فقط يكتب المؤلف – عرَضاً – أسماء الشوارع التي يتيه فيها؛ حيث نعرف أننا في باريس.
عن صحيفة البيان