الكاتب الفرنسي دانيال بناك: من حقك كقارئ أن تصمت


عمار المأمون

القراءة عند الكاتب الفرنسي دانيال بِناك فعل مقدّس، لذلك وبصورة أقرب إلى الوصايا العشر يقدّم للقارئ بعد التحليل والتبيان وصاياه العشر، بل كما يسمّيها عشرة حقوق يمتلك القارئ حرية ممارستها أو عدم ممارستها، هذه الحقوق/ الوصايا تنتهي بـ”حق الصمت”، حق القارئ بأن لا يتحدث عمّا قرأ أو يعلّق عليه، بل يترك الكتاب يتحدث عن نفسه لقارئ جديد، هذه التجربة يتحدث عنها بناك في كتابه الذي صدر مؤخرا بترجمة عربيّة ليوسف الحمادة تحت عنوان “متعة القراءة”، عن دار الساقي في لبنان.

في كتاب “متعة القراءة”، لدانيال بناك، يجد القارئ نفسه عبر 185 صفحة في رحلة بين الكتب سواء تلك التي تقدمها الأكاديمية أو المدرسة، أو تلك التي كان أهلنا يقرؤونها لنا ليلا قبل النوم، لتبدو رحلة القراءة ومتعتها أقرب إلى تجربة عجائبية تبدأ من الطفولة لتنتهي بالقراءة المحترفة.
يبدأ بناك بانتقاد مفهوم القراءة السائد بوصفه صيغة تربوية، انطلاقا من الأسرة التي تحوّل القراءة إلى نوع من الواجب مقابل التلفاز بوصفه مصدر المتعة التي يتم الحرمان منها إذا لم يتم فعل القراءة، يتحدث بعدها بصوت الصبي الصغير الذي يكتشف متعة تهجئة الكلمات ثم انغماسه قبل النوم في القصص التي يرويها الأبوان، ليتحوّل بعدها فعل القراءة إلى حالة ذاتية حميمية لدى الطفل، الذي تكون علاقته مع الكتاب مرتبطة بالدهشة وحب الاكتشاف، حتى تنتهي بوصفها صيغة مؤسساتية.
يتوجه بناك بعد ذلك بالنقد إلى المؤسسة التعليمية، والأسلوب المتبع في التعامل مع الكتب بوصفها مقررات منهجية وتحويلها إلى نوع من أنواع التعذيب التربوي، ليبدو الكتاب حينها كائنا مرعبا أو حتى وحشا، بحيث يبتعد الكتاب عن الصورة المكوّنة عنه في المراحل المبكرة التي تشابه المتعة السريّة. كما لا يستثني بِناك وسائل الإعلام والتلفاز والسينما بوصفها تتعدّى على وقت القراءة، بحيث تسحب متعة التخييل من الكتاب على حساب قدرة الصوت والصورة على سرد الحكاية.
يتحدث بناك عن ثالوث “أنا- النص- القارئ” وذلك في معرض ذكره لأهمية القراءة بصوت عال، إذ يعمد الأهل في البداية إلى القراءة لأطفالهم، ثم يقوم بذلك بعض المعلمين في المدرسة، بحيث تصبح القراءة هنا أقرب إلى هدية، والقارئ أقرب إلى بحار يأخذ المستمعين بين عباب الكتب، ويحوّل جلافتها المطبوعة في ذهنهم إلى تجارب حسية وخياليّة تفعّل طاقاتها السحريّة. ليتناول بعدها بناك بالنقد الأساتذة المهتمين بالوظيفة التربوية والعلامات وتصحيح النصوص وشروح الكتاب، ناسين متعة القراءة في حدّ ذاتها، أي متعة الاكتشاف والتورّط في فعل القراءة بوصفه مقدسا يشبه الصلاة، إذ يتحرر أثناءه القارئ من كل القيود ويفعّل خياله في مواجهة مع الصفحات.
“متعة القراء” كتاب يخلق الدهشة التي تدفع القارئ إلى البحث أكثر
يحاول بناك أن يفسر الإحباط الذي يصيب الكثيرين نتيجة علاقتهم السيئة مع الكتاب، عبر تقديم النصائح بصورة غير مباشرة للمدرسين في الأكادميات، من خلال توضيح آلية التغلغل في عقول الجيل الشاب الذي يتبع الموضة ويفضل السينما على القراءة حسب تعبيره، كي تحوّل الكتاب وقراءته إلى مغامرة لاكتشاف المجهول، وهذا ما يتضح من بنية كتاب “متعة القراءة” المليء بالمرجعيات والأسماء الأدبية الكبرى، التي يحاول بناك أن يحثّ القارئ العادي على قراءتها كدوستويفسكي وماركيز وزوسكيند وبلزاك.
يحاول بناك أن يخلق الدهشة التي تدفع القارئ للبحث أكثر، كما يستعرض بعض تقنيات القراءة، كحفظ المقاطع الأولى من الكتاب، أو كتابة الفقرات المفضلة، لتتحول تجربة القراءة إلى تجربة إنسانية تتجاوز حدود الصفحات. الفصل الرابع والأخير من الكتاب يحوي عشرة حقوق يقدمها بناك للقارئ، كالحق في تجاوز الصفحات، وحق قراءة ما يحلو له من كتب، فالقراءة في النهاية فعل ذاتي، لا يمكن لمؤسسة أو جهة أو شخص أن يفرضها أو يشرحها، أو حتى يزيد على الكتاب كلمة أو جملة، وهنا تأتي قيمة الوصية الأخيرة “الحق في أن تصمت” التي ينهي بها بناك الكتاب بكلمات موجهة للبالغين، لا الطلاب أو اليافعين الذين تحدث عنهم سابقا إذ يقول “البالغون القلائل الذين أعطوني كتبا لأقرأها تلاشوا دائما أمام الكتب، وتجنبوا أن يسألوني إن كنت قد فهمت، هؤلاء طبعا كنت أكلّمهم عن قراءاتي”، وكأنه بصورة ما يشير إلى أن الكلام عن الكتب لا يتمّ إلا مع أولئك الذين يقدّرونها، أولئك القرّاء الحقيقيون لا جمهور الكتب.
يذكر أن نتاج بِناك متنوع بين الروايات وقصص الأطفال والقصص المصوّرة، أما كتابة متعة القراءة فمكتوب بلغة سهلة، ونابعة من تأملاته وملاحظاته وعمله كمدرس، إلا أن هذا الكتاب لا يقارن بمؤلفات كتّاب تناولوا موضوع الكتاب والقراءة كرولان بات في لذة النص، أو مؤلفات ألبرتو مانغويل أو العملاق خورخي بورخيس، إذ يبدو كتاب بناك تربويا بسيطا، لا يقدم الكثير لقارئ محترف لكنه أٌقرب إلى وسيلة لتحفيز أولئك الذين يمتلكون علاقة متوترة مع الكتب، في سبيل العودة إلى بداهة الطفولة الأولى، المرتبطة بسحر الحكاية والعالم الخيالي الذي ترسمه.
عن صحيفة العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *