الرواية العربية وتمثّـل التجربة الصوفية


د. حورية الظل*

خاص- ( ثقافات ) بالاتفاق مع مجلة (الفجيرة الثقافية)

في خضم التجريب الذي انخرط فيه الروائيون العرب، باحثين من خلاله عن منافذ جديدة تحررهم من تقليد الغرب، وفي سعيهم الحثيث إلى تأكيد هويتهم وتأصيل الرواية العربية وتحقيق خصوصيتها وفرادتها، وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام تراث صوفي هائل هم ورثته، فحاولوا تطويعه لرؤاهم، فتمثلوا التجربة الصوفية في أعمالهم الإبداعية واغترفوا من ينابيع التصوف الثرة، ليصبح بذلك البعد الصوفي وجهاً من وجوه الرواية الجديدة ومن مظاهر شعريتها. ويمكن اعتبار العودة للنهل من التراث الصوفي صحوة إبداعية حيث أخضع المبدع العربي ما يرد من الغرب لتجربته وخصوصيته.
ومن الروائيين العرب الذين استثمروا التراث الصوفي في أعمالهم نجد نجيب محفوظ وجمال الغيطاني ويحيى القيسي وعبد الإله بن عرفة وسعد القرش وإدوار الخراط وعبد الحكيم قاسم وعمّار علي حسن وغيرهم كثير.
وسنقارب في هذه الدراسة نموذجين روائيين هما “رحلة ابن فطومة” لنجيب محفوظ و”مخلوقات الأشواق الطائرة” لإدوار الخراط، وسنركز على حضور التجربة الصوفية وأوجه استثمارها في الروايتين ؟ وهل استطاع الكاتبان تمثل هذه التجربة الروحية التي تُعاش أكثر مما تقال، وهل حقّقا خصوصية روايتيهما ليُسهما بالنتيجة في تأصيل الرواية العربية والوصول بها إلى العالمية؟ 
رحلة ابن فطومة لنجيب محفوظ، أو رحلة الخلاص
يبدو الأثر الروحي واضحاً في التجربة الروائية لنجيب محفوظ؛ فيندر أن يخلو أي عمل من أعماله من هذا الأثر، ويشكّل التصوف بكل أحواله ومقاماته وظواهره مادة خام استثمرها في الكثير من رواياته ومنها على سبيل المثال لا الحصر “اللص والكلاب”، و”الحرافيش”، و”الشحاذ”، و”ثرثرة فوق النيل”، و”ميرامار” وغيرها من الروايات، و نتلمس في أدب نجيب محفوظ حيرة ًوبحثاً عن الخلاص المتمثل في الحب والمعرفة والقيم، وهو لم يغيّب العقل في أعماله، كما جعل للتصوف دوراً في المجتمع، فهو الواقي له من الخواء الروحي.
وسنتناول رواية “رحلة ابن فطومة” لنقف على أوجه تَمَثّـل الكاتب للتراث الصوفي والتناص معه.
تطالعنا مقولات الصوفية منذ عتبات الرواية الأولى، فيحيل لقب “ابن فطومة” إلى أصل الإنسان في المفهوم الصوفي، حيث ينسب الطفل لأمه وليس لأبيه، لأن نسب الابن إلى الأم يعد عند بعض المتصوفة هو النسب الصحيح، وحسب ابن عربي “الإنسان ابن أمه، فهو لأبيه ابن فراش.. وهو ابن أمه حقيقة”.
والرواية تحكي عن “قنديل العنابي” الشهير بابن فطومة الذي ترك دياره في رحلة روحية طويلة، رداً على فشله في الزواج من محبوبته، ولغضبه وسخطه على المسلمين لأنهم أساؤوا فهم الإسلام، وسوءُ الفهم هذا أوصل دار الإسلام إلى الحضيض، فسطّر هدفاً لرحلته، وهو الحصول على الدواء الشافي لوطنه المتمثل في البحث عن المعرفة، فيقول مخاطباً أمه وشيخه اللذين اعترضا رحلته: ” ليس هذا بالكثير على طالب الحكمة، أريدُ أن أعرف وأن أرجع إلى وطنى بالدواء الشافي” .
ويعبر عن موقفه الغاضب من حال دار الإسلام من خلال حوار دار بينه وبين شيخه: 
” إذا كان الإسلام كما تقول، فلماذا تزدحم الطرقات بالفقراء والجهلاء؟:
فأجابه شيخه بأسى:
“الإسلام اليوم قابع في الجوامع لا يتعداها إلى الخارج”.
ولمّا يغادر ابن فطومة دياره يصل إلى دار المشرق حيث البدائية، وتجبّر الحاكم خلافاً لمبادئ الإسلام العظيمة التي يستحضرها ابن فطومة لكنه يستدرك لما يقول متحسراً: “ديننا عظيم وحياتنا وثنية”، ثم يواصل رحلة بحثه الرمزية ليصل إلى دار الحيرة التي تعيش ازدهاراً ورخاء، لكن الملك يعتبر نفسه إلهاً، فيقارن ابن فطومة بينه وبين الوالي في ديار المسلمين حيث لا فرق بينهما، فالأخير أيضاً متجبّر رغم مبادئ الإسلام الداعية إلى العدل، فيغادرها أيضا كأي باحث عن المعرفة والكمال، لأن الديار التي زارها لم تُشبع تعطشه للمعرفة، فيصل إلى دار “الأمان” التي ترمز إلى الشيوعية فتبدو له مالكة للكمال ويتصور بأن فيها خلاصه، وفيها سيصل للسر الذي يمكنه من امتلاك الإكسير الذي سيشفي وطنه، لكنه يكتشف بأنها دار مادية لا روح فيها، كما تخفي تاريخاً من البطش والدم، فيستحضر دار الإسلام التي لا تقل دموية عنها رغم أن الإسلام السمح يحرم سفك الدماء، فيصل إلى قناعة مفادها أن عليه الوصول إلى غايته وهي دار الجبل، فيواصل رحلته إلى المحطة الأخيرة “دار الغروب” وفيها يتم التفرغ لتطهير الذات من كل الشوائب، استعداداً للرحلة إلى دار الجبل أو دار الخلاص وهي للمختارين فقط، و تحيل إلى الكمال والعدل والنور والمعرفة، وسفر ابن فطومة الذي تواصل لمدة شهر يوصله لأبوابها فتبدو قبابها العالية وتنتهي الرواية. 
إن أعطاب المدن التي زارها ابن فطومة ونواقصها كلها موجودة في دار الإسلام بوجه أو بآخر، فمرر نجيب محفوظ من خلال ما رآه وخبره ابن فطومة بهذه الديار انتقاداته للواقع الإسلامي الذي ماتت فيه الأخلاق والقيم : “انظر يا قنديل وطنك دار الإسلام فماذا تجد به؟.. حاكم مستبد يحكم بهواه فأين الأساس الأخلاقي؟ ورجال دين يطوّعون الدين لخدمته فأين الأساس الأخلاقي؟، وشعب لا يفكر إلا في لقمته فأين الأساس الأخلاقي؟”.
إن التخلي عن الأخلاق في المجتمع الإسلامي هو سبب الانتكاسات التي أصابته في مقتل، ويقترح الكاتب من خلال رواية “رحلة ابن فطومة” بديلاً ودواءً ناجعاً لكل المشاكل التي يتخبط فيها المجتمع الإسلامي، يتمثل بالتصوف لأن أساسه الأخلاق، وهو بذلك روح الإسلام حيث يسمو بالروح فيطهرها ويقربها من الله. والعودة إلى التصوف هي التي ستمكن من إعادة فهم الإسلام على الوجه الصحيح فيتحقق الازدهار للإسلام والمسلمين. 
لقد تحكمت المرجعية الصوفية في البناء الجمالي والدلالي للرواية، فأغنى الكاتب البنية السردية وقام بتكثيفها من خلال اللغة الفياضة والشاعرية للصوفية، كما حقق انسجام السرد ووحدته، والمعجم الصوفي حقق للرواية شعريتها حيث رقت اللغة وشفت، كوصف ابن فطومة لبعض ما شاهده في بلاد المشرق: “فكأن الأرض والسماء، وما بينهما قد شاركت فيه منتشية بسكر الغناء ووجد العاشقين”. كما نجد التناص مع بعض الشخصيات الصوفية في الرواية، فيستدعي نجيب محفوظ شخصية ابن عربي فيما يتعلق بحب ابن فطومة لمحبوبته وأيضا ترحاله كما فعل ابن عربي، يقول ابن فطومة حين يدعوه الداعي للرحلة: “إنني مستغرق بالحب ولا شأن لي بالزمن لا أهمية الآن للرحلة ولا للمهمة ولو بقيت لآخر العمر”، ثم يسجن كما حصل للحلاج.
إن النص الروائي ينطوي على عدة مضمرات دلالية حيث استوحى نجيب محفوظ، من خلال ما خبره ابن فطومة في طريقه من مشاق وصعاب، تجربة السالك وما يمر منه من أحوال ومقامات للوصول. وتصوف ابن فطومة تصوف إيجابي، لأنه يراهن على تحقيق قيم إنسانية عليا، كقيم الخير والحق والعدل. والرواية تميط اللثام عن علاقة المتصوف بمحيطه، فالمتصوف يشارك في الفعل، ويساهم في التغيير، وابن فطومة اختار رحلة طويلة في طريق التصوف من أجل إيجاد الدواء الشافي لدار الإسلام وإخراجها من المستنقع الذي تتخبط فيه.
من خلال ما سبق يتضح بما لا يدع مجالاً للشك بإن نجيب محفوظ استطاع تمثل قيم التصوف في روايته، وفكرتها تقوم على بحث الإنسان عن الخلاص والوصول إلى المطلق والنور، ومرر من خلالها انتقاداته للواقع كما تحققت للنص الروائي جماليته وشعريته الخاصة.
الأنثى جسد صوفي في رواية مخلوقات الأشواق الطائرة لإدوار الخراط
تتكشف المرأة في الكتابات الصوفية كذات نورانية، والشوق والحنين إليها من الأمور التي شدت المتصوف ليفتتن بها في غيابها، فتم استحضارها من خلال الخيال الخلّاق كحلم، وحبّها ترجمة للعشق الإلهي وتعد جسداً مقدساً وكاملاً. كما أن التوحّد الجسدي بالمرأة في المفهوم الصوفي يعد حنيناً وتوقاً للفناء في الحضرة الإلهية، ومقاربة المرأة عند المتصوفة جمالياً وروحياً جاء أيضاً رداً على الامتهان الذي لحق بها في بعض الكتابات الفقهية.
فهل تمكن إدوار الخراط من خلال تناوله للجسد الأنثوي في روايته “مخلوقات الأشواق الطائرة” من استثمار مقولات الصوفية حول هذا الجسد؟، وهل نهج نهجهم في محاولة رد الاعتبار له لأنه امتُهن عبر التاريخ ولا يزال إلى الآن؟ وما الوسائط التعبيرية التي وظفها لتحقيق ذلك؟
نجد السارد في رواية “مخلوقات الأشواق الطائرة” يحاول أن يحقق من خلال جسد الأنثى ذاته، فيغيب نتيجة ذلك عن الواقع وينتقل إلى النجوى الداخلية والشطح الصوفي من أجل التعبير عن الانخطاف الروحي والانبهار أمام جمال الجسد الذي يشكل له عذاباً مقيماً: “عيون الحب النجلاء تهاجمني وتطعنني لا تطرف، لا تتوقف، كان رخام جسدك الخمري الحار في سمرة الغروب معجوناً بالحب والألم الذي لا يريم، جماله قهري شامخ، وما أطوعه بين ذراعي، ما أنعم لدونته”.
إن وصف الجسد الأنثوي في هذا المقطع النصي ينزاح عن اللغة الجامدة والمكرسة، ذات الدلالة المباشرة، ليتغنى بعشقه للأنثى من خلال لغة تحتفظ ببراءتها ولم تلوث بالاستعمالات اليومية، إنها لغة تكثف وجود هذا الجسد وتصور عشقه في إطلاقيته، فتنتقل اللغة بذلك من المدلول المباشر إلى المدلول غير المباشر، تاركة بذلك فراغاً دلالياً، يصبح القارئ مكلفاً بملئه.
إن اللغة تصور عشق الجسد في زمنه الأول، زمن لا يتقيد بالماضي المنقضي، وهي حالة وجدٍ دائمة يحياها السارد. وهو تناول يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعشق الصوفي الذي يرى جمال المرأة تجلّ للاهوت في الناسوت، فيرتقي بالعشق وبالمرأة المعشوقة إلى زمن ثابت وساكن وأبدي: “قلت لها: أعرف وجهك أنت في لحظة ذروة العشق، وأنت تأتين، على شفرة النشوة الحادة النهائية، هذا الجمال في الموت، هذا الجمال في القتل، هذا الجمال على آخر المتعة، هو، هو، نفسه، جمال القناع، جمال الأبد، نظرة الحياد الكامل، كأنه إنكار كامل”. إنه سعي إلى تكثيف موضوعة الوجود، وجعل اللحظة متوقفة ومعلقة خارج الزمان والمكان، فتصبح اللحظة والجمال متأبدان في ثباتهما. 
ونتيجة ما يتصف به الجسد من كمال يغشي الرؤية أمام عيني السارد، يغيب المكان والزمان تبعاً لذلك أمام الجمال الأنثوي المدمر: ” الجسم سكران بوجد غير عاقل، أما الرثاثة، فقد كانت تتلاشى، لا توجد لم تكن موجودة أصلاً، أمام جمال خاص وحرارة مدمرة”.. لا يبقى أمام السارد إلا كمال الجسد وجماله، فيتموقع خارج المكان والزمان، ويعانق السكر الصوفي المتولد عن لحظة العشق التي يعيشها. وبهذا يكون المؤلف قد لجأ إلى الكتابات الصوفية من أجل توظيف تقنياتها وأنساقها التعبيرية لأجل التعبير بطريقة خاصة عن عشقه للأنثى، فنجد المعجم الصوفي يخترق المقطع الحكائي مثل (سكران، وجد). ويخترق النفس الصوفي بالنتيجة الخط العام للرواية، حيث في إمكاننا تسميتها رواية صوفية.
إن الكاتب يغني تجربته مع الجسد ويثريها بمصطلحات المتصوفة حتى لا تبقى أسيرة المبتذل والمألوف والبورنوغرافي: “فيصيرها وجوداً أسمى” وهو إلزام للنص الروائي بنوع جديد من التناول للجسد الأنثوي. 
وقد جاء توق السارد إلى تحقيق الواحدية على مستوى الجسد الأنثوي، كرد على عجزه عن تحقيقها على مستوى ذاته، فداخله تتجسد اثنينية الجسد والروح، ولا يستطيع ملامسة المطلق نتيجة ذلك، وهذا ما يجعل حالة الشوق تتلبسه باستمرار وتسيطر على وجدانه فيعيش الشوق المستمر بقوله: “مشتاق على الدوام من غير أشواق، حبي طلب دائم ومخافة انقطاع بلا هوادة”، ومن هنا فإن سعي المؤلف دائم إلى الكمال وخوف من عدم الوصول. 
وبهذا يكون السارد قد حاول من خلال النص الروائي أن يعبر عن مواجيده وأشواقه دون أن يستطيع الوصول إلى المطلق، لأن اللغة مهما انزاحت عن العادي والمبتذل، فإنها تظل بالنسبة إلى التجارب الروحية قاصرة عن تبليغ المقصود منها، لتظل مجاهدة المؤلف واستشرافه الخارق ولوعته المتجددة لعالم المطلق من خلال عشقه للجسد الأنثوي في كماله قائمة، لقد اختار الجسد الأنثوي ليعبر من خلاله عن مواجيده الروحية، وسما بالجنس ليصبح طقساً روحياً يوصل إلى الفناء والتجلي.
وبذلك يسمو بالمرأة فتصبح مطلق المرأة، أو بعبارة أخرى المطلق الذي يرنو إلى ملامسته. فيصبح فضاء الجسد الأنثوي صورة عن العالم بأسره: “حب الجسد بالمطلق، أعني جسدك هنا ليس إلا جسد العالم، جسد كل الرجال، جسد كل النساء، جسد كل الأشياء، جسد السماء نفسها”.
لقد أسس إدوار الخراط من خلال تناوله للجسد الأنثوي لكتابة تستجلي حقيقة الوجود واقتحام المطلق في تعذره وغموضه، ويحقق بذلك مفارقة تتمثل في استحضاره الأنثى كموصل للمطلق. 
وقد عبر الكاتب من خلال هذا الجسد عن أشواقه ومواجيده الروحية وهو تناول لم تألفه الرواية التقليدية التي اعتادت نقل ما ظهر من الجسد بطبيعته، واعتبار المتخفي بالثياب مسكوتاً عنه، وهذا يؤكد ضرب هذا المسكوت عنه في صميمه. وتم تناول الجسد الأنثوي في الرواية من خلال استثمار مقولات الصوفية حول المرأة وبالنتيجة ردّ الاعتبار لهذا الجسد الذي أضحى مُشيّئا وسلعة من السلع في وصلات الإعلانات وغيرها.
يتأكد من خلال النموذجين الروائيين – بما لا يدع مجالاً للشك- بأن الرواية العربية استطاعت الاغتراف من ينابيع التصوف وأخضعتها لخصوصيتها، كما تحققت للنص شعريته وكثافته الترميزية، وأضحى التصوف رافداً من روافد التجديد في الرواية العربية، وأيضا حققت من خلاله أصالتها وعالميتها أيضاً.
أما على مستوى التلقي فإن الإبداع الذي يغترف من الروحانيات يجعل المتلقي ينخرط في تجربة المبدع الروحية ويصبح عنصراً فاعلا في الإبداع فيدرك كنه الجمال المحمل به النص ويتمثله. 
__________
ناقدة وأكاديمية من المغرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *