*جورج ضرغام
حين طرحتُ سؤالاً على الشاعر الراحل حلمي سالم: ما حقيقة الخلاف بين أمل دنقل ورجاء النقاش؟ أجاب: «دعنا نتكلم عن جمال الراحلين، فهذا أفضل حديث». فقلت نتكلم كما تريد، وكان الراحل حلمي سالم سهّل الاقتناع إذا حاججته بالرأي الصحيح فيعترف بصحته دون جدال، فهذه شيمة الرجل.
عرض سالم الحكاية، أنه لا خلاف بين دنقل والنقاش، كل ما حدث أنهما كانا يجلسان في مقهى «ريش» وسط القاهرة، فسأل دنقل رجاء النقاش: أيهما أفضل قصيدتي «سرحان لا يسلم مفاتيح القدس» أم قصيدة محمود درويش «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا»؟ فأجاب النقاش: قصيدة درويش هي الأفضل فنياً، وحدث خلاف بينهما تطور إلى مشادّة، سبب الواقعة إذن كان قصيدة محمود درويش، التي كتبها في عام 1972 وضمّها إلى ديوانه «أحبك أو لا أحبك»، وبطلها الشاب المقدسي المهاجر سرحان بشارة سرحان، الذي اتُهم بقتل السيناتور الأمريكي روبرت كيندي، الشقيق الأصغر لجون كيندي عام 1968. سرحان من داخل زنزانته بسجن «سوليداد» في كاليفورنيا، كان حاضراً في سجال دار بين الشاعرين الكبيرين على ورق القصيدة، كانت قصيدة درويش «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا» عملاً فنياً جديداً، أضاف بعداً حداثياً أكثر تأملاً وأقل قافية، خارجاً عن النمط الشعري الستيني الذي كان متبعاً.
أما قصيدة دنقل «سرحان لا يسلم مفاتيح القدس» فكتبت في عام 1975 وضمّها إلى ديوانه «العهد الآتي» واتسمت بأسلوب دنقل الشعري المعتاد، الدمج بين المباشرة والقناع الشعري الذي يستعيره من شخصيات سياسية أو تاريخية.
عند مجيء درويش إلى القاهرة، وتقديم رجاء النقاش له في كتابه «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» عام 1969 جمعته صداقات مع كثير من الأدباء والمثقفين المصريين، على رأسهم دنقل والأبنودي ونجيب محفوظ، وكان لويس عوض قد استكتبه في صحيفة «الأهرام» القاهرية، وكان يعمل بها مستشاراً منذ عام 1962، ويوماً قابله أمل دنقل فسأله عن الكتابة في «الأهرام»، فأجابه لويس عوض بإجابة بعيدة تماماً عن طلبه قائلاً: «سأجعل درويش يكتب عموداً تحت صورة كبيرة له فهو أوسم منك». غضب دنقل وانصرف وحكى للأبنودي ما حدث، فرد الأبنودي: «أنت أخناتون» ومن يومها حين يأتي حديث عارض عن أمل دنقل ترى من ينعته دائماً بأخناتون.
أمل لم يصطدم بدرويش، وبالمثل لم يفعل درويش، فالخلاف صنعه آخرون كما فعل لويس عوض بعدم لباقة ستحفظ له تهكمه على شاعر رائد، ليسقط لويس عوض درجة فيصعدها دنقل في قلوب عشاقه ومريديه، فقيمة الإنسان بما تصنعه يداه ويبدعه عقله، وليس بملامح وجهه كما كان يظن لويس عوض، وكان أمل من أولئك الصانعين المجددين في شكل القصيدة العربية ومضمونها، رغم قلة إنتاجه الشعري، وربما كانت كلمة لويس عوض هذه سبباً وراء انصرافه عن فكرة الصحافة بل ورفضها، فظل طيلة حياته موظفاً في مصلحة الجمارك من الإسكندرية إلى السويس.
درويش خصّ دنقل بموضعين كرّمه فيهما، الأول في قصيدته «بيت من الشعر.. بيت الجنوبي» كتبها في ذكراه، وجاءت في ديوان «لا تعتذر عما فعلت» عام 2003، والثاني في لقاء قدمته «الشركة الفلسطينية للإعلام والاتصالات عام 2004»، وكان بعنوان «رحلة في عالم محمود درويش»، حين سئل دويش عن أمل قال: «للأسف أمل لم يكتمل مشروعه الشعري بسبب وفاته المبكرة، لكنه كتب في غرفة مرضه أجمل ما كُتب في الشعر العربي الحديث».
_______
*الخليج الثقافي