*عبد الحليم أبو دقر
خاص- ( ثقافات )
دخلت فتاة إلى دكان «سلطان الكآبة» لبيع الساعات بشارع الرضا في وسط البلد، تتفرج على الساعات المعروضة ب (البترينات) الزجاجية. تمنى «سلطان الكآبة» لو أنه يجد طريقة يتعرف فيها إليها، كانت صبية سمراء طويلة بشعرٍ ناعم مسترسل على كتفيها ووجه جذاب، فتاة في عز تفتحها، متوهجة مثل عود من الزنبق.
قدّر «سلطان الكآبة» أنها في منتصف دراستها الجامعية، قال لنفسه: «لو أصادقها تنتهي كل مشاكلي». كثيراً ما اعتقد «سلطان الكآبة» أنه لو امتلك صديقة لما أمضى نهاره يتشكّى من تراجع الأسواق، من ضريبة المبيعات، من قانون المالكين والمستأجرين، من كل الإزعاجات التي يسببها له أخوه «منفضة الغبار الحديثة»، و كل الهجمات التي يتعرض لها من «الربع الفارغ» الذي تضخم فجأة، وصار يريد افتراسه.
قال «سلطان الكآبة» لنفسه: «لو توافق هذه الآنسة على مصادقتي لن يهزمني أحد، معها سأتحدى العالم». اقترب منها بخفة رغم ترهل جسده والكرش الذي نبت له فجأة، فحالة الكآبة التي سيطرت عليه في الفترة الماضية جعلتة لا يواظب على النادي الصحي. همس «سلطان الكآبة» للفتاة: «أقدر أساعدك؟ ما هي الساعة التي تفكرين في شرائها؟ محتارة غير قادرة على حسم أمرك؟ وضع طبيعي. لا تقلقي، سببه كثرة الساعات المعروضة”.
وقبل أن يسترسل «سلطان الكآبة» ويعطي الفتاة فكرة عن طريقة العرض الصحيحة التي تجعل الزبون يركز بدل أن تشتت ذهنه -وهي الطريقة التي يعرضون فيها الساعات في سويسرا، طبعا الساعات الثمينة جدا من «الرولكس» وطالع، ولا نستطيع تطبيقها هنا في عمّان وفي وسط البلد- قاطعته: «الصحيح أنني لا أفكر في شراء أي ساعة، حتى إنني لا أدري لماذا دخلت إلى هنا، آسفة إذا أزعجتك». وهمّت بالمغادرة .
– لا، أبدا، تفضلي أضَيْفِك فنجان قهوة.. كيف قهوتك؟
قالت له الفتاة: «هربت اليوم من دار أهلي، ولا مكان عندي أذهب إليه، لا أدري أين سأبيت الليلة”.
ترقرقت الدموع في عينيها، وقبل أن تنهمر التقطها «سلطان الكآبة»: «تعالي، تعالي». ولامس هنا كتفها للمرة الأولى وهو يدعوها للجلوس على كرسي بجانبه خلف طاولة مكتبه..
اتصل «سلطان الكآبة» بأخيه «منفضة الغبار الحديثة»، وطلب منه الالتحاق الفوري بالدكان.
أخذ موعدا مع «أبو ساعة « في كفتيريا بجبل الحسين قريبة من داره، حتى يترك الفتاة مع «أبو ساعة»، ويحضر سيارته من أمام باب الدار.
في الكفتريا بجبل الحسين ظل «أبو ساعة» يسأل الفتاة، يقول لها: «وجهي أصفر؟»، ترد عليه: «لا، عادي، ما شاء الله عنك». فيَهمّ بعرض كفيه المرهقين أمامها، فقد أمضى ليلة أمس وهو يأكل في كفيه ويقرط في أصابعه، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة.. عاد يقول للفتاة: «وجهي أصفر ومتورم، أنا أعرف، رأيته قبل لحظات في المرآة، لا تجامليني، لا تحاولي أن تخففي عني، فأنا لم أنم ليلة أمس ولا دقيقة، كلما أغمض عيني تقفز أمامي أشلاء الأطفال والنساء، أغرق بدماء الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في حق أهلنا بغزة وفي الضفة الغربية، إسرائيل تستخدم أحدث الأسلحة المحرمة دوليا للفتك بأهلنا، وكل العالم يتفرج. لم أعد قادرا على الاحتمال، طفح الكيل طفح. طول الليل وأنا أقود طائرة حربية لا يمكن رصدها بأحدث الرادارات التى تمتلكها إسرائيل، أفجرها في تل أبييب. تفجرتُ فيهم ليلة أمس أكثر من ألف مرة”.
حركت الفتاة رأسها بمعنى أن ليس لديها ما تقوله، ثم همست: «تأخر صاحبك».
– سيصل حالا، داره أول المخيم. سأعاقب الإسرائيلين على أفعالهم، مستحيل أظل ساكتاً، ذبحوا الناس الله لا يوفقهم، الله يحكّمني فيهم. كم قتلتُ منهم ليلة أمس، سالت دماؤهم أنهارا. عند الفجر قمت توضأت، صلّيت ، ونمت.
ظلت الفتاة تنظر في وجه «أبو ساعة» من دون أن تتفوة بكلمة. قال لها «أبو ساعة»: «اسمعي، خسارة كل هذا الجمال ، هذا الشباب يُدنَّس، يُمتَهن، الله يهديك ويبعث لك ابن الحلال.. تخلصي من كل ما أنت فيه تصيرين عضوا فاعلا في المجتمع، تصيرين.. أنا أحذرك من كل الطريق التي أنت فيها الآن، ومن كل أولاد الحرام الذين يستغلون وضعك من أمثال سلطا…». هنا أعلن «سلطان الكآبة» عن وصوله: «أنا جاهز، لنغادر”.
قال ل «أبو ساعة»: «نريد أن نشرب فنجان قهوة عندكَ في الدار..”.
أدخلهما «أبو ساعة» من الباب المستقل لغرفة الضيوف حتى لا ترى زوجته شيئا، جلس معهما لشرب القهوة وتركهما..
عند انتصاف الليل غادر «سلطان الكآبة» إلى داره، فهو يعيش مع أمه المريضة، لا بد أن ينام في الدار، استأذن «سلطان الكآبة» «أبو ساعة» قبل أن يغادر: «تبيت الفتاة في غرفة الضيوف، وتقلع في الصباح». وافق «أبو ساعة».
أول ما بدأت زوجة «أبو ساعة» تطلق صافرات شخيرها غير المنتظم، أقلع «أبو ساعة» من غرفة نومه هابطا في غرفة الضيوف، أمضى وقتا عند الفتاة، ثم عاد إلى زوجته، أغفى بجانبها متدثرا بشخيرها الذي رقّ وانتظم، صار عميقا بسحبات متواصلة أطول وأهدأ من السحبات السابقة..
في الصباح يفاجأ «أبو ساعة» بزيارة من قِبل مجموعة من التجار الإسرائيليين، قالوا له: «اعذرنا على قدومنا من غير موعد، تورطنا ببضاعة أنت الوحيد القادر على تصريفها، فيها أرباح ممتازة، أنت يا (أبو ساعة) أفضل من يستحقه، ظلّلنا نفكر لمن نحولها؟ لمن؟ حولناها لك، إذا لم يكن عندك مانع».
– لا أبدا، أنا جاهز. لحظة، الدار داركم..
صعد راكضا للطابق «الفوقاني» يغير بيجامته، وجد زوجته تقف له على رأس الدرج:
«اخرجهم من داري فورا أو أنزلُ أنا أطردهم».
همّت بالنزول إليهم، دفعها «أبو ساعة» إلى غرفة النوم. صرخت و «أبو ساعة» يشحطها، يرميها داخل غرفة النوم: «انقلعوا من داري. اطردهم يا حقير، طول الليل يا جبان تفجر حالك فيهم، وفي الصباح صفقات يا..».
– كل شيء منفصل، هذا شغل، إذا لم آخذه أنا يأخذه غيري. يا حمارة تريدينني أن أعبر عن صفطة دولارات مرمية على الارض ولا أرفعها، سيأخذها غيري.
صعد الإسرائيليون إلى فوق، أجبروا «أبو ساعة» على إخراج زوجته من غرفة النوم. صارت زوجة «أبو ساعة» تدفع بهم باتجاه الدرج، تطلب منهم المغادرة، وعندما أطلت على الصالون رأت فتاة نعسانة تتثاءب على إحدى الكنبات الوثيرة في قميص نوم يكشف عن مفاتنها. ساد الصمت وقالت الفتاة ل «أبو ساعة»: «اعطني حسابي حتى أمشي، تأخرت على أمي.. (سلطان الكآبة) حاسَبني، أنت لم تحاسبني».
صرخت زوجة «أبو ساعة»: «في بيتي، في قميص نومي، طلّقني، طلّقني».
عادت زوجة «أبو ساعة» إلى غرفة نومها، غيرت ملابسها، خرجت تحمل بيدها حقيبة صغيرة، قالت لـ «أبوساعة»: «نلتقي في المحكمة». قال «أبو ساعة» للإسرائيليين: «هذه المرة لو لعقت حذائي هي وكل أهلها، لو وسّطت كل البلد، لن أرجعها».
ظهرت الفتاة من جديد بعد أن ارتدت ثيابها تقول لـ «أبو ساعة»: «اعطني حسابي، اعطني حقي”.
قال لها «أبو ساعة»: «أيّ حساب؟! أنتِ خربت بيتي». وهجم عليها.
عصمها الإسرائيليون من «أبو ساعة». قال لها أحدهم: «ابقي معنا، نغني، نرقص، نحتفل في إتمام الصفقة مع (أبو ساعة)». قالت الفتاة ل «أبو ساعة»: «إذا لم تدفع لي حسابي ستندم». وقالت للإسرائيليين: «أما أنتم..»، و فتحت حقيبتها، أخرجت منها «أحمر شفاه»، رسمت على الجدار أمامهم خطا طويلا عريضا. نقرت عليه أكثر من مرة. انهال «أبو ساعة» على الجدار يريد إزالة الخط الأحمر، فتوسع وانتفش مثل الإسفنجة.. كلما انهمك «أبو ساعة» في إزالة الخط الأحمر أكثر، تجلى الخط الأحمر أكثر.
______
*قاص من الأردن