آن تايلر: حياة الناس اليومية مصدر إلهامي


إعداد- نهى حوّا
لا يتطلب تأليف رواية عناء كبيراً من الكاتبة الأميركية الحائزة على جائزة البوليتزر، آن تايلر، ولا تنتابها نوبات جزع أو توتر لاجتراح الأفكار، بل جلّ ما تفعله هو إبقاء نوافذ مكتبها الواقع في الطابق الثاني من دارها في مدينة بلتيمور مفتوحة، لكي تسمع هدير الحياة اليومية في الخارج، فتأتيها الأفكار وحدها.
والروائية الشاهدة على أسلوب حياة الطبقة الوسطى الأميركية بكوامنها وتوتراتها، تقول في مقابلة أجرتها معها صحيفة “أوبزرفر” البريطانية، بمناسبة إطلاق أحدث رواياتها «بكرة الخيط الأزرق»، إنها تستمع إلى أحاديث الناس وثرثراتهم اليومية، وتراقب تحديدا العمال بصلابتهم والطريقة التي يتحدثون بها ويعملون، ثم تأتيها الأفكار من تلقاء نفسها، وهي تصف ما يحدث لها باقتباس الأبيات التالية من قصيدة للشاعر ريتشارد ويلبر:
“كالملكة التي تجلس واثقة بوجود كرسي في المكان،أو كالجنرال الذي يرفع يده فتصله نظارات الميدان، فلتخط خطوات واثقة نحو الفراغ في ذهنك،وشيء ما سيأتيك”.

واقعية
لكن تايلر، مع ذلك، تبقى واقعية، وتعترف بقدراتها المحدودة، فتقول: “أبدأ كل كتاب وفي اعتقادي أنه سيكون مختلفاً عما سبقه، لكنه ليس كذلك.. وأشعر بأنني لن أكون تولستوي أبدا، هناك فقط عالمي الصغير الذي ينبغي أن أتعامل معه”.
وتصف تايلر رواياتها بأنها: “لا تحوي حكايات غامضة عن جرائم أو تشويق أو أحداث جرت في العالم، بل تعتمد على الوقت لنسج الحبكات، مثل: إنجاب طفل، زواج أو وفاة، فقط الأشياء العادية التي تحدث من حولنا”. أما أسعد لحظاتها في التأليف، فتظهر مع انتصاف الكتاب عندما تتحدث إليها الشخصيات، وربما تقوم إحداها بإطلاق مزحة لم تخطر على بالها من قبل، فتضحك.

حاضر دائم
موضوعها المفضل الحياة الأسرية، بكل ما تحويه من حب وخيبات أمل وحالات ضياع، إلى جانب كيفية صنع الأساطير في قصص تلك العائلات، وهذه الموضوعات موجودة في كل رواياتها العشرين، بما في ذلك «بكرة الخيط الأزرق»، التي تدور أحداثها في الحي الأنيق في بالتيمور حيث تعيش تايلر.
وأحياء بالتيمور موضوعها المفضل منذ أن انتقلت إلى المدينة عام 1967 مع زوجها، وتقول: «كنت أعيش حينها بين نساء عجائز في حي عتيق وبال للطبقة الوسطى العليا، واعتقدت أساساً أن هذا الحي آلة عابرة للزمن، فبدأت أكتب عنه».
ماض وبيت
ولهذا السبب تعد روايتها الأخيرة مكاناً مألوفا للقراء: أسرة من الطبقة الوسطى لديها أسرارها وأسباب توترها قبل أن يغير الموت المفاجئ دينامية العلاقة داخلها إلى الأبد، فتعيد الرواية القارئ إلى ماضي بيت العائلة. وهذه الحبكة المألوفة بشخصياتها كانت السبب وراء رد الفعل اللاذع لبعض النقاد، مثل ميتشيكو كاكوتاني في صحيفة «نيويورك تايمز» الذي كتب يقول:
إنها «تعيد تدوير وجهة نظر كل موضوع وحبكة رئيسية، وتفعل ذلك بأكثر الأساليب سطحية التي يمكن تخيلها». لكن هناك آخرين أثار الكتاب إعجابهم، مثل اليكس كلارك في صحيفة «غارديان»، الذي أشاد بتلك القوة المستنبطة «من أعماق لا تهدأ تحت سطح خال من الشقوق».

وقبل روايتها «بكرة الخيط الأزرق»، قالت تايلر إنها تريد كتابة ملحمة عائلية لا تنتهي على مدى أجيال عدة، بإمكان أولادها طباعتها بعد وفاتها. والبعض ظن أن هذا سيكون كتابها الأخير، لكنها نفت الأمر: «لم أقل إنني لن أكتب مجددا، بل إن هذا الكتاب لن تكون له نهاية، وهو ما يدل على فارق دقيق». وربما أن الأمر سيستغرق منها بعض الوقت لإعادة تعبئة ذهنها بالأفكار.
وبالنسبة لعنوان أحدث رواياتها «بكرة الخيط الأزرق»، تقول تايلر إنها كانت ترقع قميص والدها حين علمت بوفاة والدتها، وعندما فتحت خزانة الثياب سقطت بين يديها بكرة من الخيط الأزرق: «وبدا الأمر كما لو أن أمي سلمتني البكرة». لكن تايلر تؤكد أنها لا ترى نفسها شخصا روحانيا أو متديناً، وليس لديها أي اهتمام بإيجاد معنى للحياة.
وعندما تتوفى شخصية في رواية «البكرة»، فإن ما يحدث أشبه بـ «النهاية». وترى تايلر أن هذا ما ينبغي أن تكون عليه الوفاة: «جزء مني يمضي في ابتداع السماوات، ويفكر في أنني أستطيع رؤية زوجي وأهلي مجددا وأحد إخوتي الذي توفي. لكن ليس لدي إحساس بأنني سأتمكن من ذلك».

كان والدها ووالدتها من «القاطنين مع جماعة “الكويكرز” المتدينة، وانتقلا إلى جبال الأبالاش في ولاية كارولينا الشمالية عندما كانت في السادسة من عمرها. وتايلر تلقت تعليمها في المنزل على يد والدتها، حتى عمر 11 سنة، لكنها لا تؤيد التدريس المنزلي، وتقول: “إذا كانت والدتك من يعلمك، ولم تفهم شيئا مما تقوله لك، فإنها تأخذ الأمر على نحو شخصي”.
ويذهلها كيف تمضي الأسر في شؤونها وقوة التحمل لدى أفرادها،وتتساءل: “كم مرة نسبب الأذى لبعضنا داخل العائلة ونبتعد، ثم نعود معا ونحاول مجددا. انه أمر مؤثر ويعطي الأمل”.

وعائلتها كانت مقربة من بعضها، على الرغم من أن أمها كانت متقلبة المزاج، وقد اعتمدت تايلر أكثر على ثبات والدها، وشخصية الذكور في روايتها تتفاوت بين أرباب عائلة صلبين كالصخر وأبناء يسهل كسرهم، وهي تقول: “كان لدي أب وإخوة طيبون. ولا أشعر بأنني أبذل جهداً عند تأليف شخصية رجل”.
تتحدث عن زواجها من الطبيب النفساني ومؤلف الكتب إيراني الأصل تاغي مدرسي، وتقول: كان مختلفا بالكامل عني، وعندما طلب مني الزواج، فكرت «لماذا لا أتزوجه؟» وتبين لاحقاً انه الشخص المناسب. واجه الزوجان أحداثا تتسم بالعنصرية، وروايتها «الحفر إلى أميركا» الصادرة عام 2006 تصور تلك الصدامات الثقافية.

وكانت تايلر تترجم كتب زوجها إلى الإنجليزية، ويعملان معا على وضع اللمسات الأخيرة على النص، تقول: «كانت تجربة غنية. وأنا أفتقدها الآن. يقول الجميع إن أزواجهم أو زوجاتهم كانوا أفضل أصدقائهم. وهذه المقولة كليشيه، لكنها صحيحة».
«بكرة الخيط الأزرق» تفكك الأساطير التي تحيكها الأسر عن نفسها
تحكي رواية «بكرة الخيط الأزرق» قصة عائلة من الطبقة الوسطى على مدى أربعة أجيال، بكوامنها وأسرارها.
وتدور أحداث القصة في أحد أحياء بالتيمور، والشخصيتان الأساسيتان: «رد» و«آبي» ويتشانك، متعهد وعاملة اجتماعية، مع أطفالهما الأربعة. ومن الجدين اللذين وصلا إلى بالتيمور في العشرينيات من القرن الفائت، إلى أحفاد «آبي» و«رد» في القرن الواحد والعشرين، هناك أربعة أجيال تتكشف حياتها داخل منزل العائلة المترامي الأطراف، «منزل ويتشانك».
ونعلم في الرواية أن «آبي» وقعت في حب «رد» عام 1959، وهي تبدأ وصفها لقصة غرامها بزوجها دوما على الشكل التالي: «كان الأصيل جميلا أصفر وأخضر، مع لفحات من النسيم»، وعائلة «ويتشانك» من تلك الأسر التي تشع بالطابع الجماعي: نوع من الخصوصية الذي تحسد عليه، ويصعب تعريفه. لكنها مثل كل العائلات، فإن القصص التي يسردها أفرادها عن أنفسهم تكشف فقط جانبا من الصورة.

الآن أولادهما الأربعة، آماندا وجيني ودني وستم، يتعين عليهم التفكير في طريقة لمساعدتهما بعد أن أصبحا في منتصف العمر. هل بإمكانهما البقاء في منزل العائلة الكبير؟
والأب المحب والمتذمر لا يزال يعمل متعهد بناء، يدير شركته، والمهنة متأصلة في دمه، لأن «منزل ويتشانك» المترامي الأطراف بناه والده «جونيور» لعائلة أخرى، قبل أن يتمكن من الحصول عليه من أصحابه الأصليين، خلال فترة الكساد العظيم.

جذور
نجاح «جونيور» في الاستيلاء على المنزل واحدة من القصص التي تسردها عائلة ويتشانك مرارا وتكرار عن نفسها. لكن العائلة ليست ميلودرامية ولو أنها تشعر بتميزها، وتصفها تايلر على الشكل التالي:
“لم يكن هناك أي شيء رائع في عائلة ويتشانك. لم يكن أي منهم مشهورا، أو بإمكانه أن يزعم امتلاكه ذكاء استثنائيا. ومن ناحية المظهر، لم يكن هناك ما هو فوق العادي، لكن مثل معظم العائلات، تخيلوا أنفسهم أنهم مميزون”.

وما أن تبدأ الرواية حتى نلتقي بأفرادها وهم يضحكون ويحتفلون، لكن هناك أيضا مشاعر غيرة وخيبات أمل وأسرار تجري حراستها بعناية.
وتعمل الروائية على تفكيك أساطير العائلة، ويتبين أن أبسط القصص العائلية تحمل جذوراً أكثر تعقيدا ونتائج غير متوقعة. فقصص العائلة تروى لنا مرارا وتكرار، لكن ماذا عن القصص التي يجري طمسها؟ وهذا الكتاب مليء بالمفاجآت، وتايلر تجعل القارئ يحب الشخصية لتقتلها بالكامل بعد ذلك، فهكذا برأيها تجري الأمور في الحياة. وربما لهذا السبب انتقدها البعض واتهمها بافتقارها إلى رقة المشاعر.
وفيما تبدو وحدة العائلة أسطورة مركزية لدى «آبي»، يوجد في الرواية ما يشير إلى أن زوجها «رد» لم يكن خيارها الأول.
وهذه الدينامية المتنافرة تبدأ من الفصل الأول. لكن رغم بروز أحداث متفجرة من الماضي أحياناً، إلا أن تأثيرها يجري كبته تحت الهدوء الظاهر للسرد، كما يحدث عندما نكتشف أن أحد الأولاد كان يتيماً، ويبقى جاهلا هوية أمه فيما هي تجلس حول مائدة طعام العائلة، في مشهد مليء بالرموز، يشكل «قوة تخرج من الأعماق غير المستقرة تحت سطح غير مشقق» وفقا لصحيفة «غارديان».
وفي الرواية حكايات مؤثرة عن المراحل الأولى للخرف وإنكاره، وعن اليتم، والترمل، والانتماء.

ويختلف النقاد في تقييمهم لروايات تايلر، فيقول جون بلايدس: إن ما تقدمه يعد “حلولاً منومة للمشكلات الأكثر حزنا وحيرة في الحياة”، فيما تعلق صحيفة نيويورك تايمز بالقول: «لدى تايلر مهارة في تحويل أوضاع هزلية إلى أمر أعمق وأكثر تأثيرا وموهبتها هي في اللعب ضد الحلم الأميركي”.
أما مطبوعة أو ماغازين، فتكتب: “تايلر تفكك بحنان الخيوط المتشابكة لثلاثة أجيال، ثم تعيد ربطها بتفصيل دقيق ومذهل. وبحلول نهاية الرواية نعلم حقيقة مختلفة كليا من تلك التي بدأنا بها. وليس لأن الجميع يكذب، بل فقط لأن كل شيء، وطريقة رؤيتنا للعالم وفهمنا لكيفية عمله، يتغير بالتحولات الحميمية المتراكمة لحياتنا اليومية”.
بقي أن نعلم أن روايتها «بكرة الخيط الأزرق» اختيرت أفضل كتاب لموقع أمازون عن شهر فبراير الماضي.

بطاقة
ولدت الروائية الأميركية آن تايلر في مينيابوليس بمينيسوتا عام 1941. كان والدها ووالدتها من «القاطنين مع جماعة «الكويكرز» المتدينة، وانتقلا إلى ولاية كارولينا الشمالية عندما كانت تايلر في السادسة من عمرها. درست اللغة الروسية في جامعة كولومبيا، وعملت في مكتبة في عمل رتيب، فأدركت أنها بحاجة إلى المزيد من الأجنحة للانطلاق، ونشرت روايتها الأولى «إذا ما جاء الصباح يوماً» بعمر 23 عاماً.

ألفت عشرين رواية، وفازت روايتها الحادية عشرة ” دروس في التنفس” الصادرة عام 1988 بجائزة بوليتزر. وروايتها العاشرة “السائح العرضي” الصادرة عام 1985 تحولت إلى فيلم سينمائي، أما أحدث رواياتها فهي “بكرة الخيط الأزرق”.

عن صحيفة البيان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *