نصان.. الضوء ينسحب تدريجيًا


*أسماء يس

خاص- ( ثقافات )

الحريق

أعترفُ أنني إذا نجوت هذه المرة، فلن يكون لي قِبل بمواجهة رغبتي العنيفة في تفجير الجميع وتحويلهم إلى أشلاء حمراء، أو على الأقل، وذلك في حال هدأت بشكل طبيعي دون تأثير من المهدئات التي يصفها لي أحد أصدقائي ناصحًا، فسيكون عليَّ قطع ألسنتهم وتدبيسها على أبواب بيوتهم بدبّاسة الورق الضخمة، كي لا يتفوهوا بالمزيد من الأكاذيب التي تزيد المشهد سوءًا.
سأستمر، راقدةً لفترة طويلة، أشمُّ الدخان الناجم عن الحرائق، لن أموت اختناقًا؛ ستنقذني أيادٍ مجهولة، سوف تجرني سحلاً على الأرض بعيدًا عن الموت، وتُخلِف في ظهري جروحًا وسحجات ستأخذ وقتًا طويلاً في الشفاء، متجاهلين، وأنا معهم، سقوط خرطوم الإطفاء الضخم على رأس أحد رجال الإنقاذ، الذي فُك غطاء رأسه البلاستيكي الأصفر وتدلى على رقبته من الخلف، فسقط على الأرض بقطع كبير في رأسه فصل جزءًا من مخه عن بقيتها، وتعامل معه زملاؤه على أنه والأرض سواء؛ دعسوه مرارًا في جريهم المرتبك، خوفًا أن يسقط المبنى الضخم عليهم لو انتظروا أكثر من ذلك.
ربما، لو نجوت، سأعبر المجرى الملاحي عومًا، متفادية السفن الكبيرة التي تزحم المياه وهي تحمل أعلامًا متنوعة الألوان، تلك السفن التي تُثقل كواهلها كل أنواع الأسلحة القادمة من الغرب إلى الشرق. سأفكر قليلاً، قبل أن أنط فوق إحداها، وأسرق آلي حديث موديل السنة الحالية، أعود به إلى الشاطئ، وأفرغ رصاصاته اللا معدودة في صدور كل ما يقابلونني، حتى لو علت الابتسامة السمجة المتكررة وجوههم. ثم أرجع إلى البيت، أجرُّ أقدامي أو تجرني هي، لا يبدو أن هناك فرقًا، أنفض عن رأسي تراب السكة، وأرمي ملابسي الملوثة بالدم في طبق بلاستيكي أزرق تشقق جلده، وربما يسرب المياه على الأرض. لكن لا مشكلة، سأصب فيه مساحيق الغسيل، والصابون، وحتى معجون الحلاقة الموجود لزوم الحلاقة السريعة لشعر الساقين والعانة؛ إن عنّت للجسد مضاجعة غريب وقت هدنة سريعة بين معركة والتي تليها؛ ففي فترة الاشتباكات يصبح صوت ماكينة نزع الشعر الحريمية مشابهًا لصوت خطوات الدبابات على الأرض المتروسة بالأنقاض وهو سبب كافٍ لاستبدالها بماكينة حلاقة رجالية بدائية تفي بالغرض، في فترة الاشتباكات تصبح المضاجعة عملاً من أعمال الهدنة.
المهم أني سأضع على الملابس كل ما يصنع رغوة، وأجلس على البلاط عارية مقرفصة في هدوء، ظهري إلى الحائط، أقصى ما أقدر عليه أن أقلبها بخشبة طويلة،حتى يزول الدم كله عنها. أربت في حنو على نهدين فقدا الكثير من ربربتهما مؤخرًا، وأطمئنُ نفسي؛ لقد عبرت مشكلات أكبر من ذلك بكثير، مشكلة الأغنيات الحماسية المبتذلة التي تتسلل إلى أذني قادمة من الشبابيك أنهيتها بسماعات تصب في أذني تسجيلات لقصف البيوت ولصافرات المدرعات التي توتر الجو وتحاول إرعابنا، أيتها الحرب نحن مرعوبون بالفعل لكننا ندعي القوة، أيتها الحرب نحن لا نشعر بالخوف إطلاقًا، الحرب مرتع للادعاءات والهواجس، وأنا واحدة ممن تتقلب عليهم الآراء بخصوص الموت عدة مرات يوميًّا. أما مشكلة الكوابيس فعالجت نفسي منها؛ ببساطة توقفت عن النوم. لذلك فكابوس الوقوع من فوق السلالم المتكسرة لم يزرني منذ شهور، وكابوس الغرق حين يهاجم البحر البيوت الصغيرة على الشاطيء ويبتلعها توقف أيضًا، وحده كابوس البقاء على قيد الحياة وحيدة تمامًا في المدينة بعد أن تتهدم جدرانها ويقتل الجميع فيها الجميع مازال عصيًّا، يجثم على صدري في الصحو، يضغط على قلبي ككلّابتين من صلب، يهاجمني كلما نظرت في المرآة.
___________
الضوء ينسحب تدريجيًا
الضوء ينسحب تدريجيًا، ثم تدريجيًا يعود، والصوت كذلك، تتباعد أصوات الجالسين حولي، ثم تعلو فجأة تعليقًا على ما يجري في التليفزيون يثرثرون، ويثرثرون، ولا يوجهون إليَّ حديثًا، ربما كانوا يوجهون إليَّ الحديث في تلك اللحظات التي ينسحب فيها الصوت، لا أدري!
إحداهن، ربما تفتقد الحنان، لأن زوجها استبدل بها صديقة مشتركة، كانت تجلس محتضنةً دمية قطنية ضخمة على شكل رجل، وكل فترة تنقلها من ذراع إلى الأخرى، للحظة حدقت في الرجل الدمية وبدا لي أنه يبتسم، لا.. بالفعل كان يبتسم، حتى أنه غمز لي بعين، فابتسمت واتسعت ابتسامتي، وأخذت أضحك وأنا أشير إليه بإصبع ثقيل مهتز، نظروا إلىَّ في استغراب، ثم نظروا إلى التليفزيون؛ لم يكن هناك ما يضحك، الآلاف يشيعون موتى- في تلك الفترة كان الموتى يسقطون صرعى الرصاص يوميًا- وهم يهتفون ويصرخون مندِّدين، ثم تنهمر عليهم الطلقات النارية، من كل حدب وصوب، فيجرون في كل اتجاه، وهم يحملون النعوش الثقلى بما فيها من جثث، يلقون بالنعوش في مداخل العمارات، ويختبئون من الموت، نظرت في الاتجاه ذاته، لم تحرِّك الصورة فيَّ ساكنًا، فأكملت ضحكي، وتقلصت معدتي فتنبهت أني أشعر بالجوع، وحاولت تذكر متى أكلت آخر مرة، فتحت فمي لأخبرهم أني أشعر بالجوع، وكدت أقترح أن ننزل إلى المطعم القريب ونأكل حد التخمة، ثم تراجعت؛ فقدت شهيتي في اللحظة التي فكَّرت فيها بالكلام، لكزني أحدهم في كتفي “مش هتفوقي بقا؟” بدت لمسة يده لكتفي كضربة مطرقة، نظرت إليه طويلاً في اندهاش حقيقي، وأخبرته في هدوء تام: “أنا فايقة اهو!”.
فجأةً بدت أصواتهم كوطاويط تتخبَّط في جدران كهف، لم يكونوا وطاويط، ولم يكن ثمة كهف، كنت في الكهف وحدي، وفيه رأيتهم يتخذون اللون الأسود، يقتربون من شاشة التلفزيون حتى كادوا يلتصقون بها، ويولولون، كانوا يلطمون خدودهم بأجنحة الوطواط، ويقولون كلامًا لا أذكر منه الآن إلا أن “تلك النعوش ستتحول لاحقًا إلى لافتات زرقاء تعلق على نواصي الشوارع”. إحداهن أشارت إليَّ من مكانها، مستغربةً أني ما زلت على حالي، نظرت إلى نفسي لأتأكد أنني لم أتحول إلى وطواط، لكني كنتُ كما أنا، يدين باردتين، وعينين زجاجيتين، وقدمين مربوطتين في الأرض بقالبي طوب.
وعندما عَلَت أصواتهم أكثر، فتح رجل الدمية عيونه عن آخرها وبدأ يشعر بالخوف، فتحرك في بطء، وجاء ليجلس إلى جواري، وهو ينظر إليهم في ذعر، ربَّتُّ عليه كي أطمئنه، قلت: “متخافش، شوية وهيرجعوا زي الأول” فهدأ، وفتح سحَّابًا سحريًا في جانبه وأخرج علبة من البسكويت المستدير، وأخذ يطعمني في فمي، تناوب الملح والسكر على طعم البسكويت في فمي، لكنني رغم الجوع شبعت سريعًا، فشكرته، وطلبت منه أن يحضر لي كوبًا من الماء، فتحرك في اتجاه المطبخ وهو يتمايل يمينًا ويسارًا.
انسحب الضوء مرة أخرى، فأغلقت عينيَّ وفتحتهما، فوجدتهم جالسين على الأرائك مستندين إلى الحيطان، يبدو عليهم التعب والإرهاق، وكانت الشاشة سوداء، والصوت يأتي من مصدر مجهول، بذلت جهدًا في معرفة مصدر الصوت، لكنني لم أستطع إذ انسحب الصوت ثانية، وبت لا أدري إن كنت في مكاني فوق الكنبة، أم نزلت وجلست بجوارهم على أريكة من الأرائك الخضراء المرصوصة بلا ترتيب، على أرضية الغرفة التي اتسعت فجأة عن أمس، وامتلأت حوائطها بلوحات شيطانية، ولوحات لبشر عارين تمامًا، في أوضاع مختلفة، وفي كل اللوحات كانوا يعومون في سائل لزج وعفن، كانت رائحته العفنة ظاهرة تمامًا لأنفي، وأدركت أن الشم هو الحاسة الوحيدة التي ظلت صاحية فيَّ، فمددت شفتيَّ ولثمت أنفي امتنانًا، وقبل أن يعاود الضوء انسحابه، أومأت للرجل الدمية شكرًا على كوب الماء فأومأَ.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *